Friday, August 3. 2007
من المأثورات النبوية التي يعرفها طلاب الكليات الدينية قصة معاذ بن جبل عندما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام قاضيا إلي اليمن. فقد سأله كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟
قال: بكتاب الله. قال فإن لم تجد ؟ قال فبسنة رسول الله. قال فإن لم تجد ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو, أي لا أقصر. فأثني الرسول علي معاذ ويروي أنه قال: الحمد لله الذي وفق رسول الله إلي ما يرضي الله ورسوله.
ومن المعروف أن النصوص التي يرجع إليها الفقهاء محدودة ولكن وقائع الحياة ومستجدات كل عصر لا تنتهي, ومن أجل ذلك فإن إنزال النصوص علي وقائع الحياة يتطلب عقلا راجحا وأفقا واسعا وفقها واعيا. وقد أدرك علماء الأمة وفقهاؤها ذلك جيدا منذ الصدر الأول للإسلام, وأعملوا عقولهم في فهم النصوص من جانب, وفي إنزالها علي وقائع الحياة من جانب آخر. والتمكن من هذين الجانبين يعد أمرا ضروريا للتوصل إلي رأي فقهي سديد.
وعلي هذا الأساس انفتح الباب واسعا أمام المجتهدين الذين قاموا بمهمتهم علي خير وجه. ونظرا لأن العقول تتفاوت والأفهام تختلف في إدراكها وتصوراتها كان من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في الآراء بين المجتهدين علي مر العصور. ومن هنا نشأت مذاهب الفقه الإسلامي المتعددة. وكان في ذلك تيسير كبير علي جمهور المسلمين, وانتشرت بينهم العبارة المشهورة اختلافهم رحمة.
وليس هناك حرج في أن يتخير المرء ما تطمئن إليه نفسه من الآراء المتعددة للفقهاء في المسألة الواحدة. فالأمر في النهاية متروك لهذا الاطمئنان القلبي الذي عبر عنه الرسول الكريم بقوله: استفت قلبك.
وهكذا كان مبدأ الاجتهاد فتحا جديدا في تاريخ التشريع الإسلامي, وهذا ما جعل المفكر الإسلامي المعروف محمد إقبال يصف الاجتهاد بأنه مبدأ الحركة في الإسلام. وتشجيعا من الإسلام علي ممارسة الاجتهاد في المجتمع الإسلامي قرر النبي صلي الله عليه وسلم أن المجتهد إذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد وإذا أصاب فله أجران.
والاجتهاد في الإسلام مبدأ مستمر علي مدي الأزمان, وليس خاصا بفترة زمنية معينة, والفقهاء في كل العصور مطالبون بالاجتهاد دون توقف. وإذا كان صاحب الشريعة قد فتح لنا باب الاجتهاد علي مصراعيه فليس من حق أحد كائنا من كان أن يغلق هذا الباب. فإغلاقه يعد إغلاقا لرحمة الله, وإغلاقا للعقول ومصادرة علي حقها في الفهم والتفكير. وهذا يعني ترك الأمور للتقليد: تقليد الأسلاف فيما توصلوا إليه من فهم كان ملائما تماما لعصورهم وملبيا لحاجاتهم.
ومن الحقائق التي لا مراء فيها أن الحياة متجددة, فالتجديد سنة الحياة وقانون الوجود, ولا يوجد شئ يبقي علي حاله, فحتي خلايا جسم الإنسان تتجدد بصفة مستمرة. وقد أراد الإسلام لنا أن نمارس الاجتهاد لنواكب متغيرات كل عصر. ونحن نعلم أن الإمام الشافعي عندما جاء إلي مصر واستقر فيها بدأ يعيد النظر في الآراء والفتاوي التي قال بها حينما كان في بغداد. لأن الفتوي يجب أن تراعي أعراف كل قطر من الأقطار. وفي هذا المعني يقول الإمام ابن القيم في كتابة أعلام الموقعين: من أفتي الناس بمجرد النقول من الكتب علي اختلاف أعرافهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته علي الدين.
ولكننا ـ للأسف الشديد ـ تركنا الاجتهاد ولجأنا للتقليد في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي الاجتهاد من أي وقت مضي. والملاحظ أنه حتي يومنا هذا نجد فقهاءنا حين يبحثون عن حل شرعي لمشكلة جديدة فإنهم يبحثون عن حل لها لدي بعض المذاهب الفقهية القديمة وفي بطون الكتب التي ألف الكثير منها في عصور التراجع الحضاري للأمة الإسلامية.
ومنذ أكثر من قرن من الزمان عاب الشيخ محمد عبده علي الفقهاء مسلكهم هذا وتمسكهم الحرفي بما جاء في هذه الكتب علي الرغم من اختلاف ظروف الزمان والمكان. وفي ذلك يقول: لقد جعل الفقهاء كتبهم هذه, علي علاتها, أساس الدين, ولم يخجلوا من قولهم: إنه يجب العمل بما فيها وإن عارض الكتاب والسنة. فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث وانحصرت أفكارهم في كتب الفقهاء علي ما فيها من الاختلاف في الآراء والركاكة.
فهل يعقل أن تكون الحلول التي توصل إليها الفقهاء السابقون ـ مع احترامنا لاجتهاداتهم التي كانت مناسبة لعصورهم ـ هي نفس الحلول لمشكلاتنا المعاصرة ؟.
إن الأمر الذي لا شك فيه أن الفقهاء السابقين ـ الذين أثروا الحياة الفقهية منذ قرون طويلة ـ لو قدر لهم أن يبعثوا من جديد ويروا ما طرأ علي الحياة والأحياء في أزماننا من تطورات غير مسبوقة لتغيرت بالقطع نظرتهم للأمور ولكانت لهم وجهات نظر متجددة أكثر تطورا وأكثر فهما لمستجدات العصر من كثير من فقهائنا المعاصرين.
وسأضرب بعض الأمثلة علي شيوع التقليد غير المقبول لدي الكثيرين من فقهائنا إلي الحد الذي يصل إلي إلغاء عقولنا تماما وإلغاء وظيفتها في التفكير. فقد بحث الفقهاء في الآونة الأخيرة قضية اشتغال المرأة بالقضاء. وبدلا من أن ينظروا أولا في وضع المرأة في المجتمع المعاصر ومدي ما وصلت إليه من ثقافة راقية وعقلية واسعة وأفق رحب وتخصص دقيق في جميع مجالات العلوم والفنون ـ بدلا من ذلك كله لجأ كثير من فقهائنا الأجلاء إلي البحث في بطون الكتب عما قاله أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة في هذه القضية, وتوصلوا إلي أن مذاهب الشافعية والمالكية والحنبلية لايقرون تولي المرأة لأمور القضاء بجميع درجاته. أما بعض الحنفية فقد أجازوا أن تتولي المرأة القضاء في الأحوال الشخصية والمدنية ولكنها ليست مؤهلة لتولي القضاء في الجنايات, علي الرغم من عدم وجود نص قاطع يعتمد عليه يحرم المرأة من هذا الحق.
والأمر الذي لاشك فيه أن آراء الفقهاء السابقين كانت وستظل مجرد اجتهادات تخطيء وتصيب. ولم يدع مؤسسو المذاهب الفقهية أبدا أن ما يقولونه هو الحق المطلق. فقد قيل للإمام أبي حنيفة: إن هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا مراء فيه, فرد قائلا: لا أدري, لعله الباطل الذي لا مراء فيه. ومن المأثور أيضا عن الإمام الشافعي قوله: رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
والسؤال هو: أين نحن من فقه الواقع الغائب عن أذهان الكثير من فقهائنا ؟ وأين نحن من فهم الواقع الحالي للمرأة؟. وهل المرأة اليوم هي نفس المرأة التي كانت في عهد مؤسسي المذاهب الفقهية ؟ وأين الاجتهاد المتجدد الذي فتح بابه واسعا صاحب الشريعة ؟ وأين نحن من فهم مقاصد الشريعة وجوهر الدين ؟. وإلي متي سنظل عالة علي فقهائنا الأقدمين ؟
وفي مثال آخر دار البحث حول ختان الإناث الذي هو مجرد عادة وليس عبادة, وأن ما ورد بشأنه من أحاديث كلها ضعيفة لا تقيم حجة ولا يعتد بها. ولكن أحد الشيوخ الأجلاء عندما بحث هذه القضية لجأ إلي البحث في ذلك عما قاله السابقون وانتهي في ختام بحثه إلي نتيجة مروعة مرددا في هذا الصدد ما ذهب إليه بعض أصحاب المذاهب الفقهية من رأي يقول: ـ لو اتفق أهل بلد علي عدم ختان الإناث فعلي الإمام أن يقاتلهم علي ذلك.
وقد تحدثت مع شيخنا الجليل ـ رحمه الله وطيب ثراه ـ عن ضرورة الاجتهاد وعدم الوقوف عند ما قاله السابقون فكان رده: عندما نكون مثلهم في علمهم يحق لنا الاجتهاد. وهذا أمر غير قائم في عصرنا.
وأترك الرد علي ذلك للشيخ محمد عبده رحمه الله. فمن رأيه أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان, ولا معليا لعقول علي عقول. فالسابق واللاحق يستويان في التمييز والفطرة. وهناك إمكانات متوفرة أمام اللاحق لم تكن متاحة لمن سبقه: فاللاحق له من علم الأحوال الماضية واستعداده للنظر فيها والانتفاع بما وصل إليه من آثارها في الكون ما لم يكن لمن تقدمه من أسلافه وآبائه.
إن الاجتهاد في عصرنا الحاضر هو الفريضة الغائبة. وممارسة الاجتهاد أصبحت فرض عين علي كل من لديه المؤهلات لذلك. ولدينا الكثير من الفقهاء المؤهلين للاجتهاد, ولكنهم في حاجة إلي الشجاعة مرتين ـ كما يري الشيخ محمد عبده أيضا ـ: الشجاعة في رفع قيد التقليد, والشجاعة في وضع قيد العقل الإنساني ـ الذي هو ميزان الله في أرضه كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي ـ للانطلاق إلي آفاق التقدم والارتقاء, ليس فقط علي مستوي الفكر الديني, بل علي مستوي الفكر بصفة عامة وعلي مستوي تطوير حياتنا وتعمير دنيانا وإسعاد أجيالنا في الحاضر والمستقبل.
|