منذ زمن تدفعني قوة غامضة للكتابة عن العلاقة بين - الفكر والسلطة - ، حيث أرى إنها علاقة غير منسجمة وغير متسقة حتى في أكثر البلاد تطورا في مجال الحريات ، ولهذا أصر على أنه علاقة رابطة بين - الفكر و السلطة - ، وإستخدام أسم الفاعل في الوصف دليل الأهمية ، إذ حسب المعطيات القريبة التي نقرئها ونلاحظها : إن هناك ثمة نفرة من قوى السلطة في قبول الفكر أو المفكر و بما لديه وعنده من أفكار ، والنفرة هي تباعد ضمني وخططي محسوب لا ينحصر في المنطقة العربية والإسلامية ، بل هي عادة جارية حتى في أكثر البلاد إيماناً بالحرية والديمقراطية كما قلنا ، والسبب حسب ظني يخضع لما يعنيه مفهوم - الفكر - ولما يعنيه مفهوم - السلطة - .
[ فالسلطة هي القوة التي تتحكم بإصدار الأحكام والقرارات ] ، وهذا المعنى الديماغوجي يذهب حيث تمثل السلطة الفرد الحاكم أو الحزب الحاكم والذي يُسير السلطة حسب مصلحة الحاكم ورؤيته ، وبهذا الإعتبار تنطلق من - أنا ذاتي - لا يعير إهتمام للمعنى العام إلاَّ بحدود مسودات قانونية تكون قد صاغتها وفق مفهومها للحكم في الغالب ، وبتعبير أدق : تحاول السلطة أية سلطة تطبيق رؤيتها دون النظر إلى الأخرين ورؤيتهم إلاَّ بالحدود العامة ، وهذا التعبير عن المعنى التضمني هو تبسيط يجري في كل معاني السلطة وأدواتها ، وبالغوص في هذا المعنى نجد التغول و الديكتاتورية للسلطة ولمن يشك في ذلك فهو مجدف أو مهرطق .
قد يقول قائل : هذا الكلام ينطبق على معنى السلطة و الحكم في المناطق العربية والإسلامية حيث نعرفها وحيث نعيش أزماتها ، والقول في عمومه صحيح لكننا نقول أيضاً : إن مفهوم السلطة ليس مفهوما من أنتاج العرب والمسلمين أو مقولاتهم في التاريخ وفي الحاضر ، ذلك إن هذا المفهوم كغيره وافد إلى العرب والمسلمين ، ومعنى السلطة عندهم لازال بدائياً ومتخلفاً وتتحكم فيه ولاءات القبيلة ورجال الدين والمشعوذين ، والسلطة من حيث نعنيها هي تلك التي أنبنت أوربا في أوربا القديمة وفي شرق آسيا القديم ، ولم يتطور هذا المفهوم إلاَّ إعلامياً وعلمانياً بالفصل بين الدين والسياسة وهذا الفصل حصل في أوربا بعد النهضة ، لكن الدولة العربية والإسلامية لازالت تجتر هذا المفهوم القديم وتستحدثه وتعيد إنتاجه وتوظفه في مجتمعاتها ، وذلك حسب إدعاءات مختلفة وعناوين مختلفة ، وهي تجهد لتضليل الرأي العام في دعاوى ميتافيزيقية ومثالية عقيمة ، تجبر الكافة على الرضوخ إليها بل والشدة في الحساب لمن يتجاوزها .
وهنا تبرز السلطة كمضلل إجتماعي خداع شبهه - كارل ماركس بالافيون - ، أو بالمبيد الحشري لدى قوم طبقت عليهم أحكامه كما حصل في العراق الغربي لدى منظمات دينية متخلفة في عصرنا الرآهن ، وثنائية الدين والقبيلة واحدة من الكوابح التي تعلم الناس كيفية الخضوع من غير تفكير ، أي سلب إرادتي الحرية والنظر من الجميع ، ومن هنا لا يكون ممكناً نجاح تجربة الجمع بين الفكر والسلطة أو محاولة التسويق لذلك لدى فئة من الأنتهازيين والوصوليين ، وطبعاً في تعريفنا للفكر نأخذ المعنى الحر له المعنى الغير مقيد ، إذ إن كل فكر يخضع لقيود لا يعد فكرا ً ، ولهذا لا يستطيع إنتاج معلومات أو تقديم معاني مختلفة .
ونعني بالفكر الحر : هو ذلك الشيء الذي يستطيع عبور ساحات الممنوع من جهتي السلطة والأعراف ، وحين يكون ذلك كذلك نرى نتاج ونرى تميز ، وحين نقول : نرى فنحن نقصد ما نشاهده من إبداع فكري في أوربا وأمريكا ، فالفكر هناك لا يخضع للسلطة ولا للعرف بل لمعنى التفكير المجرد ، وفي هذه الحالة نرى إنتاجه ونلمس خطواته التي تفرض نفسها على السلطة وعلى الأعراف ،
وقد يقول قائل : وكيف للسلطة ان تقبل هذا الفرض وهذا النتاج ؟ ،
نقول : في العالم الغربي هامش الحرية صنعه الفكر والمفكر ولم تصنعه السلطة ، والسلطة هي من إستفادت من هذا الهامش في تقرير مقولاتها وتوزيع رؤيتها ، ولكن حتى هذا وبحدود ما نعلم ونلمس ونعيش ، إن هناك مفارقة وقل خوف وعدم تلاق لا يسمح للفكر حيث ينتج معلوماته ليغير ما في السلطة من نظم ومعلومات ، والقصة لا تتعلق بالنظام الإجتماعي والسياسي فحسب بل يتعداهما إلى كل الشؤونات التي يتحرك فيها الفكر والسياسة ،
وكل مفكر أو يظن أنه من المفكرين ويخاتل السلطة وفريقها فهو منافق لا يصلح أن يكون في ساحة المفكرين وجماعتهم ، تلك هي القاعدة التي نبني عليها تصوراتنا ومقولاتنا ، ومن يظن إنه في التقرب إلى بعض أهل السلطة يستطيع ان يحقق منافع إجتماعية فهو واهم ومخادع ومرابي ، وقديماً قيل : إذا وجدتم العلماء على أبواب السلاطين فبئس العلماء وبئس السلاطين ، وفعل بئس دلالته على الذم واضحة ، أي إن التذلل للسلاطين عمل قبيح مذموم ومن يفعل ذلك يطرد من ساحة العلماء والمفكرين ، وعليه فلا يصح من البعض تحت بعض العناوين اللهاث وراء أهل السلطة لأن في ذلك إذلال لأهل الفكر والعلم ، ومن يفعل ذلك تجب تعريته وفضحه كي لا يتاجر فيما ليس له به نصيب ...