تتذكرون جيداً تلك الرواية الذائعة الصيت للروائي سلمان رشدي ( الآيات الشيطانية ) ، وتتذكرون معي ذلك الحكم الذي أصدره آية الله
الخميني بحق كاتب تلك الرواية ، ومنذ ذلك الحين ولم تكُف المعاهد والدراسات في إيجاد السند القانوني والشرعي للحكم من جهة ، ولقصة الغرانيق من جهة أخرى ، وقد كانت سنوات التسعين من القرن الماضي الأكثر شيءً جدلا في ذلك الموضوع ، أتى هذا من جهات متنوعة و متفاوتة ، وكان لنا في حينها رأي وكتاب .
قد فصلنا فيه معنى الحرية في التعبير وفي الكلمة ،
مؤكدين على أهمية الإختلاف كمبدأ في الفكر والرأي من أجل الوصول إلى الحقيقة والتعرف عليها ، ودالتنا في ذلك تلك الحكمة القائلة ( لا إكراه في الدين ) ، وكنا في كل مرة نعني مانكتب ونقول في هذا المعنى ومايؤدي إليه ، وهدفنا كان دوماً حماية الإنسان والجماعة الإنسانية من التشظي والجور ، كذلك والحفاظ على الحقوق والتعريف بالواجبات المعتبرة .
واليوم حيث يضج العالم بخلافاته وعبثه المتنوع ، تجدنا أكثر خشية وإصرارا على حماية الحقوق ، في ظل تلك النزوعات والمناكفات والتي تهدف إلى تجهيل الناس في قضاياهم المصيرية ، فالعالم الذي نعرفه إزداد خشونة وقهراً ، وأزداد تعنتاً في قضايا الحقوق والحريات ، ولم يحترم معانات الشعوب والدول ولم يعر بالاً لذلك ، ولم يسعفه هذا الإزدياد المضطرد في العلوم والمعارف في تطوير سبل الحياة للجميع ، وصرنا نسمع ونرى الكثير من الأقوال والحكايات في : [ إن مشاكل العالم إنما يصنعها الإسلام ومريديه وأتباعه ] ، وكان للإعلام الموجه أثر باز في جعل ذلك أشبه بالحقيقة التي لا يأتيها الباطل ، وقد أنشغل جيلا من الناس في ذلك بين مؤيد ورافض لهذه الأقوال و المزاعم ، فضاع الحق تباعاً في جنبات ذلك وذهبت ريحه بين هؤلاء وأولئك .
من أجل هذا وغيره وجدتني مضطراً و منُجراً من حيث أدري للكتابة في هذا الموضوع من جديد ، ودافعي هذه المرة ذلك الفعل الشائن القبيح المستنكر ، من ذلك الشخص الدانماركي الحاقد الموتور وجرئته ووقاحته في تحدي مشاعر القوم حين أقدم على حرق كتاب الله ( القرآن ) مع سبق الإصرار والترصد ) - هكذا وعلناً وعلى روؤس الأشهاد - ، ولم أجد فيما ذهب إليه هذا الموتور من نزوعات مغامر هاو ، يبتغي لنفسه شرف المكانة في جوقة أدعياء الشهرة والمقام ، لكني وجدت في الفعل من الدوافع السياسية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية الشيء الكثير ، والتي كانت مقصودة بذاتها لذاتها .
ربما و أقول ربما : - كانت فعلته هدفاً سياسياً يُراد منه إلهاء العامة و صرف أنظارهم عما يُدار هناك في أوكرانيا ، وفيما تقوم به آلة الحرب وأداتها - ، لظن غالب عند مخططي هذا الفعل ومريديه ، بأن وقع هذا الفعل وأثره سيكون كبيراً في توجيه أذهان وانظار الكثيرين ممن أنشغلوا بالحرب في كيف ولماذا ومتى ؟ ، والمعلوم بالبداهة [ أن عامة المسلمين إنما تحركهم العواطف و تستفزهم المشاعر ] وهذه واحدة تسجل عليهم ، ولأنهم في تعاملهم وسلوكهم ينطلقون ويحكمون بناءا على ردات فعل ، وغضب وعدم إنضباط و توازن ، ( وهذه السلوكيات مطلوبة في هذه المرحلة وكل المراحل ) !!! ، والمنظرين وصانعي الحدث لديهم رغبة وطموح في إلهاء الناس بعض الوقت وكل الوقت ، لما يجري من أحداث وخطط كان أخرها الحرب العبثية في أوكرانيا .
ولا ريب إن ذلك الفعل السيء من الدانماركي ، يندرج في هذه اللعبة الدولية لما يترتب عليه ومايؤدي إليه من صدى إعلامي و ردود أفعال وحماقات سيقوم بها المنتظم الإسلامي في مواجهة مثل هذه الحالات في العادة ، والذي نعرفه عن المسلمين عامة والعرب منهم خاصة ، إنهم لايقرأون تأريخهم وأخبارهم وكتبهم ومروياتهم ، بل يعيشون كلاً على غيرهم مدفوعين بهذا التناقض المقيت والذي صنعه الخلفاء والسلاطين وأجنادهم .
هذا عن الواقع وأما عن الماضي القريب والبعيد ، فالأمر لا يخلو من ذلك التناطح السيء بين الفرق والملل والنحل ، فأنشغلوا في موضوعات وأخبار فرقية ومذهبية بعيدة عن القضايا الهامة في كتاب الله ، ولم أجد فيما أعلم من حوار معرفي يدور حول : من حرق القرآن والمصاحف أولاً ؟ ولماذا ؟ ، يُقدم الخليفة الراشد عثمان بن عفان على ذلك ؟!! .
والتبرير الذي تقدمه المؤوسسة الدينية الرسمية في هذا الشأن سيء بل أسوء من فعل عثمان نفسه ، فالخليفة الراشد المسلم ( ذي النورين ) كما يسمونه ، أقدم على هذا الفعل ( عن عمد وسبق إصرار ) ، حين أقدم في خطوة غير مسبوقة على حرق نسخ القرآن الموجودة والموزعة في الحواضر و الأمصار الإسلامية آنئذاك ، تلك النسخ التي كانت تقرأ وتقام على أساسها الأحكام والحدود والشريعة ، [ في الكوفة والبصرة والمدينة ومكة والشام ومصر ] .
وما قيل في تبرير هذا الأمر : [ إنما كان يستهدف رفع الزيف واللحن الذي لحق بالكتاب المجيد عبر الإختلاط بالموالي و الأعاجم من غير العرب ] ، هذا التبرير زائف ومستهجن من وجوه لأنه لا يستند على دليل منطقي وعلمي ، بل إن دليل إدانته أقوى من دليل إثباته ، فإعادة كتابة النص القرآني يتطلب أشياء غير المقارنة ، هو في حجية الجديد وقوته الغالبة على حجية وقوة النسخ القديمة ، ناهيك من كون الأمر بالحرق لهذا الشأن ، يتطلب الحرص والمواظبة على أن لا يلحق بالجديد ما لحق بالقديم من النسخ ، وهنا نشير إلى تمدد الغزاة المسلمين وفتوحاتهم في أطراف العالم الكبير شرقاً وغرباً ، هذا من جهة الواقع ، وأما من جهة المضمون أعني في شكل وطبيعة اللجنة المشرفة على كتابة النص من جديد ، والتي لم نجد فيها من كبار الصحابة وأهل الإيمان والسابقة أحد ، حتى قد قيل في حق هذه اللجنة الكثير من الأقوال ، وتراجم الرجال لم تسعفنا في هذا المجال ولم توثق إلاَّ لواحد أو أثنين ، ولم ينتخب هؤلاء الرجال المهاجرين والأنصار ، بل جاء تعيينهم من قبل الخليفة الحاكم ومن دون مشاورة .
ولهذا الفعل أثر في القول اللاحق في تحريف - الكتاب المجيد - ، سواء في شكل الكتاب وفي حرفه ورسمه ولغته وقراءته المعتمدة ، كذلك في أسماء سوره وعناوينه وفي التقديم والتأخير الحاصل فيه من التصحيف والتكرار والحذف .
وإن أحسنا الظن في تلك اللجنة و في عملها ، فلابد من القول إنها قد أعتمدت على رؤية محددة مرسومة من قبل الخليفة الحاكم وحزبه ، والتي لم يستشر فيها أحد من كبار القوم وعلماء الأمة آنئذاك ، على عكس ما قيل وكُتب في هذا الشأن من قبل المدافعين والأتباع ، بل إن الجميع أرغموا على القبول بنتائج هذه اللجنة وما قدمته من كتاب جديد لهم ، وكان لهذه العملية من تداعيات و آثار سلبية ونتائج عكسية ، أدت لاحقاً إلى نقمة المسلمين منه وإجتماع كلمتهم على وجوب قتل الخليفة عثمان بن عفان وهذا ما حدث بالفعل .
وهنا لا بد من القول : إن الكلام في تحريف بعض نصوص الكتاب ، لا يعني أبداً إلغاء حجية النصوص الأخرى ، و الثابتة بحكم المنطق والعقل والمطابقة للواقع والعلم ، وإعتقادنا : - إن عامة نصوص الكتاب المجيد ثابتة و حجتها بالغة ولازمة وواجبة - ، والإحتجاج بها وإستنباط الأحكام منها ثابت ومطلق ، و لاتناقض في ذلك ولا ترديد ولا مخالفة مع القول بتحريف بعض النصوص .
وهذا يقودنا للقول التالي : - ليس كل ما في الكتاب المجيد قد طرأ عليه التحريف - ، إنما التحريف جرى في موضوعات محددة ونصوص معينة ، وإلى ذلك نسترعي الإنتباه لمن يتدبر القرآن المجيد ويقرئه بعناية وتأمل تامين ، ومن هو في هذا الشأن سيرى ذلك بوضوح و من غير لبس أو توهم .
ونحن وعامة المسلمين معنيين بما لدينا من هذا الكتاب المجيد ( من أوله إلى أخره ) ، يأتي هذا من باب الأمانة والرعاية العلمية والمعرفية الخالصة ، نعم إن هذا الموضوع يتطلب الكثير من الحرص والكثير من التأني و الوعي والكياسة ، إذ لا يصح أبداً الدخول فيه أو الإدعاء من غير إمتلاك الأدوات اللازمة والواجبة في هذا المجال .
أقول قولي هذا تدعيماً وتأسيساً لما نتبناه وندعوا له من تصحيح وإصلاح لقواعد الدين وأصوله في نصوصه وموضوعاته ، لذلك كنت قاصداً ومريداً لرفض هذه الضوضاء المفتعلة التي يعتمدها أصحاب الدين السياسي من قوى وأحزاب ومنظمات وأفراد ، أولئك الذين يتحينون الفرص في كل شاردة وواردة ليذكروا الأخرين بوجودهم ، ذلك الوجود الفاشل والذي بانت عوراته في أكثر من مكان وزمان ، فاشلا في الخطاب وفي العمل وفي الممارسة ، وليس هذا وحسب ، بل إن الشعوب المسلمة قبل غيرها قد أعلنت البراءة منه ، وتخلت عنه وأشارت إلى عدم صلاحيته مطلقا .
كذلك أقول : - ان الكتاب المجيد ( القرآن ) هو ليس مجرد كلمات مكتوبة على ورق ( يمكن أن تزول بالحرق أو بغيره ) ، إنما هو قيم وقواعد أخلاقية وإجتماعية وثقافية مركوزة في ضمير الموحدين والمؤمنين في قلوبهم وعقولهم - ، قيم تركز على بناء الإنسان وعلى حمايته من التعدي و الإستغلال والتفرقة والكراهية والبغضاء ، قيم تنبذ الكذب والكاذبين وتحارب الفساد والفاسدين ، قيم تدعوا إلى العدل وتحض عليه وتقف بوجه الظلم وتتصدى له ، قيم تدعوا للحرية والعدل والسلام لشعوب الأرض كافة ، وليس بالميسور ان تذوب كل تلك المفاهيم والقيم من خلال تلك الفعلة الشنيعة لذلك الشخص الموتور ، ثم الإنجرار وراء هذا الفعل وإفتعال الغضب والتصديق به دليل على ضعف الوعي والقدرة والإرادة والتحمل ، ونسيان قوله ( إنا كفيناك المستهزئين ) .