أين هو الفكر السياسي العربي. هل نبحث عنه في مراجع من الثقافة المدونة. وأين هي تلك النصوص حقاً التي يصح القول عنها إنها تطرح فكراً نظرياً، باحثاً في المبادئ المؤسّسة. إنه فقر حقيقي ينبغي الاعتراف به، بالرغم من هذا التاريخ (السياسوي) الهائل الذي انخرطت فيه مسارات الدول العربية، ومعها تلك الفئات من مثقفي الحقب المعاصرة،
الذين تنطعوا لمهمات التنظير سواء لما هو قائم من الأوضاع في مجتمعاتهم، أو لما ينبغي له أن يتحول أو ينقلب ويختلف سواء بالنسبة للمفاهيم الرائجة أو لرموز الحكم أو أنظمته السائدة.
مثلما لا تمتلك المكتبة العربية متوناً فكرية ترقى إلى مستوى مراجع أو اثارات لأسئلة التحولات المصيرية التي تهم عادة المجتمعات الواعية لمسؤوليتها الإنسانية عن حقوق أفرادها وتطلعاتهم المشروعة، كذلك يبدو أن ثقافة النهضة العربية المعاصرة لا تقترح على أبنائها هدايات عامة تتعلق بكيفية ولادة العمليات السياسية في معناها الصحيح. إنها ثقافة نوايا في التغيير، وليس في مفاهيمه وإجراءاته. ومن هنا كان ذلك الإقبال الحماسي على تبني أشباه أنظمة فكروية جاهزة، وعلى السرعة في هجرانها ومغادرة بعضها إلى بعض آخر، من جنسها عينه، ومن طبيعتها اللفظوية البراقة نفسها، وإن اختلفت شعاراتها وأعلامها. فكان فكر التحولات النظرية، ينوس بين القبول المطلق أو الرفض القاطع. كلا الحالتين تتحصنان بهواجس التحشيد (مع) أو (ضد). فالنزوع إلى التصنيف يكون الأسهل والأسرع على العكس من التضمين الباحث أولاً عن الجدوى الوجودية في كل مشروع تغيير. فالفكرة السياسوية المطروحة في شارع التحشيد تنوب عن برهنتها بمقدار ضجيجها وصخبها، معتصمة وراء براعة التبرير ومناوراته الاعلامية، متجنبةً بذلك الوقوع في مآزق التبرير، والمواجهة الصريحة مع أسئلة الحق والباطل.
التحشيد بالكم والكيف معاً، بالعديد من الاتباع والأزلام، والكثيف المتهاطل من تهاويل الوعد والوعيد، هو البديل السياسوي اليومي المتواتر، عن انتاجية الفعل السياسي العام - وليس العمومي- الذي لن يكون إلا فعلاً ثورياً، ليس بالعنف المادي العرضي، بقدر ما هو يعنف التكوين/اللاتكوين في عمق البنية التحتية للجماعات الأهلية. ولقد سيطر اسم الثورة على الخطاب السياسي العربي طيلة النصف الثاني من القرن الماضي، سواء، لدى معظم حكام تلك المرحلة وأحزابهم، أو لدى التيارات المعارضة نفسها، بحيث أمسى اسم الثورة بمثابة المرجعية المشروعية لأشكال العمل الجماعي الهادف إلى التغيير بدءاً من مستوى الاستيلاء على السلطة، أو الاحتفاظ بها من قبل المسؤولين الجدد. فالتغيير لم يكن مطلوباً لذاته إلا إذا اكتسب صفة الثورية. وبالطبع هذه الصفة التخصيصية تطرد كل ما عداها، كمبدأ الإصلاح. بل كان الثوري القومي أو اليساري، يأنف من مذاهب الإصلاح والإصلاحية، ويعتبرها تهمة لا تليق إلا بالرجعي والرجعية، فالتغيير محسومُ المبنى والمعنى لصالح الانقلابية، أو التحويل الجذري. لكنه التغيير الذي لا يصيب إلا شكل الحكم، بل رأسه الأعلى فقط.
ثم أن الثوريَّ لا يرتضي لنفسه حتى صفة السياسي، فهذه الصفة مشبوهة باللف والدوران واقتناص المنافع الشخصية لأدعيائها فقط. بينما الثورية حكْمٌ معياري خالص، وظيفته تنزيه أدعيائها عن التلبس بأي مواقف أو ممارسات تتعارض مع مثالية إعطاء الذات كلياً لتلك اللفظة القدسية الأخرى المسماة بالمبادئ. فالثوري سابقاً، و(الجهادي) حاضراً، من المفترض أن يكون هو الشاهد الحي، في فكره وسلوكه، على صحة أو أحقية العقيدة، بل قدسيتها، والتي يمكن أن يصير كذلك إلى شهيدها. فهل هي الطوباوية التي تستحيل أهدافها المؤجلة، لكن باسم هذه الاهداف عينها يُجبر المجتمع على التنازل عن حرياته، والزَّج به في تجارب تحويلية شكلانية مصحوبة بالقمع الداخلي والحروب الخارجية. وقد عُرف القرن العشرين بأنه عصر الطوبائيات الكبرى مع الفاشية والنازية والشيوعية في أوروبا، وأنظمة الديكتاتوريات العسكرية في العالم الثالث، وفي القارة العربية والاسلامية منه بخاصة. غير أن هذا العصر لم ينقض إلى غير رجعة. فالأمركة والعولمة والإرهاب تشكل ثلاثية الرموز الكبرى الجديدة لطوبائيات الألف الثالث، على الأقل في بداياته الراهنة. فهي كلها مهووسة بالتحويل القسري للثقافات والمجتمعات تحت هالة الشعارات الديمقراطية والدينية. وهي التي تبرر العنف المطلق، في شقّيه المادي والمعنوي، باستيهامات الجنان المستقبلية الموعودة في هذا العالم أو ما فوقه، أو ما بعده.
فلا يُنكر أنه ليس ثمة فعل حركي عام يظل مجرداً عن فسحة المخيال المتطلع إلى الحال الأفضل. لكن المشكلة مع الاستيهام الطوباوي أنه بقدر ما يطلق الصور البراقة ويغذي أحلاماً طفولية عن الحرية والسعادة، فإنه يكاد يجهل موقع قدميه من الأرض التي يقف عليها، هو وجمهراته، الآن وهنا. هذا الفراغ المفهومي بين الأحلام الشعبوية الذهبية وتحققاتها المتصورة، يشكل المجال المفتوح أمام السياسة في مقاصدها المدنية المتعارف عليها. لكن في حال الأمم المغلوبة على أمرها، والواقعة تحت سطوة الطغيان الخارجي والقمع الداخلي، ليس من السهل أن تكون السياسة هي اللاعب الأول في المجال العام. ربما كانت الأجهزة التقليدية المتوارثة هي الأسرع، ليس في إجهاض التغيير، بل حتى في اقتناص شعاراته والتخفي وراءها، وحرمان أصحابها الأصليين من التعامل العلمي والتاريخي مع ثقافتها وفق استحقاقاتها الاستراتيجية على أرض الواقع.
ومن متحف النهضة العربية المعاصرة توالي على منبر السياسة - بمعناها اليومي التداولي- ثلاثة نماذج، انطلاقاً من الثوري إلى الإصلاحي إلى المقاوم؛ احتكرت الوظيفة القيادية لمجتمعاتها. وكل نموذج كانت له حقبته التاريخية، المتوجة بشعاراته، ولغتُه الناطقة بمصطلحاته، والفارضة بالتالي قانونها المعياري التصنيفي على ألسنة العامة والخاصة وأفعالهم. وقد يمكن القول أنه لم تكن تتم هذه النقلة النوعية من نموذج إلى آخر، إلا على أساس استنفاد النموذج السابق بكل إمكانياته (القيادية) أو الشعبية، والارتداد بالحالة الوطنية إلى بداياتها القاحلة. هذا مع الإشارة إلى أن الثوري كانت له مزاياه الفريدة بالرغم من كل نكساته التي انتظرته في المنعطفات المظلمة من دروبه الشاقة. فقد عاصر بكورة النهضة. جاء محملاً، مسبقاً، بأعباء قضاياها كلها دفعة واحدة، كهموم إنسانية أصيلة أكثر منها كمشاريع عملية ممكنة. فارتضى ثوريّ العصر آنذاك لنفسه مسؤولية الريادة في مختلف ميادين النهضة، قبل أن يتاح لها استكشاف قواها، ولا التنبؤ بالعقبات التي تنتظرها، وسوف تنازلها. كان ثوري العصر ذاك مبشراً بخيوط الفجر الأولى تملأ عينيه، متيقناً بصمود شمسها إلى كبد السماء وقتَ الظهيرة الآتية في حينها المحتوم.
الثوري لا يستطيع أن يقبل بغير النصر في كل معركة يختارها أو يفرضها عليه عدوه. وإن كان يمني بالهزيمة غالباً، فإنه يتطلع إلى الجولة التالية دون أن يبالي حتى بخسارة حربه كلها. بينما الإصلاحي يشتغل على خارطة الواقع، باحثاً لذاته عن طرق تصليح الآلة من داخلها، دون تحطيمها أو التخلي عنها نهائياً. إذ لا سبيل إلى مثل هذه الممارسات (الانفعالية) في فلسفته. وأما المقاوم فهو الذي يحلم بالجمع بين مثالية الثوري وبراغماتية الإصلاحي. وهو لا يأتي أصلاً إلا ما بعد انغلاق كتاب الثورة وتحوله إلى مجرد ذاكرة تراجيدية حزينة؛ وإلا ما بعد أن يستهلك الإصلاحي كذلك تمارينه الجوفاء في معالجة آلات الواقع الخربة، ومن داخل خارطتها المتصحرة، وبذات أدواتها المهترئة عينها.
كأنما يريد المقاوم إحياء ذاكرة الثوري المنطفئة. يودّ أن يتعلم منه أحكامه القاطعة في كل ما يتعلق بالفواصل الحادة بين الممارسة الوطنية وأضدادها من مناورات الاستسلام واشباهها. كما يأخذ عن الإصلاحي حسَّه الموضوعي بثقل الواقع المباشر في كل منازلة يخوضها ضد أعراضه السلبية المتراكبة. فالمقاوم ليس جندياً في حروب الدفاع عن الأرض والعرض فحسب؛ إنه الممانع المدني كذلك ضداً على أعداء الداخل الغادرين بعقيدة النهضة من وراء ظهرها، والمستثمرين لأخطائها وعثراتها من أجل الإجهاز على مشروعيتها التاريخية في عيون وقلوب أبنائها وأنصارها.
لكن أين هي السياسة، حسب مصطلحها الإغريقي العريق، كتدبير عقلاني للشأن العام، في كل هذه الحقب النهضوية الثلاث تحت الهيمنة المعنوية المتتالية لكل من نموذج الثوري فالإصلاحي فالمقاوم. وهل كانت مجتمعاتنا العربية منهمّة يوماً بتدبير شؤونها المدنية، وهي تعاني ما تعانيه من حملات الطغيان العالمي المتربص بكل خطوة تقدمية، تنتويها أو تشرع في تحقيقها، ومن عقد الانحطاط الذاتي المتجددة على أثر كل نكسة وطنية عامة، تعقبها نكسة عقلانية اجتماعية، أم أن النماذج الثلاثة تلك لم تكن سوي تجليات ريادية لسياسة (عقلانية) لن يبلغها المجتمع المتخبط، والمأسور في عتبة الحفاظ المتعثر دائماً على الحد الأدنى من استقلاله وحريته، إلا حينما يتمكن من إرساء بعض قواعد الاستقرار المدني، تلك التي يبدو أنها آخر ما يشغل بال الحكام والمحكومين معاً، وبينهما نخب المثقفين الضائعين أبداً.