كتب وزير الخارجية الأمريكي السابق والخبير الاستراتيجي هنري كيسنجر في صحيفة نيويوركر مقالة تحت العنوان أعلاه، نشرتها الصحيفة يوم 5/7/2007، وفي ما يلي الترجمة الحرفية للمقالة :
تقترب الحرب في العراق من ان تفرض على نفسها لحظة الذروة التي ستعقبها الهاوية. وكما يبدو لنا ان الرأي العام، بدأ يتحرر من وهم الحرب هذه. وبحكم المؤكد فان الكونغرس الأمريكي سوف يدفع باتجاه انتزاع انسحاب امريكي ان لم يكن كاملا فسريعا على اقل تقدير. وفي ذات الوقت تطرح على المائدة طلبات متزايدة من أجل التوصل الى حل سياسي لهذه الحرب.
لكن يجب ان لا يفوتنا القول ان الانسحاب الأمريكي من العراق، سيجلب نتائج كارثية ليس على العراق ذاته فحسب، بل ستنتقل الحرب الى الدول المجاورة كالأردن ولبنان والسعودية. وسوف تستعر الحرب بين فرقاء العراق. وسوف يُجريء الوضع الهزيل الذي ستبدو فيه الولايات المتحدة عندها، الإسلاميين الأصوليين، وسوف يزداد أتباعهم تطرفا من اندونيسيا والهند وحتى أحياء وضيعات العواصم الأوربية.
ان الولايات المتحدة حاليا أمام جملة من المغالطات. فالحديث عن النصر العسكري في العراق، معناه تأسيس حكومة قادرة على بسط إرادتها على عموم العراق. وان يتم هذا الأمر في ضوء جدول زمني لا يبدو ان الإدارة الأمريكية قادرة على احتمال التأخير في الوصول الى أهدافه بعد والتي تبدو هي من جهة أخرى بعيدة المنال.
هذا الى جانب ان لا حل سياسي يبدو مقنعا حتى الآن بالمقارنة مع وقائع الأرض في هذا البلد.
ان ما يحتاجه العالم حاليا في ما يخص العراق، هو عدم اللجوء الى الانسحاب منه بمبادرة انفرادية، بل ان الحاجة تدعو الى ان تضع الإدارة الأمريكية رؤية تتمكن من إيجاد تسوية سياسية دائمة للصراع في العراق. ومن ثم ينبع الانسحاب من رحم الحل السياسي هذا وليس العكس.
ليس بوسع جيران العراق ولا حتى إيران، ان يهمن أي منهم، على الوضع في العراق، بالضد إرادة الأطراف الدولية الأخرى والمعنية في الشأن العراقي. وهنا نتساءل، ألا يمكننا ان نبني صيغة حل دولي استناداً الى هذا الاعتبار.؟
ان الإجابة على هذا التساؤل، تضع أمامنا ثلاث اطر حل للمعضلة العراقية. محلية وإقليمية ودولية.
فأما الإطار المحلي للمعضلة العراقية، يكمن في وحي فرقاء العراق الرئيسيين السنة والشيعة والأكراد، الذين كانوا يُلتَمسون من جانب الولايات المتحدة على الدوام، كي يحققوا المصالحة الوطنية. لكن مجموعات هؤلاء الفرقاء التي شنت أعمال عنف دموية تجاه الواحدة الأخرى، دأبت على ان تكافح بدلا عن ذلك، في تكريس دروس وهواجس تقاتلها البيني الذي دام قرون عدة، وتضمينها بدستور البلاد. ان الحاجة تدعو الآن الى تأمين تأييد لعملية دبلوماسية جديدة، من شانها ان توفر دعماً دولياً، تجاه توقيع وتنفيذ أي اتفاق محلي او من أجل احتواء تنازع فرقاء العراق، ومن دون ذلك، ومع استمرار عدم قدرتهم على التوافق، وقتها سيتفتت العراق.
يجب ان تستهدف الولايات المتحدة، التوصل الى اتفاقية دولية حول الوضع الدولي للعراق. وسوف تكون هذه الاتفاقية، مجالا لاختبار دول الجوار العراقي، إضافة الى الدول الأبعد، ومدى كونهم مستعدين، لترجمة المنظور العام النظري لصيغة التوافق في العراق، وتحويله الى وقائع على الأرض. وسوف توفر هذه الاتفاقية المقترحة، أرضية قانونية وسياسية لصيغ الحل المنشود، بوجه خروقات هذا الطرف أو ذاك. هذه هي الصيغة الارتكازية ذات المعنى، التي يمكن ان تستخدمها أمريكا لاختبار إمكانية انسحابها الآمن من العراق.
ان السبب الذي نراه جوهري، ويدفعنا الى ان نقدر ان هذه الدبلوماسية ستأتي بثمار ايجابية، هو البعد الإقليمي الذي نتحدث عنه، والقائم على ان نتائج استمرار اشتعال العراق، من شانه ان يفاقم مشاكل دول الجوار ويزيدها هلعا من مجهول الأيام. وكلما طال أمد الاقتتال في العراق، كلما اقترب العراق من النهاية التي ستفتت البلد الى دويلات طائفية، وهو ما يعمق حاجة المنطقة الى الحل.
فقد شددت تركيا على الدوام، أنها ستقاوم عملية تفتيت العراق بالقوة، بسبب خشيتها من أن يؤثر موضوع تأسس دولة كردية في شمال العراق سلبا، وان يعبأ الفئة الكردية التركية الكبيرة في جنوبها ضد أنقرة. لكن مثل هذه النهاية ستضع تركيا في محل تنازع مع الولايات المتحدة، وسيفتح الباب أمام المزيد من التدخلات المباشرة في الشأن العراقي الداخلي.
فالسعودية والأردن، ترتعد خوفا، من السيطرة الشيعية على نظام الحكم في بغداد، خشية ان تكون عين ويد إيران في المنطقة. وإزاء هذه الحالة، تجد المشايخ الخليجية في وضع ارتهاب أكبر، ولعل أبرزها الكويت. أما سوريا فستكون أكثر مجاراة لطرفي المعادلة. فعلاقاتها المتينة مع طهران، تمثل عامل قوة وضعف لها على السواء.
ان الإتيان بدبلوماسية أمريكية حكيمة وصارمة، يمكن أن تقتنع الدول المجاورة وحتى إيران منها، بان الخسائر المترتبة عن استمرار تحفيزها للاهتياج في العراق اكبر من المزايا المستحصلة من هذه العملية.
لقد بات من المؤكد، ان القادة الإيرانيين يؤمنون حاليا، ان الرياح تهب في صالحهم، وان الفرصة الذهبية المنتظرة قد حانت، لإعادة إحياء سطوة الإمبراطورية الفارسية الألفية، بالاستفادة من تقسيم العراق، او بإحياء الاختلاف السني الشيعي في هذا البلد، تحت الهيمنة الشيعية. أمام هذا، وان قُدر للقادة الفطنين، ان يتركوا العراق وينسحبوا منه، عندها من سيبقى ليتدبر الأمر ويدير عجلة الأمور، خاصة وان الإيرانيين سيرونها فرصتهم التاريخية في بسط تمام هيمنتهم على العراق، واستخدام الأمر كورقة مساومة في مفاوضاتهم معنا، بدلا من توجسهم من هذه المغامرة الإقليمية.
من المهم ان نبرز هنا، انه لن يكون بوسع أي رئيس أمريكي، ان يرضخ لحقيقة هيمنة إيرانية ظاهرة وكاملة على هذه المنطقة. وسيكون لروسيا أسبابها الخاصة في مقاومة إيران وراديكاليتها وهيمنتها على الخليج، بسبب خشية موسكو من تعبئة أقليتها المسلمة ضدها بوحي إيراني. وبالتلازم مع ما يثيره برنامجها النووي من لغط دولي، سيدفع القادة الإيرانيون بمسببات تحديهم الدولي قدما، ليكونوا مصدر مخاطر فادحة بالفعل.
ومتى وصلت إيران الى هذه الخلاصات، عندها سنتوقع ان نشهد واحد من اثنين من الظروف:
الأول: لن يكون هناك أي أمل في نتائج أي دبلوماسية جدية مع إيران، في ظل ظرف تبدو فيه الولايات المتحدة هزيلة. فعلى الولايات المتحد وحلفائها إظهار أعلى درجات التصميم والثبات، وان يبرهنوا على ذالك بالوقائع التي تقنع الإيرانيين بصدقية هذا الرسوخ.
ثانيا: على الولايات المتحدة، ان تؤسس وان تضع دبلوماسية من شأنها ان الإقرار بمشروعية الهواجس الأمنية الإيرانية.
مثل هذه المفاوضات، يجب ان تصاغ بمصداقية كاملة في إطار منتدى دولي متعدد الأطراف. فالوضع الدراماتيكي الذي يشوب العلاقات الأمريكية الإيرانية، من شانه أن يعظم شعور كل المنطقة بعدم الأمان. فان اقتنعت دول مثل السعودية ولبنان والأردن والكويت التي عهدت بمسؤولية أمنها للولايات المتحدة، بعدم وضوح العلاقة مبادلات الأمريكية الإيرانية، عندها سيكون التسابق لنيل الرضا الإيراني من جانب الولايات المتحدة، أمراً مبدداً لأي صيغ حل للمشكلة لان باقي الدول لن تتفاعل مع واشنطن البتة.
لكن في إطار عمل متعدد الأطراف، سيكون بوسع الولايات المتحدة، إجراء محادثات منفردة مع أطراف الرئيسية في هذا الإطار، وكما حدث في المحادثات السداسية التي تبحث صيغة حل لملف النووي لكوريا الشمالية بالتالي ستتوفر لواشنطن فرص معالجة مخاوف الجميع.
مثل هذا الإطار، موجود أصلا، في آلية وزراء الخارجية الذي التأم مؤخرا في شرم الشيخ. وفي مصلحة الولايات المتحدة ان تحول هذا المؤتمر الى آلية عمل تحت قيادة قوية ومطلقة أمريكية.
ان الغاية من مثل هذا المنتدى، هي الخروج بصيغة تعريفية للعراق الجديد، الذي خرج للتو الى العالم، وربط هذا الوضع العراقي الجديد، بسلسلة من الحوافز المقرونة بتنفيذ الالتزامات من جانب بغداد. وسوف يبقى العراق متمتعا بوضع سيادي، لكنه سيبقى فترة من الزمن تحت الوصاية الدولية، بمقابل ضمانات محددة.
في مثل هذا الوضع، ستتحول قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة تدريجيا، الى عنصر من عناصر هذه الترتيبات، شانه شان الوضع الذي خرجت به صيغة حل حرب البلقان في البوسنة والهرسك.
يفترض هذا المنحى ان يقوم المجتمع الدولي بثلاث مراحل نحو لحل:
مفاوضات مكثفة بين الأحزاب العراقية. وان يقام منتدى إقليمي على شاكلة مؤتمر شرم الشيخ، ليقوم بتفصيل وضع العراق الجديد الانتقالي. ويجب ان يقام منتدى دولي اكبر، لتأسيس قوة حفظ سلام، ومؤتمر آخر دولي يعرف أبعاد الترتيبات الجديدة لعراق الجديد. عندها فقد ستجد أطراف العالم نفسها في وضع لا يمكنها من الركون جانبا، وان تبقي على صمتها وجمودها الذي أبدته طوال الفترة الماضية تجاه الشأن العراقي. فلن يقبل المجتمع لدولي ولا الرأي العام الأمريكي، بقاء الأمريكان منفردين ومستحكمين انفراديا بالقوة العسكرية على العراق في منطقة مليئة بالمشاكل.
ان المفاهيم الواردة سلفا في مقالتي هذه، تهدف الى تأسيس إطار عمل جديد. أنها نتيجة نشأت من الوضع السياسي والأمني على الأرض، وليس من وحي الحدود الزمنية المصطنعة.