قضي الأمر. أصبح الاعلان عن انسحاب تدريجي اميركي من العراق مسألة وقت، بعدما صار حاجة ملحة تفرضها ظروف المعركة السياسية، المحتدمة في واشنطن اكثر مما تمليها ظروف المذبحة المتصاعدة في العراق
الآن لا فرق بين مطبات السياسة في الكونغرس وحقول الدم في بعقوبة والانبار. واذا كان بساط الجمهوريين آخذ في الانحسار من تحت اقدام جورج بوش بهذه السرعة، فقد تكون الخطوة الثانية بعد الاعلان عن انسحاب عسكري مبكر من العراق، اضطرار بوش الى انسحاب مبكر ايضاً من البيت الابيض! لكن المشكلة هنا ليست اميركية فحسب، بل ان الوجه الادهى فيها يتصل بالاحتمالات الدموية الفاجعة التي قد تغرق المنطقة الممتدة من نواكشوط غربي موريتانيا الى اسلام أباد في شمال شرق باكستان، حيث تتصاعد عناصر فتنة مذهبية كبرى ليس واضحا الى اين يمكن ان تصل وكيف يمكن ان تنتهي. كما انه ليس واضحاً ان الانظمة والدول على امتداد هذا القوس الحيوي بين قارتي آسيا وافريقيا متنبهة فعلاً الى الأخطار الماحقة التي قد تنجم من هذه الفتنة. وباستثناء اليقظة السعودية المبكرة والعميقة التي تنبه لها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، حيث سارع ويسارع الى توسيع اطار التنسيق والتشاور مع المسؤولين في طهران، بهدف وأد الفتنة الشيعية – السنية في العراق وكذلك في لبنان وقد كانت معالم هذه الفتنة قد بدأت تطل برأسها عندنا، باستثناء هذا يبدو ان دولاً اسلامية كثيرة تغفل عما يمكن ان يحمله المستقبل القريب من اخطار ماحقة على هذا الصعيد. ان الانسحاب الاميركي من العراق ستكون له آثار سلبية سريعة، ان لم تكن كارثية، لأنه سينسف التوازن الراهن في ميادين المواجهات. حيث سيجد الايرانيون انفسهم منساقين الى العراق اكثر فأكثر في الوحول المذهبية الدموية، لأنه سيكون عليهم مساندة الشيعة الى اقصى الحدود، وحيث سيجد السوريون انفسهم بعد خروج الاميركيين، وقد انزلقوا الى مواقع متناقضة كلياً مع مصالح حلفائهم الايرانيين، لأن مساعدتهم للتنظيمات السنية "المجاهدة" في العراق ستبدو موجهة ضد الشيعة. اما على المدى البعيد فقد ترتد هذه التنظيمات للعمل ضد سوريا عندما يفلت مارد الشرور المذهبية على نطاق أوسع. ❒ ❒ ❒ ان المثير فعلاً هو غياب الاستعداد الجاد والمسؤول في دول المنطقة وانظمتها، لمرحلة ما بعد انسحاب الاميركيين. ثمة حريق كبير يحتاج الى اطفائيات حكيمة وكبيرة وعاقلة، وان الجهود الحثيثة التي تبذلها الرياض في هذا السياق لا تكفي وحدها ما لم يسارع المسؤولون في طهران الى الفصل بين طموحاتهم النووية من جهة وبين أساليب الضغط التي يتبعونها على المستويات الاقليمية والعربية (العراق – فلسطين – لبنان – افغانستان) بهدف الحصول على قبول اميركا والغرب بهذه الطموحات. وفي هذا السياق، يبدو الأسلوب الايراني الضاغط في هذا الاتجاه وكأنه في سعيه للحصول على القنبلة النووية، يرتب من حيث يدري او لا يدري قنبلة اخطر وادهى هي الفتنة المذهبية التي تستطيع ان تفجر المنطقة كلها مثل العراق بينما ليس في وسع احد تفجير قنابله النووية! ❒ ❒ ❒ دخل الاميركيون مرحلة حزم الحقائب لمغادرة العراق، ولم تدخل المنطقة بعد مرحلة حزم الارادات والافكار، والذين سيتباهون كثيراً غداً بهزيمة اميركا في العراق سيفوتهم كالعادة انهم هم المهزومون الحقيقيون في نهاية الامر وخصوصاً اذا توسع الحريق المذهبي المرعب الذي يلتهم روح الأمة. ❒ ❒ ❒ وسط كل هذه الاحتمالات المخيفة، يراوح اللبنانيون فوق رقعة من الوقت والاستحقاقات تملاؤها الالغام. وبرغم ان الذين عطلوا كل شيء في البلاد منذ سبعة اشهر ونيف على خلفية دعوة طهران الى هزيمة اميركا في لبنان، يعرفون تماماً ان لبنان بات ساحة لهزيمة اهله وابنائه جميعاً، فإن الاحتمالات الأميركية الكبيرة في العراق، باتت تفرض ان يستعيد البعض من أهل المعارضة الحد الأدنى من المنطق بما يساعد على ايجاد حل والخروج من الازمة المتمادية. اللبنانيون ذاهبون الى سان كلو لاكتشاف ما اذا كانوا قادرين بعد على ان يتحاوروا مجرد ان يتحاوروا (!) وعمرو موسى انهى زيارتيه الى الرياض ودمشق بالقول انه مصر على ان يواصل وساطته العربية، طبعاً بعد ان ينتهي اللقاء الحواري في باريس. والذاهبون الى الحوار غداً في باريس وبعده في لبنان هم تماماً بحاجة لسماع ما سمعه الطلاب المتخرجون من الجامعة اللبنانية الاميركية يوم الاحد الماضي من السفير السعودي د. عبد العزيز خوجه: "في هذا البلد العزيز والغالي والنموذج الحضاري الثقافي، امامكم مسؤولية كبرى اسمها لبنان. فلا تعبروا الى المستقبل بالعمل فقط بل بالتآخي والاتحاد والتوحد(...) لا تسمحوا لاحد بان يسرق حلمكم وان يخرب بلدكم. وتلك هي مسؤوليتكم الكــبــرى: ان يــعــيــش لبــنان، ان يعيــش لبنان، ان يعيش لبنان". راجح الخوري rajeh.khoury@annahar.com.lb