Monday, October 26. 2009
الوجودية الاسلامية ومسائل أخرى في حوار مع عبد الرزاق الجبران
أجرت صحيفة الوقت البحريرنية حوارا صريحا مع رئيس تحرير مجلة "الوعي المعاصر" المتوقفة عن الصدور...، فدار الحوار حول الوجودية الاسلامية ومغازي "جمهورية النبي" و كذا استحاثة لمفهوم "الجهل الاسلامي" بالآضافة إلى حديث مجمل عن مشاريع الاصلاح العربية وسر تفرد علي شريعتي عن المفكرين الباقين كما يرى ذلك الجبران نفسه، حقا يحاول هذا المفكر الفريد الثورة أو على الأقل التأسيس لثورة ...لكن السؤال هل هي ثورة عقل أم أنه عقل ثورة فحسب هذا ما سنعرفه بقراءة هذا الحوار الشيق.
من أجل "وجودية إسلامية" تنقلب على المعبد وتعيد "جمهورية النبي"
ينفتح بحثك حول النهضة والتجديد الديني بواقع الأمة ومآزقها، وتنظر إلى "الجهل الإسلامي" بوصفه مانعا في مسار المسلمين. فما هو تصوّرك لمفهوم "الجهل الإسلامي"؟ وما هي خلفياته ومراكماته؟
- الجهل بقيد الإسلامي, ليس مفهوما, بقدر ما هو حال وجودي يعكس تاريخا حجبَ الحقيقة قبل أن يحجب المرأة، تاريخا مؤسفا ومؤلما في نفس الحين, بحيث وكأني لا أجد فرقا بين الجهل الإسلامي والتاريخ الإسلامي، لأن الجهل الذي بناه المعبدُ يفوق الجاهلية التي هدمها، حتى وإن قيل إن الجهل أمر عدمي لا يبني, ولكنه أمر وجودي يؤثر, سيما أن للعدم مفهومه المفارق في الرؤية الوجودية، كما أن أصنام المعبد غدت أكثر من أصنام الكعبة!
الشيوعيون أقرب إلى الله
ومن هذا يمكن وعي حقيقة أن "البناء" أحيانا هو المشكلة وليس "الهدم"، ولفهم ذلك يتوجّب العودة إلى أبي ذر الغفاري كأول حامل لمعول النبي بعده، وإن كان معوله عظماً لجملٍ ذبحته ارستقراطية المعبد حينها. أبو ذر بقي دون مذهب, وفي هذا كانت عظمته، إذ أن جميع المذاهب تقف خلاف أبي ذر في وجوده الديني دون استثناء. الشيوعيون وحدهم منْ أعادوا قيمته, ولكن هذا ما أضاف إليه تهمة أخرى! وفي الحقيقة، كان الشيوعيون أقرب إلى الله من الإسلاميين في ذلك, سواء قالوا بالله أم نفوه معرفيا، فالله تعالى لا يهتم في منطقه المفارق بقوانين الجنة والنار التي صاغها المعبد. فإذا كان الشيوعيون يشربون الخمر في الحانة, فالإسلاميون يشربون المال في المسجد, والله تعالى ليس مشكلته السكارى وإنما الفقراء!
على هذا الشاطئ كان أبو ذر "نبيا", فلكل شاطئ نبيّه... المهم عندي اشكاليا, هو ان أبو ذر لم يخرج ضد السكارى، فلقد رجع الخمرُ في أيامه بشدة, كما لم يكن ضد الراقصات.. إذ أن أبا ذر شاهد ذلك كله في الشام، ولكن لم يكن همّه النبوي إلا الفقراء، ومازالت الأزمة الدينية هي أزمة أبي ذر عينه؛ أزمة الأرستقراطية الدينية، وبالتالي التاريخ مشكلة وجودية تلاحقنا. تلك القوانين التي صاغها المعبد, هي عين القوانين التي قامت على أساسها صناعة الحلال والحرام في التراث الديني, والتي مثلت الصناعة الأولى, أو الخديعة الأولى التي نجح بها المعبد, والتي تعود لها معظم الأزمات في التاريخ الجماعي للمسلمين.
مصدر الجهل ديني!
وعلى أي نحو أُتيح لمفهوم "الجهل الإسلامي" الترسّخ والتشكّل في حياة المسلمين اليوم؟
- للأسف, الجهلُ دينيُّ المصدر في الأمة، لذلك فإن التوصيف بعبارة: (الجهل الإسلامي) فيه تساهل, لأنه سيعني أن هنالك أنماطا من الجهل في التاريخ, أو لنقل أنه سيعني أن هنالك زوايا للجهل فيه, منها الإسلامي, ومنها غيره, بينما هو ليس كذلك. الصحيح هو أن التاريخ وتجهيله كان دينيا, دون غيره, لسبب بسيط هو أن تاريخنا ديني فحسب, فالدين هو الحاكم معرفيا وسلطويا في تاريخنا. يُضاف إلى ذلك كلية أخرى ترى أننا بهذا الركام الهائل من التراث الديني لم نكن أصحاب حضارة حقيقية في المعبد. قد أقبلُ أننا أصحاب حضارة حقيقية في الجواري, لا بأس.. رغم أن المعبد نفسه من أسّس للجواري على مستوى الحضارة, أو على مستوى الظاهرة, والظاهرة حضارة بحد ذاتها.
الإنقلاب لا التجديد
هذا الكلام قد لا يكون مألوفاً، ومن الممكن أن يعتبره كثيرون تطاولاً!
- قد يكون كذلك، ولكنه مصارحة بالحقيقة ليس إلا! وبهذه الصراحة فحسب يكون الإصلاح الحقيقي, لأن الإصلاح على ما يبدو هو "إنقلابي" بكلّ معنى الكلمة، وليس "تجديديا".. وحاجتنا إلى الإنقلاب وليس التجديد في الدين ومعارفه وواقعه, لأنه بلغ ذروة الزّور, ومنطقي في ذلك أن ذروة الزور تستدعي ذروة الحقيقة، وفي ذلك منطق (العود الأبدي) كما أحب أن أراه. بعبارة أخرى؛ المعبد كَذّبَ بما فيه الكفاية, و"لا تجديد في الكذب"! لا أدري؛ أيمكن ان تُرفض هذه العبارة "لا تجديد في الكذب"؟! إلا إذا جهل العربُ التضاد في لغتهم! لذا طالما أنه لا تجديد في الكذب, إذن لا يصحّ في الإصلاح إلا الانقلاب, على اعتبار أن الصّدق والكذب لا يجتمعان, كما يرى المنطق في بديهة التناقض.
حسناً، هل يمكن أن تذكر عناوين لما تعتبره مصدرا إسلامياً للجهل؟
- هناك عناوين عدة في التراث لمصدرية الجهل الإسلامية, وتمثل "السجون" الأهم في الوجود الإنساني ودينيّته, وبالتالي اجتماعيته. تبدأ المسألة بقاعدة "لا اجتهاد قبال النص", وهي القيد الأكبر. ولكن الأنكى هي مسألة عدم جواز الإبداع خارجه، أي حتى وإنْ كان موضوع الإبداع أمرا مسكوتا عنه في النص, أو ليس له من معارض, فلا يجوز التأسيس والتأصيل الذاتي. وكأنه يُراد أن يُقال أنْ لا إبداع بدون المعبد والفقيه, رغم أن النصّ أقل من الوجود, وهذا ما يجعلنا نمتد إلى التأصيل الوجودي, والإنقلاب من النصّ إلى الوجود.
تديين الأشياء
ولكن أساس الفقهاء كان يقوم على ذلك، منذ لحظة الأشعري وقبله!
- نعم، ويعود بنا ذلك إلى أزمة أخرى تقوم مع أبي الحسن الأشعري, في رؤية أن (الشرع من يقرّر الحقيقة), ليس لأنها تحمل أصالة المنقول على المعقول, ولكن لتعسّفها في تقييد الأشياء بالشرع مهما كانت الأشياء خارج إطار الشرع, أي ضمن منطقة الإباحة, أو ضمن منطقة الفراغ التشريعي كما يسميها المفكر العراقي باقر الصدر. وكأن الوجود يُحال كاملا على كتب الفقهاء، أي ما سكتَ عنه القرآن تدخّلوا هم فيه! لذا جميعنا يرى أن الفقهاء تكلموا أكثر مما تكلم الوحي! عن هذا الأسّ الأشعري كان منطق صناعة الحلال والحرام وخديعتها، ومن هذا قامت المغالطة الكبرى في أطروحات ما سُمّيت ب"إسلامية المعرفة"، فهنا الطامة حيث عملية "تديين الأشياء"، رغم أن الماهية الوجودية للأشياء هي خارج الدين، وهذا يعود إلى جهل مفهوم الدين عينه. فالمعنى الذي تحمله الأشياء والأفعال أمر وجودي وذاتي وليس كهنوتيا، ولا يحتاج إلى معبد كي يحدّد نوعَ وجوده, ووجود الشيء أمر مفارق لفكرة الحلال والحرام، إنه وجود بريء، كما أن إبداع المعنى ايضا أمر إنساني وليس إلهيا, فلا دخل للمعبد فيه.
المنطق الأرسطي
ولكن ما هي المصادر التأسيسية الأكثر بروزاً في تكوين هذا الجهل الإسلامي بتعبيرك؟
- كان دخول المنطق الأرسطي إلى نظام الفقه وعلم الكلام وأصول الفقه, هو أكبر معين لإشكالية صناعة الحلال والحرام على مقاس المعبد وأيديولوجياته المذهبية والاقتصادية. (المعبد متهم اقتصاديا أكثر مما هو متهم مذهبيا). فما للفقهاء بالمنطق الأرسطي، هو عينه ما للشعراء باللغة، حيث استُفرغت عبر صورية هذا المنطق كلّ وجوديات الأشياء وآثارها الحياتية، ومنها خرجت كثيرٌ من الأحكام التعسفية في الأديان الأخرى والزواج الديني والمذهبي والحيل الفقهية, وعناوين المال والمرأة والحدود.. وهكذا ما بين (أرسطو والأشعري) طالت لحانا، وبالتأكيد كبر جهلنا! إذ من أين جاء رفض بناء الكنائس وعموم معابد الأديان الأخرى في ديار المسلمين؟ وعدم جواز ترميمها، وعدم الزواج بهم إلا على مستوى انتقال نسائهم لطرف الأنا؟! لا توجد أصول حقيقية/ معرفية لهذه الأحكام وغيرها، ولكن المشكلة أن المعبد هو الذي يُحدّد مفهوم "المعرفي والعلمي"، حتى وإنْ كان محض جهل!
الكيفية في التراث الديني
هل هذا يعني أن التراث الديني، في رأيك، لا يملك البُعد الوجودي الذي تتحدّث حوله؟
- نعم.. البعد الكيفي/ الوجودي مفقودٌ في التراث الديني, سواء أكان فقهيا أو كلاميا. الصّورية تملك معظم زواياه، وهذا ما أرادت نسفه الصوفيةُ في اتجاهها الحقيقي ونجحت فيه كثيرا، وهو عينه ما جرّنا إلى فكرة الوجودية الإسلامية أو لنقل الدينية, لأنها لا تمنح أولوية لدين على آخر, طالما أنها جوهرية تبتعد عن الصورية, لذا تضع نصبَ عينيها مقولة "كيركجارد" مؤسس الوجودية الدينية: "ليس المهم ما نؤمن به, وإنما الكيفية التي نؤمن بها", وهي المقولة الأساس التي قامت عليها كل الأحكام الصّوفية التي خرجت بها على أحكام المعبد.. كما أنها المنطق الطبيعي لسنة النبي وحوارييه. وبهذا المنطق في التأسيس من جديد بين الشريعة والحقيقة, تخرج أحكام الوجودية الإسلامية.
الوجودية الإسلامية
سيكون من المفيد لو وضعتَ توضيحاً لمشروعك هذا في الوجودية الإسلامية.
- الوجودية الاسلامية لاتريد الحاق الدين بالوجودية الغربية؛ الدينية طبعا.. بقدر مايريد ان يجعل من الدين وجودا انسانيا. لذا الوجودية التي نسعى اليها, ليست ذاك المذهب الديني في خط كيركجارد , وانما مزيج من ثقافات واتجاهات وتجارب وكلمات دينية واخلاقية وجمالية وصوفية وفلسفية وادبية على طول التاريخ, انتجت (معنى) انساني وجودي حياتي, بمعاناتها الوجودية لا باوراقها .. ولان ذلك المزيج يجمع فقط ما يؤثر في الانسان كحياة, كوجود, وليس كمعبد وعلوم, لذلك اخذ الحل الاسم الوجودي. ولابعاد أخرى ابرزها الثقل الكبير للانقلاب الفلسفي التي قامت به المدرسة الوجودية المؤمنة(خط كيركجارد), في انها مدرسة ارادت ان تكتشف معنى الوجود الانساني, كي تعلم الانسان انسانيته او وجوده الحقيقي, او كيف يحقق وجوده, او وجود الله فيه.. وانها اعتمدت فلسفة الحياة وتخلصت من التجريد.. وانها اخذت نكتة الشعور كمدار لتلمس الوجود الحقيقي للاشياء, وكمعيار الحقيقة.. واعتبارها ان الوجود هو المعطى الانساني وعالمه دون كل العوالم.. واعتمادها مسالة الموقف في نتاج الشخصية والمعنى.. وادخالها مفهومي القيمة والمعنى.. واعتمادها مسالة الكيف في روح الفعل.. وانها تيار انسانوي قبل كل شيء؛ يحضن كل العناوين الجمالية التي خلت منها الاديان في تأدلجها, ويرفض فكرة الانتماء, ليكون للانسانية انتماء واحد هو اللاانتماء.. وانها رفضت ان تكون هناك نهاية المعرفية معها .. وانها تتاسس في عيارها لقيمة الفعل الانساني على خلق المعنى, بحيث تكون الأصالة لاية( افمن يخلق كمن لايخلق..) دون آية( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون)
سواء كان ذلك هو ماارادته الوجودية او ماتمنينا ان تكون عليه, او بالاحرى ما حاولنا ان نسير به في وجوديتنا الدينية .. لامشكلة في ذلك, كونها اصلا مذهبا مفتوحا على اللانهائية وتستطيع ان تختلط فيها كل الاجناس والاديان لتتوحد باتجاه المعنى الجميل, تعبيرا عن اله واحد, لتمثل في انسجامها ابلغ (وحدة وجود), فقدتها الصوفية في عباءتها..
كما انها معنا كـ (حَل) لا تنتمي تقليدا لوجودية ما سيما انه لاوجود لوجودية واحدة ولكنها استهدت باسس ومقولات كبرى عنها, تتشضى بين الوجوديات, لكنها تؤؤل الى حاضنة كيركجارد الثائر اللاهوتي الاكبر, سيما كونه الوحيد بين الوجوديين من حيا حياة وجودية قبل ان يكون فيلسوفا في الوجود, كما كان الباقيين.. من جهة اخرى, كي نتجاوز خدعة الاسماء. لانقصد بالاتجاه الوجودي؛ سارتر بقدر مانقصد ابو ذر, ولاهيدكر بقدر مانقصد الحلاج, ولاياسبرز بقدر مانريد غاندي.. ولاغابريل بقدر مانريد يونس العيار.. ولاسيمون دي بوفار بقدر مانريد الحر بن يزيد الرياحي, ولاالبيركامو بقدر مانريد جلال الدين الرومي..وهكذ, من اسماء غابرة في التاريخ تمثل الوجه الاكبر للوجودية الانسانوية, والذين نحت عنهم كيركجارد مقاس الوجودية الاول قبل ان تنزو عليه الشلة السارترية…
اسي في ذلك هو انه؛ لايمكن ان تتيه عليك اشجارالله, في معامل البشر. ولكن يمكن ان يتيه عليك دينه, في معابدهم…
وطالما اننا في تيه بهذا الاسلام التاريخي.. فلاخروج من ذلك التيه , الا بـ (الخروج من المعبد الى الوجود). لاننا في تيه معبدي وليس تيه وجودي. والى ذلك ايضا تحال التسمية ايضا..
عموما، الانقلاب من المعبد إلى الوجود, أي من أحكام المعبد إلى قيم الوجود,ستُطرح فكرة الفقه الوجودي الخارج إنقلابيا على مباني الفقه الأرسطي وسيتحوّل التأصيل؛ من التأصيل الشرعي إلى التأصيل الوجودي, رغم أنه تأصيل يعود إلى الرسول في وجوديته بالأولوية على القران, لأن النبي ووجوده/سنّته في عقيدتي هو أهم من الوحي والقرآن، ورؤيتي في ذلك هو؛ أنه ليس غاية الله في نبيه "إيصال الكتاب"، وانما غاية الله في كتابه "إيصال النبي". هذا المنطلق في الوجودية إلاسلامية؛ وجدتُ معظم نتائجه منتمية إلى روح الإسلام ووجوده، وهذا ما أحاول أن أخرج به في كتابي "جمهورية النبي".
كما ان ذلك سيفضي الى تجاوز عناوين يرفضها اصول الفقه, من قبيل(لااجتهاد قبال النص) او لم يفكر فيها اصلا, مثل( مقصد الجمال) وبالتالي فقه الجمال..
شرعية اللا مألوف
أنت تعلم أن هذه النتائج غير مألوفة على الإطلاق، وأنت مُطالب بإسناد شرعي يُعزّزها، فما هي شرعيتك؟
- قد تكون الأحكام التي تخرج بها الوجودية الاسلامية غير مألوفة, ولكنها في عقيدتي تأخذ شرعيتها الاولى من عدم مألوفيتها بالذات, قبل أن تأخذها من أدلتها المركزية, لانها مسألة انقلابية, وتاريخ الفكر الإصلاحي هو تاريخ طلاق ليس إلا، لذلك فالوجودية الاسلامية تتجه إلى عدم أصالة الكثير من الأحكام التي اُعتبرت فروضا, كما أنها تتجاوز ما يُطرح من تغيّرات في الأحكام- والتي تعتبر طفيفة نسبة إلى ما تغيّره الوجودية الإسلامية- من قبيل شرعية الزواج من الكتابي بل وغير الكتابي, وإن كان بوذيا.. هذا يعتبر بسيطا الى ماتغيره الوجودية الاسلامية, كونها تمتد الى أبعد من القضايا الخلافية في الفقه, وكأنها تنحى المنحى الصوفي في طلاقه لمنظومة الفقهاء. ولكن لايعني هذا انه لايوجد اسناد شرعي, ولكن هذا ليس في مجال كتاب جمهورية النبي, وانما في كتاب؛ الحل الوجودي للدين, بجزئيه؛ انقلاب المعبد, والحقيقة والشريعة.
من الواضح أنك تستقي رؤيتك هذه من وجودية "كيركجارد" ومن الصوفيات التأويلية.
- صحيح أن الإصلاح الإسلامي عندي وجودي, والمشكلة اني أأخذ جذوره من "كيركجارد" من حيث الانتباهة المنهجية- ماذا افعل؛ احيانا الحقيقة كما العشيقة تجرك الى مكانها, لتؤسس وطنك, لانها هي وطنك..- ولكنه يقوم في منحاه التأصيلي على سنة النبي. وفي نفس الوقت يقوم على أسماء تاريخية تختلف في أديانها, فقد تؤصّل أحيانا عن البوذي أكثر من المسلم, أو عن الصيني أكثر من العربي, من الروائي أكثر من الفيلسوف, ومن العيّار اكثر من الفقيه. وفي هذا المنحى تبدو وجودية الفكرة حقيقية. معظم ذلك يقوم على أسّ أنحته خصيصا لهذه الوجودية وهو أن: "الحقيقة ليست بعيدة.. الأسماء تبعدها", وبالتالي تبدو المسألة الأساس هو عملية تجديد الأسماء.
لديك تجربة في رئاسة تحرير مجلة إشكالية هي مجلة "الوعي المعاصر". كيف تصفها اليوم بعد انقطاعها المتوقع؟
- مجلة الوعي المعاصر مشروع صلّى كثيرا، ولكن مشكلته أنه أراد أن يصلي خارج المعبد, فلم تُقبل صلاته! الغريب أنه لا يوجد لديهم معبد ومحراب واحد, فلكلٌّ معبده الأيديولوجي والحزبي الخاص. فلم تكن الصلاة متعلقة بمعبد الله, بقدر ما أنها متعلقة بمعبد الحزب. لذا حاربته المؤسسة الدينية،الشيعية هنا، معنويا وماليا. علما أن "الوعي المعاصر" لم يكن مشروعا شيعيا, بل لم يكن إسلاميا، إذا أُريد بهذا الوصف نفي الآخر, دينيا أو أيديولوجيا، بما تعنيه اليوم "أسلمة" الاشياء والوجود والأنماط الجماعية, أو بمعنى التبشير بالتراث الإسلامي المالوف قبال العلمانية مثلا. كان مشروعا صوفيا يؤمن بوحدة الأديان, كما يؤمن بأريحية الحقيقة وانفلاتها عن الأسماء والألقاب الدينية، فلا فرقة ناجية ولا أولوية لدين على آخر. كان مشروعا إسلاميا من جهة أنه يؤمن بالإسلام النبوي بوصفه حقيقة معصومة، ولكن كان على هذا المشروع أن يتيه لكي يجد هذه الحقيقة. كان مشروعا تغييريا بكل معنى الكلمة, ومستقلا عن كل محراب. ولكن كما أسلفنا, أنت في الوعي الشيعي إما أن تصلي بمحراب المرجع والحزب, أو أن تحمل محراب الفقر والتهميش والتشرّد، وكان قدر المجلة ونادلها عند ذلك المحراب, وما أجمله من قدر!
مشاريع الإصلاح
وما رأيك بالمشاريع الإصلاحية الأخرى؟
- معظمها, بل جميعها, لا تصحّ معها إلا ألمعية أودونيس في مقولته: "بنية الفكر العربي وآليته لم تتغير، وإن الفكر الذي سميناه جديدا, ليس الا ماءا نشربه من الإناء القديم ذاته"! وأعتقد أن ذلك يعود الى أن سيكولوجية المعبد تاريخية في طريق المثقف, وهي تحمل عنوانا يخدش الرجولة, لأن المثقف دون فروسية لايجد كلماته, كما لايجد المحارب فرس، الخيل الأصيلة لا تقبل إلا فارسا, وكذلك الكلمة الأصيلة. سيكولوجيا المعبد مع المثقف في التجديد الديني هي سيكولوجيا جبن للأسف. والغريب ان "جبن" المثقف أكثر من "طمعه", بينما طمع المعبد أكثر من جبنه، وفي هذا المثقف متهم قبل رجل الدين.
علي شريعتي
ولكنك في "الوعي المعاصر" كنت تحتفي كثيراً بعلي شريعتي، ولديك كتاب حوله!
- شريعتي كان فارسا حقيقيا, وهذا ما جعله أسطورة, إذ أن بنية الأسطورة تحتاج فارسا فحسب, وليكن ما يكن, لصّا أو منبوذا أو زنديقا! ولهذا السبب كانت قيمة الحلاج و الأفغاني, بينما لم يكن ذلك مع ابن سينا وابن خلدون، وكل ما قيل فيهم فهو هراء! شريعتي كان عملاقا, بكل معنى الكلمة، ولكن للأسف عين الجبن والمصلحة اللذان تكلم عنهما بمرارة حول المثقف, هو الذي حال دون أن يذكره حتى التنويريين الشيعة, كما أن عين الطائفية هو ما منع المثقفين السنة من ذكره, رغم أن شريعتي لم يكن مذهبيا، ورغم ان المثقفين يعلمون ان الميزة اللصيقة بماهية المثقف هي أن يكون لا منتميا. وإلى وقت قريب، حينما يؤتى بسياق يقتضي جرد رجالات الاصلاح, وبالطريقة المعهودة؛ الافغاني, عبده, الطهطاوي, الكواكبي, اقبال, مالك بن نبي.. لم يكن هنالك شريعتي قط، رغم أنه في عقيدتي يفوق أولئك قاطبة, وهم يدركون ذلك بنسبة ما! معظم المثقفين الدينيين المرتبطين مذهبيا, ممن يؤمنون بشريعتي في داخلهم, خذلوه بسبب الجبن والمصلحة، هؤلاء كانوا متورطين بما كان يحاربه شريعتي في إسلام المشايخ وفي بنية رجل الدين في اعتياشه على أموال الناس بأرستقراطية وعطالة منقطعة النظير!
دعوة "حب الله"
يتحدّث الشيخ حيدر حب الله حول ما يسميّه بالإصلاح الشيعي والاعتدال الشيعي، ويدعو إلى مؤتمر للمعتدلين الشيعة لمواجهة طوفان التطرف والغلو الشيعي. وقد جرّت عليه هذه الدعوة الكثير من الاعتراضات وسوء الفهم والمخالفات الشديدة. ما هي وجهة نظرك في أطروحة الاعتدال هذه؟
- طالما أطروحته تدعو إلى الاعتدال وعلى مستوى المؤتمر, وباستقلالية فإنها خطوة كبيرة ومهمة، أقلها لم يكن مثلها من قبل، رغم أن الإصلاح الشيعي يحتاج إلى أبعد من ذلك, لأنه قائم على نظام المؤسسة قبل نظام الفكرة، أي الأزمة الشيعية تكمن في بنية المؤسسة الدينية/ المرجعية وليس في بنية الفكرة, وإلا فالاتجاه الشيعي أكثر انفتاحا من باقي المذاهب, ولكنه أكثر توقفا بسبب أرستقراطية مؤسسته, وأقل اجتهادا لعين تلك البنية، إذ أن بنية المؤسسة قائمة على ارستقراطية رجال الدين. عموما، المثقف الديني في الاتجاه الشيعي, مثقف مخمور بالمال, لذا هو يعيش سكر المؤسسة الدينية عينها، رغم أن خمرة المال أكثر أثراً من خمرة النبيذ، وبالتالي هو متهم بأنه عدميٌّ في إصلاحه, وخائن لدعوى الاصلاح في مدار لقبه كمثقف ديني، فهو يوازي النقدي والخوارجي على محيطه, وبالتالي على مذهبه ودينه التاريخي، لاسيما في جبلة التشيع الحقيقي, الذي يمثل في عقيدتي صورة جميلة, ولكنها حزينة, وهنا أسطوريته حينما يجتمع الجمال بالحزن، بل لا يقبل التشيع لنفسه أن يُسمى (مذهبا), وإنما هو (طريقا) حرا يقبل كلّ المداسات, ومأذنة عالية تتواضع لكل المآذن, وتسمع كل النواقيس, تنتظر البوذي في صلاته, وتساعد الزرادشتي على نيرانه. إنه طريق يقبل كلّ الطرق, كما قبل جبرائيل كلّ الانبياء!
المرجعية والمثقف الديني
وهل سيتواصل الدور المحوري للفقهاء (مراجع الدين) في البيئة الشيعية؟ وهل تعتقدون أن هذا الدور إيجابي وضروري أم أنه يؤدي إلى فرض الطوق الفكري وتكبيل الحريات الثقافية؟
- ارتباط المثقف الديني ماليا بالمؤسسة الدينية/ المرجعية, يجعله تابعا لها من الناحية الفكرية, ومتماهٍ مع صورتها, وهذا ما يحول دون الإصلاح، إذ لا يمكن للإصلاح أن يخرج من الإطار المرجعي, لأنها حارسة للتقليد, ومشكلة الإصلاح هو التقليد. لذا كل المثقفين المرتبطين بالمؤسسة المرجعية هم متهمون من رأسهم الى أخمص قدميهم. المؤسسة الدينية بكل مذاهبها سواء في أُنسها بوادي الظلام، كما أن وجود المثقف معها هو دائما وجود استعبادي, أي أن رجل الدين يستعبد المثقف عادة، وهنا تفاهة المثقف الديني. والحقيقة أنه لم يعد همي المرجعية الدينية, لاستحالة أن تكون محلا للإصلاح لقيامها على البنية السالفة، بل إن الإصلاحي حينما يغدو مرجعا يذوي إصلاحه ويتراجع ويتماهى. وهذا ماحصل لمحمد حسين فضل الله بعد مرجعيته, حيث إن أمراض المؤسسة الدينية طرأت عليه بقدر ما, فشابهها بالكثير، رغم أنه أبرز علمية تقليدية ظهرت في المؤسسة الدينية الشيعية، ولكن أبا ذر لم يجعل (العلمية) هي قياس القيمة في الإصلاح لدي, لذا كان السيد فضل الله مشتركا في أزمة المؤسسة. بالتأكيد لا يمكن تصنيف باقر الصدر على هذا المنوال لأنه قصة أخرى, فهو مؤسس الاجتهاد عينه, بما لايجرؤوا حتى على التتلمذ عليه!
وعلي أي نحو تقارن بين الإصلاح في المدرسة الشيعية مع بقية المدراس الإسلامية؟
- في الواقع لا وجود لاجتهاد حقيقي في الإسلام المعاصر، لا سني ولا شيعي! هناك مفهوم ظلامي بقيت دلالته للأسف يذيعها الماضي، ولطالما يسرق الحاضرُ من الماضي. وهكذا فالمؤسسة الدينية بكلّ مذاهبها متورطة في كل أنواع السرقات؛ سرقة الماضي, سرقة الناس, سرقة الوحي, وبالتالي سرقة الله! ولكن ما يهمّني هنا هو سرقة الناس, وهو همّ الله تعالى, لأنهم عياله، فالله تعالى أرسل دينه من أجل بلال الحبشي كي يتحرّر, وليس من أجل مأذنة المسجد الحرام كي تُبنى.. وهكذا توسّعت مساجدنا, وتكبّل بلالنا. وشكرا لكم, ولصحيفة الوقت
|