إن الحدود الفاصلة بين الأخلاق والسياسة لم تصل إلى مستوى من التداخل والضبابية مثلما وصلت إليه السياسة الدولية في المرحلة الراهنة، فقد كان الساسة في السابق يتحلون بحد أدنى من الصدق في تصنيفهم الأخلاقي المرتبط بالعمل السياسي الذي يدافعون عنه.
غير أن الحقبة المعاصرة بدأت تشهد ميلاد بلاغة سياسية غريبة، يمدح وفق صورها البيانية القبيحة، أقوياء العالم أعمالهم المدمرة للشعوب الأخرى، كما أنهم لا يجدون حرجاً في توظيف الأعمال والنشاطات التي تمارسها المنظمات الإنسانية في سبيل دعم مشاريعهم وخططهم السياسية. والخطأ لا يكمن فقط في الوصف المعياري الذي يتصل بمشروعية العمل، ولكنه يتجاوز ذلك إلى مستوى وأسلوب قراءة النتائج العملية المباشرة المترتبة على العمل نفسه، الأمر الذي ينجم عنه اضطراب رهيب في مستوى سلم القيم والمعايير التي يمكن لشعوب العالم الاحتكام إليها، من أجل تقييم نتائج الأفعال السياسية التي تمارس على مستوى الساحة السياسية الدولية.
إن الثورة الإعلامية والمعلوماتية المعاصرة وتنظيمات المجتمع المدني، استطاعت أن توفر لشعوب الكرة الأرضية أدوات حية ومباشرة من أجل الحكم على طبيعة الأحداث الدولية، ولم يعد امتياز الحكم على ايجابيات الأحداث أو على سلبيتها حكرا على الحكام ومشرعي القوانين الدولية، وأضحى المواطن قادرا وإن بدرجات متفاوتة، على صياغة أحكامه وتصوراته بصدد تطورات الأحداث. وبالتالي فإن تقييمه لمسار الأحداث نفسها لا يتوافق بالضرورة مع الاستنتاجات التي تصل إليها الأنظمة والحكومات، بل إن السلطات تضطر في حالات كثيرة إلى تعديل خططها حتى تجعلها مقبولة بالنسبة للرأي العام خاصة بالديمقراطيات الراسخة في أوروبا الغربية. غير أن كل ذلك لم يمنع ولن يمنع أيضا في المستقبل المنظور، الحكومات من التحكم في طبيعة الخبر ومن صيغة المعلومة من أجل التأثير في ردود أفعال جماهيرها، الأمر الذي يوضح الصعوبة البالغة التي تميز العلاقة غير المتوازنة ما بين المبادئ العامة والممارسة السياسية المباشرة للدول والأنظمة.
ويمكن القول إن الميكيافلية الجديدة للنظام الدولي الحالي فاقت ممارساتها المدمرة لحرية وحقوق البشر كل مقتضيات وحدود الحفاظ على الأنظمة وسلامة الدول وديمومتها، ولم تعد الغاية تبرر الوسيلة فقط بل وأصبحت الغايات بمثابة الشجرة التي تخفي وراءها كل أشكال الهيمنة على الشعوب والدول، بدعوى الدفاع عن الحرية والديمقراطية وحماية حقوق الأقليات العرقية والدينية. وذلك من أجل تفتيت الكيانات والأنظمة لترسيخ عولمة دولية مجهولة الهوية، لا مكان في تفكيرها لا للسياسة بمعناها البسيط والواضح ولا للأخلاق بتصوراتها النبيلة. الأمر الذي يُحوّل العمل الإنساني الهادف إلى تقديم المساعدات للمتضررين من الحروب والصراعات الداخلية، إلى وسيلة من أجل تحقيق أهداف سياسية غامضة ومشبوهة. فقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الجورجية الأخيرة، مظلة المساعدات الإنسانية لإقامة جسر يتم بموجبه تزويد النظام في تبليسي بالأسلحة والذخيرة. كما أن القوات المسلحة الكولومبية لم تتردد في استخدام شعار الصليب الأحمر الدولي، من أجل تضليل المتمردين وتحرير الرهائن الغربيين، وهو ما سيشكل ضربة قوية لمصداقية عمل المنظمات الإنسانية غير الحكومية.
والاستنتاج نفسه يمكن أن يصدق على العمل الدولي الإنساني المتثاقل في الصومال والبعيد عن النزاهة والمصداقية في غزة، ولكن جسارة المنظمات الإنسانية التي وصلت إلى حدود التطاول في دارفور جعلت المعادلة تتجه نحو طرفها النقيض، وذلك لاعتبارات سياسية صرفة يصعب تصديق أو تسويق دوافعها الأخلاقية والإنسانية رغم الارتفاع البالغ للأصوات الدعائية التي روّج لها الإعلام الغربي. وهو الإعلام ذاته الذي لم يتردد في إسكات ضجيج فضيحة أعمال منظماته الإنسانية في تشاد في وقت قياسي، وجعلها تُقبر وتصبح نسيا منسيا.
لقد أصيب العمل الإنساني الدولي في مقتل منذ أن ارتفعت الأصوات الغربية المنادية بحق التدخل في الشؤون الداخلية للدول، من أجل حماية ما تصفه بحقوق الإنسان داخل دول تعتبرها غير صديقة لها. لكن هذه الأصوات سكتت في المقابل عن الحقوق نفسها حينما تعلق الأمر بالشعب الفلسطيني، ولم تجد حرجا في الدفاع عن مبدأ سيادة الدول حينما تعلق الأمر بمصالح حليفها الوفي في جورجيا.
ويمكن القول إن الخلل الكبير الذي يسم السياسة الدولية بميسمه، يرتبط بضعف قدرته على وضع مبادئ قادرة على توفير قيادة جيدة للتوجهات السياسية والأخلاقية الكبرى، التي يدافع عنها النظام الدولي الجديد. الأمر الذي يدفع بمختلف القوى الفاعلة إلى الاعتقاد أن من حق كل طرف أن يعدل في سلم القيم الدولية بالشكل الذي يحمي مصالحه، حتى وإن تعارض ذلك مع أبسط القوانين الإنسانية التي تدافع عنها مختلف الشرائع والمنظومات الفكرية المختلفة. وقد سبق “لمنتيسكيو” أن أوضح أن فساد الممارسة السياسية للأنظمة ينطلق من فساد مبادئها، لأنه حينما تكون المبادئ السياسية والأخلاقية سليمة بالقدر الكافي، فإن القوانين السيئة يكون لها في معظم الحالات نفس الآثار المترتبة عن القوانين الجيدة، لأن قوة المبدأ تجر خلفها كل الأشياء الأخرى نحو مسارات ايجابية على مستوى التصورات والممارسات. كما أنه وفي الحالات التي تفسد فيها المبادئ ويعتريها القصور ويغلّفها النفاق والتضليل، فإن أفضل التشريعات وأكثر المنظومات القانونية تطورا وتقدما في العالم، تصبح سيئة وتنقلب على الدول والأنظمة التي تدافع عنها وتدعمها.
ونعتقد أن العالم أصبح الآن في أمس الحاجة إلى إعادة صياغة مبادئه، وفق قاعدة التكافؤ والندية خاصة بعد أن بدأت تلوح في الأفق بوادر انحسار القطبية الواحدة، واتجاه المحيط الدولي الجديد نحو عالم متعدد الأقطاب. وهي الوضعية التي تجعل المجتمع الدولي في مواجهة مسؤوليات جديدة، تفترض التزام مختلف الأطراف الفاعلة بحماية نزاهة المبادئ الدولية حتى لا يغرق الجميع في أتون حروب عالمية جديدة لا تبقي ولا تذر. ومن نافلة القول إنه حينما تنقطع الفضيلة من العالم، لا تصبح الأوطان والدول محبوبة لذاتها وإنما من منطلق المنفعة الفردية التي يمكن أن يجنيها الأفراد من وراء دعمهم لوجود تلك الدول وللأنظمة التي تسوسها، ولسنا في حاجة إلى التأكيد أن تفشي مثل هذه السلوكيات يعتبر مؤشرا قويا إلى قرب زوال الدول وانهيار التشريعات الدولية التي تدعمها.