في استقالة الرئيس حسين الحسيني من مجلس النواب التي اعلنها قبل يومين احتجاج صارخ وصادق على الممارسة السياسية العامة في لبنان وعلى الاطراف السياسيين اللبنانيين كلهم الى اي دين وطائفة ومذهب انتموا وعلى الطينة السياسية اللبنانية بقديمها وجديدها الذي افرزته الحرب الاهلية ومعها الحروب الاسرائيلية على لبنان والمقاومات المتنوعة لهذه الحروب.
وفيها ايضاً احتجاج صارخ وصادق وإن غير معلن على الجهات العربية والاقليمية والدولية التي اعتبرت لبنان ساحة لتصفية حساباتها او لخوض حروبها او لتنفيذ اجنداتها ومخططاتها السياسية المتنوعة والتي استعملت "شعبه" المنقسم ومن يمثله ادوات في كل ذلك. ولا تمييز في هذا الاحتجاج بين الصديق من هذه الجهات للبنان او العدو او حتى الشقيق وخصوصاً بعدما اصبح الاشقاء اعداء لدودين بعضهم لبعض وبعدما اتخذ كل منهم فريقا لبنانيا كي لا نقول طائفة او مذهبا او قسما من طائفة او مذهب متراساً يقاتل اشقاءه به.
وفي الاستقالة ثالثاً واخيراً وهذا هو الاكثر خطورة نوع من الاحباط او ربما اليأس الذي غلب شخصية سياسية لبنانية مرموقة عرفت على الدوام منذ بدء الحروب عام 1975 وبعد انتهاء الجانب العسكري منها واستمرارها سياسياً منذ 1990 بالتفاؤل والامل في المستقبل. علما ان ذلك كله لم يعنِ يوماً سوء تقدير عند "السيد" مقدار ما كان حرصا على استمرار البحث عن حلول او على تشجيع البحث عن حلول. وهذان الاحباط واليأس دفعاه الى القول وبالفم الملآن في مجلس النواب وخارجه بعد الإستقالة منه ان دافعه الى ذلك كان رؤيته الوطن كله سائرا نحو الدمار ورغبته في عدم المشاركة في دفعه الى هذا المصير وإن على نحو غير مباشر ذلك ان الجميع يعلمون ان دوره على اهمية شخصيته وادواره السابقة لم يكن كبيرا لان المرجعيات المهمة المحلية وغير المحلية لم تكن ترحب به لاستقلاليته عنها رغم مشاركته اياها في المبادىء العامة ورفضه السياسات التطبيقية لهذه المبادئ التي ادت وستؤدي مستقبلا الى عكس جوهرها ومضمونها.
لكن الانصاف يقتضي الاشارة من باب الواقع وليس من باب "الزكزكة" للبعض او الاحراج للرئيس الحسيني ان استقالته المدوية قبل يومين كانت ايضاً احتجاجاً صارخاً وصادقاً على مجرى الامور والاوضاع والتطورات داخل طائفته وخصوصا بعدما صار كل من الطوائف والمذاهب الاساسية حزباً واحداً أو خاضعة لحزب واحد او فريق واحد او مرجع واحد له شعبية داخلية مهمة وله في الوقت نفسه رعاية خارجية اكثر اهمية. فالذي حصل في طائفة الحسيني اي الطائفة الشيعية هو انضواء الغالبية الساحقة من ابنائها تحت لواء "حزب الله" المقاوم لاسرائيل وهو تحول الحركات الحزبية الشيعية الى العمل في ظله او في "كنفه" بعدما نجح في تجويف الارض من تحت اقدامها بوسائل شتى وهو انضمام الشخصيات السياسية المستقلة او معظمها اليه. وحصر ذلك معارضي الحزب داخل طائفته في نطاق ضيق جدا ومنعهم من استقطاب الناس ليس خوفاً من الحزب فقط بل وعياً للانجاز التحريري الذي قام به وحماية للامن الذي وفره لهم في مناطق الجنوب بعد عقود طويلة من عنف اسرائيل واذلالها. ولا شيء يمنع آخرين من الشيعة غير الرئيس الحسيني وقد يكون بعضهم مهماً جداً من الاقدام على خطوة مماثلة للتي اقدم عليها من الآن الى حين موعد الانتخابات النيابية المقبلة او بعدها اذا وجد انه صار اداة او ديكوراً ومجرد وسيط مفوض وناطق رسمي.
هل سيكون الوضع الشيعي المشروح اعلاه وحيدا في لبنان؟
لن يبقى وحيداً استنادا الى المتابعين المراقبين للاوضاع اللبنانية وتطوراتها، علما ان ذلك قد لا يتم بين ليلة وضحاها ولكنه في الوقت نفسه لن يستغرق زهاء عقدين ونصف عقد، وهي المدة التي احتاج اليها "حزب الله" بكل مرجعياته الاقليمية كي يستأثر "بتمثيل" الغالبية الساحقة من الطائفة الشيعية. والسبب الاساسي لذلك هو استشراء المذهبية بعد استيقاظها المتدرج منذ نحو عقدين وتحولها حرباً متقطعة سياسية واعلامية وعنفية. و"الشعب" اللبناني او الطائفة المرشحة للسير على خطى الطائفة الشيعية هي الطائفة السنية. ذلك انها صارت تملك الكثير من الحوافز لجمع الصفوف. الحافز الاول، كان اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي جمع معظم السنة من معتدلين واسلاميين اصوليين لمواجهة من ظنوا او يظنون انه وراء الاغتيال ولمواجهة "حلفائه" اللبنانيين الذين صادف ان واجهتهم كانت "حزب الله" وحركة "امل" والطائفة التي يمثلون اكثريتها "الساحقة والماحقة" وظهرت الوحدة السنية في انتخابات 2000. وهي مستمرة لكنها تتعرض للتحوّل التدريجي البطيء ولكن الثابت في هويتها السياسية. فبعدما كان الاعتدال مسيطراً عليها بدأ الاسلاميون الاصوليون السنة يأخذون موقعهم فيها وبدأ هذا الموقع يقوى. وتسببت سياسات "حزب الله" و"امل" وخصوصاً تصرفاتهما العسكرية في ايار الماضي وبعده في جعل غالبية السنة وعدد من الفاعليات السياسية السنية تشعر بالحاجة الى هؤلاء الاصوليين للنجاح في المواجهة الداخلية المذهبية اذا فرضت عليهم مرة ثانية. وما شهدته العاصمة في الايام الاخيرة من اعتصام سجناء اسلاميين في سجن رومية واضرابهم عن الطعام ومن اعتصامات في الشارع لذويهم ولمن يمثلون طلباً للافراج عنهم سواء بعفو او بالاسراع في التحقيق والمحاكمة ومن مبادرة سياسيين من قوة الاعتدال الاولى سنياً الى تبني مطالب هؤلاء وان بدرجات متفاوتة. وما شهدته طرابلس امس ما هو الا دليل على سير الطائفة السنية نحو الاتحاد الفعلي. وفي ظروف الاحتقانات والمرارات والاحقاد المذهبية والعنف فان الاتحاد الفعلي يكون عادة بقيادة المتطرفين اي الاصوليين وبمشاركة المعتدلين الذين يتحول بعضهم ومع الوقت وبسبب التطورات متطرفاً بدوره او ينسحب من الحياة السياسية كما فعل السيد حسين الحسيني او على الاقل يستقيل احتجاجا كما فعل.
طبعاً لن نتحدث في هذا المجال عن المسيحيين لانهم تجاوزوا الوحدة من زمان ولانهم ولاسباب كثيرة معروفة صاروا اجزاء من اطراف آخرين غير مسيحيين وان رفض بعضهم الاعتراف بذلك. لكن لا يمكن الا ان نشير الى ان وضعاً صدامياً سنياً - شيعياً متطرفاً لن يسمح لهم بالاضطلاع بدور التقريب بين المسلمين والمسلمين والتفاعل كما انه سيعرِّض لبنان اما لتقاسم اصولي سني لابنائه وجغرافيته وحكمه واما لحروب مستمرة بينهما واما للأمرين معا. فهل يعي المعتدلون من اللبنانيين اذا بقي هناك معتدلون هذا الخطر ويتصرفون من منطلق المحافظة على وطن سائر نحو الدمار كما قال الحسيني امس؟ وهل تعي الجهات الاقليمية المساهمة بفاعلية في نشوء هذا الوضع المتفجر انها ستكون اول من يتلقى انعكاساته السلبية وعلى نحو لا يتصوره قادتها على الارجح؟