خلال أيام قليلة تتابعت نشاطات سياسية لافتة في بيروت. لا شك أن أبرزها الإعداد لمؤتمر قوى 14 آذار والوثيقة السياسية التي يجري تحضيرها، كما الإعلان عن جبهة مفتوحة تعد لها قوى 8 آذار.
لكن خارج هذا التقابل بين شطري قوى النظام السياسي مبادرة أطلقها «المركز المدني» وأخرى أطلقتها جماعة من المثقفين والناشطين في الحقل العام وميثاقاً تعده نقابة المحامين في بيروت، وحلقات عديدة موزعة في زوايا البلاد تهجس جميعها بمسألة السلم الأهلي والحفاظ على الوحدة الوطنية. واليوم بالذات يلتقي عشرات من الوجوه اليسارية لمناقشة أفكار حول إنشاء لقاء يساري موسع على طريق إحياء دور لهذا اللون من الفكر السياسي والنشاط افتقدته البلاد طيلة عقدين من الزمن.
من المبكر إطلاق حكم على نتيجة هذه الحيوية السياسية الجديدة وعلى ما يمكن أن تؤدي إليه في تغيير المسار العام لحال الانقسام الوطني القائم، ومدى تأثيرها على الشلل السياسي في مؤسسات النظام نفسه. لكن من الضروري مواكبة هذه الحيوية التي تميز بها لبنان وتراجعت إلى حدودها الدنيا بعد الحرب الأهلية وقيام الدولة على وعود الإصلاح التي تضمنها اتفاق الطائف.
ما يمكن أن نستنتجه الآن على الأقل هو الشعور العام المسيطر داخل كل المجموعات السياسية والنخب بالمأزق الوطني. فحين تراجع قوى الموالاة سياساتها على مدى السنوات الثلاث الماضية إنما تحاول أن تستدرك الفشل في استكمال مشروعها لوضع اليد على مفاصل السلطة كلها وإجراء التحول السياسي الكبير في وجهة البلاد وخياراتها. أما المعارضة فهي تحاول توسيع إطارها التنظيمي ومراجعة شعاراتها ومطالبها وأساليب عملها، لكنها لا تستطيع أن تغادر موقعها الأساسي المطالب بالشراكة وليس التغيير في بنية النظام السياسي. فهي، أي المعارضة، ليست وليدة مكوّن شعبي مختلف ولا هي صاحبة مشروع نقيض بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هي معارضة بشكل رئيسي لسياسة لبنان الخارجية ومحاولات التموضع في موقع إقليمي معيّن مع نزوع واضح إلى بناء توازنات طائفية جديدة هي التي تعكس هذا الخيار.
إن معيار النجاح لدى جميع القوى في إضافة الجديد إلى الحياة السياسية يكمن في القدرة على تقديم مشروع صالح لاستعادة الوحدة الوطنية والشروع في بناء الدولة القادرة على التصدي للمشكلات الكبرى المطروحة.
فلا يمكن لفريق لبناني وسط هذا الانقسام أن يقرّر عن لبنان واللبنانيين سياسة لبنان الخارجية والدفاعية، ولا أن يرسم سياسات اقتصادية ويستطيع تنفيذها. إذا استمر هذا العجز عن إنتاج تسوية تعيد العمل إلى داخل المؤسسات فعبثاً الحديث عن وثائق سياسية إنشائية مهما طرحت من أفكار. على فريق الموالاة أن يواجه الحقيقة فإما هو قادر على حكم البلاد، وهذا أمر بات في حكم المستحيل، لأن الانفراد بالحكم سيؤدي إلى صدام كبير، وإما عليه أن يرضخ لمنطق التسوية التي يطرحها فريق المعارضة. إن الحديث عن الصمود والدفاع عن مشروع الدولة وعن السيادة دون تفعيل آليات الحكم وتطبيع الحياة الوطنية هو كلام يذهب مع الريح ولا يمكن أن يصرف سياسياً. لقد حظي هذا الفريق بأوسع دعم دولي ممكن ولم يستطع أن يحقق أهدافه، والمسار العام للأمور لا يوحي بأن هناك تحولات لاستنقاذه.
لقد كان العطل الأساسي في مشروع الموالاة مصدره المنحى السلطوي في التعامل مع القضايا الرئيسية. لقد خسر الكثير من فاعليته لأنه حاول أن يحتكر السلطة من جهة ولأنه يطرح على البلاد مهمات لا تحظى بموافقة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، ولأنه كذلك يأخذ البلاد إلى صراعات إقليمية لا تتفق وإمكاناتها ومصالحها. فهو يفتح ملفات نزاع مع سوريا في اللحظة التي يريد أن يقفل ملف النزاع مع إسرائيل.
وهو يتابع سياسات اقتصادية منفّرة شعبياً ويتبع أسلوباً في إدارة البلاد لا تعزز المسار الديموقراطي ولا المحاسبة والمساءلة والشفافية، ويمارس أشكالاً من الانحياز الاجتماعي والمناطقي والطائفي تزداد وضوحاً مع اشتداد الصراع السياسي ومضاعفاته. وهو يتلاعب بعواطف الناس في مسائل شديدة الحساسية ويغفل أن ذلك يزيد التشنج السياسي ويعمّق حال الانقسام.
من الواضح أن الخطاب السيادي المرتفع يقابله على أرض الواقع الكثير من فقدان السيادة والمداخلات الخارجية، لا سيما تلك التي تساند فريق الموالاة. ولا تظهر الطبقة السياسية حداً كافياً من المناعة لمنع اندلاع قوى الخارج على الداخل. إن جزءاً أساسياً من التصلب السياسي مردّه الرهان على الخارج وكأننا في حال انتظار لتبدلات عملياً لن تكون في صالح اللبنانيين على اختلاف مواقعهم. إن إطالة أمد الأزمة يستنزف من رصيد جميع الفئات ومن رصيد البلاد كلها، ولا تشكل التوازنات الخارجية عنصراً مستقراً وثابتاً يمكن البناء عليه من أجل تثبيت مشروع الكيان والدولة. إن تجربة لبنان مع المتغيرات الإقليمية ما زال طرياً في الذاكرة منذ سبعينيات القرن الماضي، فالموجات السياسية لم تستطع أن تغيّر في المكوّنات الداخلية الأساسية. على أي حال لم تكفِ هذه الخبرة في كبح جماح قوى النظام عن الرهان مجدداً، والدليل على ذلك عجزها عن إنتاج التسوية رغم معرفة هذه القوى بالنتائج السلبية لذلك. وإذا كانت الأزمة مرشحة للمراوحة إلى أمد بعيد، كما يبدو حتى الآن، فلا بد من تعزيز حركة المجتمع نفسه للدفاع عن مقوماته ووحدته مع التراجع المتسارع في دور الدولة كحاضن لهذا المجتمع ومدبّر لشؤونه.
أمام هذا النوع من التحديات يصبح دور اليسار مطلوباً كإحدى ركائز الوحدة الوطنية انطلاقاً من قدرته على اختراق شبكة العلاقات الاجتماعية داخل كل التشكيلات الطائفية. لكن هذا الدور لن ينجح إلا إذا تحول اليسار إلى دائرة جذب لقوى المجتمع المدني نحو مشروع له ملامح وطنية صافية وقاعدة اجتماعية منوعة وتوجه سياسي خارج الاستقطاب السلطوي. هذه الشروط لا يكفي لتحقيقها الادعاء حولها، بل يجب أن يتبلور برنامج سياسي يحمل أجوبة على أزمة النظام في لبنان وعلى موقع لبنان في النظام الإقليمي والعلاقات الدولية. هذا النوع من الجهد النظري الذي كان اليسار مبادراً فيه، مع كل احتمالات الخطأ والصواب، تراجع إلى ما دون المستوى البدائي. فلا معنى لدور اليسار ما لم يكن مؤسساً على رؤية فكرية معاصرة تختلف نوعياً عن منظومة علاقات القوة السائدة. لا يعني ذلك قطعاً أي منحى عصبوي، بل يعني الانفتاح على كل فكر مستنير وعلى كل تجربة نافعة.
إن القضايا اللبنانية الحارة التي تحتاج إلى تلك الأجوبة هي دون شك تنطلق من سؤال كيف يمكن بناء دولة قوية عادلة ركيزتها مجتمع متحرر من الانقسام الطائفي متفاعل مع فكرة العروبة كمدى حيوي ضروري وأساسي لتأكيد الهوية الجامعة، وإيجاد دائرة للتكامل السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي، خاصة أمام مخاطر نشوء نظام إقليمي يقوم على هيمنة لعناصر من خارج مكوناته التاريخية، ومعطياته الموضوعية.
إذا صح هذا القول فهو لن يكتمل أصلاً إلا بتطوير المناخ الليبرالي في البلاد وتعزيز الحريات الأساسية وتطوير الممارسة السياسية الديموقراطية. فهل هناك متسع من الوقت ومتسع من التفكير والجدية لهكذا مشروع في ظل تصاعد التوتر السياسي والأمني من حولنا؟ ليس الجواب بنعم ولا، مفيداً على هذا الصعيد لأن المطلوب في كل حال هو العمل في هذا الاتجاه مهما كانت العقبات والمصاعب.