فلولا نَفَرَ من كلِّ فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين وليُنذروا قومَهم اذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) .(التوبة / 122) قبل الدخول في موضوع الاجتهاد والتفقّه في الدين احببت أن اتحدث قليلاً عن أحد المفكرين في العالم الاسلامي ممن خاض في الاجتهاد وأكّد عليه ، وهذا المفكر هو محمد اقبال اللاهوري ، وهو من المفكرين المعاصرين ، وينحدر من شبه القارة الهندية ، الهند سابقاً والباكستان حالياً .. نشأ في اُسرة مسلمة ، ودرس العلوم الجديدة ، وانهى دراسته . علماً أنّه قد درس العلوم القديمة أيضاً . وكان ذا حسّ اسلامي على العكس من الاغلبية الساحقة من طلابنا الايرانيين الذين سرعان ما يتأثرون بالاجانب تأثراً عجيباً . وكانت له شهادة عليا في فرع الفلسفة ، وألف كتباً باللغة الانجليزية تعد من المصادر التي اعتمد عليها المستشرقون . وكان متحمساً للاسلام ، وعلى درجة عالية من الوعي الاسلامي . وكان يعتقد أن الاسلام هو المنقذ الوحيد للبشرية . بالاضافة الى أنّه من المجددين وأصحاب الاطلاع على الافكار الحديثة، فقد قال شعراً كثيراً .. ولا تهمنا الان هذه الجوانب من حياته .
يقول هذا المفكر : قال لي أبي جملة أصبحت درساً لي في حياتي. قالها لي عندما كنت مشغولاً بتلاوة القرآن . فسألني : ماذا تفعل؟ قلت له : أقرأ القرآن . قال : يا بني ! اقرأ القرآن كأ نّه نزل عليك . فاثّرت هذه الجملة في قلبي أثر النقش في الحجر ، وكنت بعدها كلّما اقرأ آية لا أتجاوزها حتى أتأمل فيها واتدبر . إن الذي دعاني أن اذكر هذه الشخصية كلامه في الاجتهاد ، موضوع بحثنا هذا . يقول اقبال: إن الاجتهاد هو القوة المحركة في الاسلام ، مثله في ذلك مثل القوة التي تحرك السيارة ، فالسيارة لا تتحرك ما لم تكن لها قوة تحركها . ولابن سينا أيضاً كلام حول الاجتهاد يذكره في بحث جامع له في كتاب الشفاءعندما يتطرق فيه الى المبادئ الاجتماعية والمبادئ العائلية. يقول: لا حدّ للحاجات التي تظهر في حياة الانسان . إن الاصول في الاسلام ثابتة لا تتغير، وليست ثابتة من وجهة نظر الاسلام فقط ، بل هي حقائق يسلم بها كمبادئ حياتية في كافة الازمنة والعصور . وحكمها حكم منهج واقعي حقيقي لابدّ منه . أمّا الفروع فهي متغيرة ولا حدّ لها. ثم يردف قائلاً : لهذا السبب نقول بضرورة الاجتهاد وأهميته . وبعبارة اُخرى : لابد من وجود أخصائيين وخبراء في كل عصر ، لهم القدرة على تقديم الحلول المناسبة لمشكلات ذلك العصر من خلال استنباط الاحكام الجزئية التفصيلية الملائمة لكل فترة من المصادر المجملة للتشريع الاسلامي ، ولهم القابلية على الاستجابة للتطورات الحاصلة من خلال ادراكهم أن المسألة الفلانية الجديدة في أي أصل من الاصول. ويمكن القول أن الاجتهاد قد فقد روحه في واقعنا المعاصر،ولم تعد له تلك المنزلة التي تناسبه،حيث يتصور الناس أن مسؤولية المجتهد تكمن في استنباط المسائل والاحكام الفقهية فقط والتي لها حكم واحد مهما تعاقبت الازمنة والعصور مثل التيمّم.هل تكفي ضربة واحدة أو ضربتان؟ فأحد الفقهاء يقول:الاقوى ضربة واحدة،والثاني يقول:الاحوط ضربتان،وأمثال هذه المسائل.في حين أن هذه المسائل ليس لها أهمية تذكر،اذ أن الاهمية ينبغي أن تركّز على المسائل الجديدة والمستحدثة التي تظهر في كل عصر،ويجب التأكد والاطمئنان من انطباقها على ما هو موجود في الشريعة من أحكام مجملة.لذلك فانّ ابن سينا ينطلق من هذا المنطلق، في تأكيده على ضرورة الاجتهاد،ولزوم ترك بابه مفتوحاً في جميع الازمنة والعصور.ولو أخذنا هذا الامر بنظر الاعتبار،وبذلنا جهودنا لاعادة الحياة للاجتهاد بحقيقته،فسنكون على خلاف واضح مع عامة المسلمين من غير أتباع أهل البيت،اذ يرون أن الاجتهاد مقتصر على أشخاص معينين،وهذا ما لا يراه أتباع أهل البيت،حيث يطالبون بترك باب الاجتهاد مفتوحاً، في كل عصر من العصور،في حين يرى عامة المسلمين أن المجتهدين أربعة فقط وهم : أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل.ويجوّزون عليهم الخطأ. يقول القرآن الكريم :(وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلولا نَفَرَ من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ...)(88) فالنفر المذكور هنا هو النفر من أجل الاجتهاد ، ومهما قيل في منطوق الاية فالهدف واضح من ذلك النفر ، من خلال التعبير القرآني نفسه عندما يقول : (ليتفقهوا في الدين) فالقرآن تطرق الى هذه القضية المهمة ، وسمّـاها : التفقّه في الدين وهذا التعبير أعمق معنىً من تعبير علم الدين .. فهناك تعبيران إذن ، أحدهما : علم الدين ، الثاني : التفقّه في الدين . والعلم مفهومه واسع ، ويمكن اطلاقه على كثير من حقول المعرفة . أمّا التفقّه فهو ليس كذلك ، ولا يمكن استعماله في كل مكان لانّه يعني التعمق في العلم ، ودرجته أعلى من درجة العلم ، وهو بعبارة اُخرى : العلم العميق الذي لا يتسنى لكل أحد .. ويمكن أن نسمي العلم السطحي علماً ولا نسميه تفقهاً . يقول الراغب الاصفهاني : «التفقّه هو التوسل بعلم ظاهر الى علم باطن» فهو التقاط اللب من بين القشور ، وهو ادراك اللامحسوس من خلال المحسوسات ، وهو يعني : أن الانسان لا يتعامل مع الدين تعاملاً سطحياً ، بل تعاملاً عميقاً هادفاً ، مدركاً أن في الدين جانبين : الجانب الروحي ، والجانب المادي ، مبتعداً عن الفهم المبتور المشوّه للدين من خلال التركيز على جانب واحد فقط . ولا تتيسر معرفة الدين معرفة واعية من خلال جانب واحد فحسب ، بل من خلال كلا جانبيه . إنّنا نطالع الاحاديث والروايات الواردة أحياناً فنجد بعضها يقول : «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه ومن الاسلام إلاّ اسمه»(89) وهكذا الكلام للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وله كلام آخر قاله وهو يستعرض مستقبل بني اُمية ، ومنه : «أيها الناس ! سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الاسلام كما يكفأ الاناء بما فيه»(90). فهذه الاقوال تبيّن لنا أن قسماً من التعاليم الدينية تشبه الاناء ، وهي وعاء للقسم الاخر من التعاليم الدينية التي تشبه الماء . فهذا الوعاء ضروري ولكن لذلك الماء ، ولو كان هذا الوعاء نفسه فلا يُكفأ ماؤه . أمّا اذا كان هذا الوعاء موجوداً بدون ذلك الماء فكأنه غير موجود . فالامام (عليه السلام) أراد من وراء هذا التشبيه أن يقول بأن الامويين يفرغون الاسلام من محتواه ويقضون على جوهره ، ويشوهون حقيقته ، ولا يبقون للناس منه إلاّ القشور .. وللامام (عليه السلام) كلام آخر وهو أيضاً في صدد الحديث عن بني اُمية ، يقول فيه : «ولبس الاسلام لبس الفرو مقلوباً(91)» واذا كان الاسلام هكذا فهذا يعني أنّه فقد روحه ، وأصبح معرضاً للسخرية والاستهزاء بسبب تصرفات الامويين المنحرفين . فكل ما مر من أقوال وأمثالها تبين أن بعض الناس يدعي الاسلام ولكنه الاسلام المفرغ من محتواه ، الفاقد لروحه وحركيته .. والبعض الاخر يدعيه كدين فاعل مؤثّر أي : الاسلام بما هو اسلام بحقيقته ومعناه . ينقل أحد الاصدقاء أنّه في مرة من المرات واجهته مشكلة ، فذهب الى أحد معارفه يلتمس منه حلها،مع انّها مشكلة بسيطة ، ولكن بالنسبة الى صاحبها كانت لها أهميتها الخاصة.يقول: فاعتذر بعلة أنّه يريد الذهاب الى صلاة الجماعة.فلو قال أحد هنا أن الاسلام قد أكد على صلاة الجماعة تأكيداً كثيراً الى الحد الذي لم يلتفت معه الى قيمة العمل المؤدّى في قضاء الحاجة فهذا كلام خاطئ،وهل هناك فرق في حساب الله بين أن نصلى فرادى أو نصلي جماعة؟ولمَ أكد الاسلام على صلاة الجماعة؟أليس ذلك من أجل أن يعيش الناس جواً روحياً ومعنوياً، يلتقي أحدهم بالاخر،ويتفقد أحدهم أحوال الاخر؟وهو كذلك.وما ذكر من التأكيد على صــلاة وكثرة ثوابها هو لكي تصنع من الناس اُناساً ذوي عطف وضمير ، ويسعى أحدهم في قضاء حوائج الاخر . فصلاة الجماعة قشر في داخله لبٌّ كامن ، وما هذا اللب إلاّ العواطف الاجتماعية والتفكير بأُمور الاخرين. كل ذلك يدلل على أن في الاسلام لبّاً وقشوراً ، وله ظاهر وباطن .. فلا بد من التفقّه اذن .. والتفقّه يعني حصول الانسان على المعنى المراد . فلو قال احد : أن الاجتهاد هو القوة المحركة للاسلام ، أو قال آخر : أ نّه ضروري في كل عصر وزمان وروح الاسلام روح ثابتة في كافة الازمنة والعصور ، فلا مكان للشبهة القائلة بان متطلبات العصر تستوجب نقض حكم الاسلام . وهنا أود أن أذكر مثالاً من القرآن ، وهو قوله تعالى : (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم ...)(92) فهذا أمر بالاعداد واضح بكل صراحة ، والهدف مذكور أيضاً ، فالاسلام دين القوة لا دين الضعف ، وهذا ما يقرّ به اعداؤه من الاجانب . يقول ويل ديورانت:لا وجود لدين دعا أتباعه الى القوة كالاسلام.فالاسلام أكد على القوة ، وطلب من المسلمين أن يكونوا أقوياء ، ويسوؤه أن يرى المسلمين ضعفاء ، ولا ينسجم منطق الضعف مع تعاليمه لانّه يوصي المجتمع الاسلامي بإعداد نفسه بكل ما يملك من قوة لمواجهة الاعداء . ومن ناحية الهدف والغاية يصدر الامر السماوي بان يكون المسلمون اقوياء من الناحية المادية الى الحد الذي يرهبون به أعداء الله ، وكما نرى الدول الكبرى هذا اليوم كيف ادخلت الرعب في قلوب الشعوب ، فكذلك يريد القرآن من المسلمين أن يكونوا أقوياء الى الحد الذي لو رآهم أعداؤهم ، يهابون سطوتهم ، ويخافون منهم ، ولا يخطر في بالهم الاعتداء عليهم . وهناك صنفان من القائلين بمنطق القوة : صنف يطلب القوة من أجل الاعتداء على الاخرين ، وصنف آخر يطلبها لمواجهة ذلك الاعتداء ، والحيلولة دون استفحاله . وهذا عين ما يريده القرآن الكريم اذ ينادي بالقوة للوقوف بوجه الاعتداء والسلب والنهب ، ولا يوصي المسلمين بالقوة وسيلة للاعتداء .. وما أروع الادب القرآني اذ يقول : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا..)(93)وهنا يخاطب المسلمين أن لا يخرجوا عن حد العدالة حتى مع أعداء الله الذين أساؤوا اليهم .. وكذلك لايجيز لغيرهم الاعتداء .. فهذه أوامر ينبغي اطاعتها. وعندما نأتي الى السنة النبوية الشريفة فاننا نلتقي بسلسلة من الاداب والسنن المحمدية التي رسمها معلم الانسانية الاول لتكون منهجاً للحياة .. والتي تتصل بموضوعنا سالف الذكر ، ومن هذه الاداب السبق والرماية ، ـ كما يصطلح عليهما في الفقه ـ وأكد الاسلام على استحبابهما . وحرم كل لون من ألوان المقامرة إلاّ بهما . وهذا من مسلمات الفقه اذ توجد أمثال هذه السنن والاداب في ديننا . قد يأتي هنا من يتصف بالتزمت والجمود فيقول:أن الامر الوارد في قوله تعالى:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..)شيء،وأمر الفروسية والرماية شيء آخر.أي:ان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أوصى بهما،وأكد على تعليمهما لاولادنا،فانما يدلل على ولع منه فيهما،ولذلك يجب بقاؤهما على ما هما عليه في كافّة الازمنة والعصور!والحال أن القضية ليست بهذا الشكل لان الرماية وركوب الخيل هما وليدا قوله تعالى:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)والمهم في الاسلام أن يكون المسلمون في الحد الاعلى من القوة،وما الرماية وركوب الخيل إلاّ مثالان عليها ولا أصالة لهما لانّهما يمثّلان الشكل التطبيقي لها . وبعبارة اُخرى : هما كاللباس على البدن .. والاسلام لا يرى لهما أصالة بل يرى الاصالة للقوة ، وهما امارتان على تلك القوة .. علماً أنّنا لا نقصد من كلامنا عدم الاصالة على اعتبار انهما من أوامر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)نفسه ، لا من أوامر الله الواردة في كتابه العزيز ! كلا ، اذ لا فصل بين أوامر الله وأوامر نبيه ، فهي أوامر واحدة ، فليفهم من أراد ! والقضية : أن الاسلام أمر بشيء واراد هو تنفيذه هو بذاته ، مرةً ، واُخرى أمر بشيء مقدّمة لشيء آخر ، وما دور التفقّه في الدين إلاّ أنّه يساعد الانسان على بلوغ مراده . وهناك مثال آخر في نهج البلاغة،حيث ينقل أن شخصاً جاء الى الامام أمير المؤمنين (عليه السلام)وقال له:لو غيّرت شيبك يا أمير المؤمنين،ألم يقل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):«غيّروا الشيب»فقال عليه السلام:«الخضاب زينة ونحن قوم في مصيبة»(يريد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله)وكأنه يريد أن يقول(عليه السلام)أن هذا الامر ليس له أصالة وذلك لانّه كان لهدف معين يخص ذلك العصر أمّا الان فقد انتفى ذلك الهدف..لقد كان عدد المسلمين قليلاً،وبينهم شيوخ كبار قد اشتعلت لحاهم شيباً،وعندما كان ينظر اليهم العدو يراهم قطعة بيضاء من الشيب فتقوى عزيمته ، ويشتد ساعده،وترتفع معنويته ، ولا يخفى فانّ قوة المعنويات لها الدور الاول في المعركة ، لذلك أمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الشيوخ المقاتلين أن يغيروا شيبهم حتى لا تقوى عزيمة العدو حينما ينظر الى كبر سنّهم . فهذا هدف كان يخص تلك الفترة بالذات ، أمّا اليوم فلا وجود له ، لهذا كل شخص حرّ من هذه الناحية . فتغيير الشيب أمر طارئ متغير ، أما قوة المعنويات فهي أمر ثابت غير قابل للتغيير ، ويجب أن يبقى مفعولها سارياً في كافة الازمنة والعصور ، وكذلك اضعاف معنويات الاعداء في حرب أو في سلم ، ينبغي أن تبقى على حرارتها في كل عصر .. وما علينا نحن المسلمين إلاّ الالتفات الى هذه النقطة الحساسة ، ورفع النواقص الموجودة عندنا ، ولا نعمل ما من شأنه أن يستضعفنا الاعداء .. وهذا مبدأ ثابت متفاوتة أساليب تنفيذه بين فترة واُخرى ، وقد يكون تغيير الشيب اُسلوباً ملائماً لفترة معينة ، وقد يكون هناك أسلوب آخر لفترة اُخرى ، فلا تتغير ألاّ أساليب التنفيذ لا غير ، وهذا هو مغزى التفقّه في الدين والبصيرة فيه اذ يقدّم لنا أنجع الاساليب وأنسبها في كل عصر منبثقة من تلك الثوابت الاساسية في الشريعة . ان من مميزات الاسلام أنّه جعل المتغيرات التي تتبدل في كل عصر متصلة الثوابت التي لا يطرأ عليها أي تغيير ، أي: أنّه جعل للاحكام الفرعية التفصيلية علاقة بالاحكام المجملة في الشريعة ، ولا يستطيع أن يكشف هذه العلاقة إلاّ المجتهد الذي يعطي رأي الاسلام في كل واقعة من خلال الملكة التي يختص بها . وهذه هي القوة الحركية في الاسلام . ان من مظاهر الجمود والتزمت الذي بنى عليه الاخباريون موقفهم من التحنّك هو أنّه ورد التأكيد عندنا على هذه القضية . ولايخفى فانّ مظاهر الجمود عند الاخباريين كثيرة ، وقد تحرر المرحوم الفيض الكاشاني من ربقتهم رغم اخباريته ، وبالاضافة الى أنّه كان اخباريّاً بيد أنّه كان شبه فيلسوف ممّا ساعد هذا الامر على تنوير فكره .. والتحنك يقابل الاقتعاط في اللغة العربية والاقتعاط يعني شدّ العمامة على الرأس . لقد جمع المرحوم الفيض الكاشاني بين متطلبات الروح والجسد ، واوتي قدرة على التشخيص . يقول هذا العالم : كان الاقتعاط شعار المشركين ، أي : أنّهم كانوا لا يتحنّكون بل كانوا يشدّونها ، لذلك فانّ عدم التحنك يعني القبول بشعار المشركين ، وفي ضوء هذا التوجه الذي عليه المشركون صدر الامر بالتحنّك.. أمّا في الحقيقة فلا موضوعية لهذا الامر بما هو ، بل الموضوعية تكمن في معارضة المشركين ، وعلى المسلم الحقيقي أن لا يتمسك بشعار غير اسلامي وغريب عليه .. لقد كان هذا الامر ساري المفعول في وقت كان يعيش فيه أُولئك المشركون بذلك الشعار ، أمّا اليوم فلا وجود لهم ولا وجود لشعارهم ، لذلك لاضرورة لهذا الشعار الذي كانت فلسفته معاكسة ومعارضة المشركين . هذا كلام المرحوم الفيض .. فهل نسخ حكماً اسلامياً بكلامه هذا ؟ لا ، بل أنّه استوعب فلسفة الامر الصادر بالتحنّك وعرف مغزاه .. وهذا هو معنى الاجتهاد الذي عبّر عنه محمد اقبال بالقوة المحركة في الاسلام ، وهو نفسه الذي رأى ابن سينا ضرورته في كل عصر وزمان.. ولقد ميّز المرحوم الفيض بين اللب والقشور . وهناك مثال آخر : لو سأل أحد : هل أن لبس القُبّعة الاجنبية ، أو لبس السترة والبنطلون حرام ؟ نقول : لا ، حيث أن هذه الاشياء قد حُرّمت في عصر من العصور والان هي غير محرمة . فمثلاً كانت القبعة تخص الاجانب في وقت من الاوقات ، وكان لبسها يعني أن الانسان مسيحي.. لذلك كان المسلم اذا لبسها يرتكب حراماً ، ولكن بما انّها اليوم أصبحت زيّاً سائداً ، وفقدت هدفيتها ، وليست اليوم كما كانت بالامس ; لذلك لبسها غير حرام .. ولا حاجة أن يأتي نبي من الانبياء ليحكم في هذه القضية ، كما أن حكم الاسلام واحد لم يتغير . في اعتقادي أن الاجتهاد من معجزات الاسلام .. ولا يعني الاجتهاد أن يجلس شخص ويفتي كيف يشاء .. كلا ، بل له قوانينه الخاصة به .. وكما ذكرت سلفاً فانّ الاسلام تميز بمواصفات ذاتية جعلته قادراً على مواصلة دربه ، وديمومة حركيّته دون أن يكون هناك تعارض أو تضارب مع قوانينه وقواعده الثابتة ، ولسنا نحن الذين نمنحه قوّة الحركية والفاعلية .. وفيه ثوابت لا ينال منها تطور الزمان شيئاً ، ومتغيرات تستوعب ظروف التطور ، ورغم أنّه جعل التغيرات تابعة للثوابت ، فانّ زمام الاُمور يظل بيده ... ان التفقّه في الدين من أكبر النعم على الانسان ، وبه يكون هذا الانسان ذا بصيرة ووعي .