منذ أغسطس الماضي والطائرات الاستراتيجية الروسية من طراز «تو ـ 95» التي يطلق عليها حلف الناتو اسم «الدب الروسي» تحلق في أجواء الفضاء الدولية، هذه الطائرات من نوع قاذفات القنابل النووية والمجهزة للطيران لمسافات بعيدة مع التمويل في الجو بالوقود تعد جزءا أساسيا من السلاح الاستراتيجي الروسي الذي يعيره الغرب اهتماما كبيرا.
وعند بداية طلعاتها في أغسطس الماضي علق البنتاجون الأميركي على ذلك باستهزاء قائلا «إنها طائرات استعراض قديمة ولا قيمة له «، علما بأن هذه الطائرات الروسية ترجع صناعتها لفترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بينما مثيلاتها التي تملكها الولايات المتحدة أقدم منها وترجع للأربعينات والخمسينات ولم يتم تطويرها بعد ذلك. وبعد أن قامت بمهمتها التاريخية في إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي في الحرب العالمية الثانية.
استمرت الدببة الروسية في التحليق على مدى الشهور الستة الماضية حتى تعدت طلعاتها الخمسين طلعة لم تترك فيها بقعة واحدة على الأرض لم تحلق فوقها، وذلك في إطار إعادة روسيا بناء قواتها المسلحة الاستراتيجية التي كانت قد توقفت عنها تماما منذ منتصف الثمانينينات في عهد الزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف.
قادة البنتاجون لم يستطيعوا الاستمرار في إدعاء عدم أهمية هذا النشاط الروسي الغريب والتظاهر بالهدوء وعدم الاهتمام، فصدرت الأوامر للطائرات البريطانية والنرويجية بمطاردة الطائرات الروسية في ديسمبر الماضي، وانطلقت بالفعل طائرات حلف الناتو وراء الدببة الروسية لكنها لم تطاردها بل حلقت بجوارها فقط وتبادل الطيارون من الطرفين التحيات في الجو، وسارت الأمور بشكل عادي في الجو على مدى الشهور الماضية بينما كانت الأحوال متوترة للغاية على الأرض في قيادة حلف الناتو وفي البنتاجون.
حيث الاجتماعات مستمرة لمناقشة الأسباب التي دفعت روسيا لهذا الاستعراض الجريء وما هي الرسالة التي تريد توصيلها، بينما قيادة الجيش الروسي لا تقول سوى أن الأمر لا يزيد عن كونه تدريبات، حتى وقع ما أفزع البنتاجون وأثار الرعب لدى قادته يوم السبت التاسع من فبراير الجاري عندما قامت طائرتان روسيتان من هذا الطراز الاستراتيجي العملاق بالاقتراب من حاملة الطائرات الذرية الأميركية «نيميتس» في المحيط الهادئ بالقرب من السواحل اليابانية.
واقتربت إحدى الطائرتين من حاملة الطائرات الأميركية حتى أصبحت على ارتفاع 600 متر فقط، حسب تقديرات الرادارات الأميركية، بينما كانت الطائرة الثانية تحلق على مسافة أبعد قليلا، وأصيب طاقم حاملة الطائرات الأميركية بحالة شديدة من الرعب والفزع حتى أطلقوا صفارات الإنذار، وجرت اتصالات ساخنة وسريعة بين واشنطن وموسكو للاستفسار.
وأجاب الروس بأن الأمر عادي ومجرد تدريبات على القدرة على الانخفاض والارتفاع، ولكن لماذا بالتحديد الانخفاض فوق حاملة الطائرات الأميركية، ولم تصدر أوامر من واشنطن بأي رد، وانصرفت الطائرات الروسية بهدوء، وإن كان الرادار الأميركي رصد عملية التقاط صور من الطائرة الروسية لحاملة الطائرات الأميركية.
العسكريون الروس يقولون «لقد اقتربت قاذفاتنا الاستراتيجية منهم لمسافات قريبة وها هم يقرعون ناقوس الإنذار في حين تنشر الولايات المتحدة منظومة الدفاع المضاد للصواريخ على مسافة 150 كم من حدودنا ويعتبرون ذلك أمرا طبيعيا».
لقد بدت واضحة تماما للغرب رغبة روسيا في استعادة قدرتها العسكرية السابقة التي ضعفت مع انهيار الاتحاد السوفييتي، ويقول الجنرال بيوتر دينيكين القائد العام الأسبق للقوات الجوية الروسية «بودي تهنئة طيارينا بهذا النجاح الباهر، إذ تم تنفيذ مهمة معقدة بالطيران المنخفض فوق حاملة طائرات ذرية أميركية، إذ أنه من الصعب جدا العثور في عرض المحيط على مثل هذا المطار العائم، لأن هذا شبيه بالبحث عن إبرة وسط كومة من القش. ويدل نجاح طيارينا في ذلك، على جدارتهم ومؤهلاتهم العالية».
وعلقت وزارة الدفاع الروسية على الحادث بشكل دبلوماسي قائلة «روسيا والولايات المتحدة، حاليا ليستا خصمين. وإننا شريكان في مكافحة الإرهاب. ولا يوجد أي خطر من ظهور طائرات روسية فوق السفن الأميركية في المياه المحايدة». واعترفت الوزارة بأن مهمة الطائرات الروسية لم تكن التحليق فوق السفينة فقط، بل وتصويرها، من أجل إثبات أن هذه ليست مجرد سفينة شحن، وإنما هي «نيميتس»، التي يقولون عنها أنها فخر القوات البحرية الأميركية.
النشاط العسكري الروسي الأخير سواء في الجو أو في مياه المحيطات التي تتجول فيها البارجات والغواصات وحاملات الطائرات الروسية منذ شهرين لا يعني فقط استعراض قوة، بل يعني بالنسبة للعسكرية الروسية ذاتها استعادة الثقة في قدرات وإمكانيات القوة العسكرية الروسية، هذه الثقة التي ضعفت وخبت كثيرا على مدى العقدين الماضيين.
كما أن هذا النشاط في الأجواء المفتوحة والمياه العالمية يحمل رسالة هامة لواشنطن وحلف الناتو مفادها أن روسيا تستخدم حقها كدولة كبيرة في التصرف والحركة في هذه المناطق الدولية كيفما تشاء ووقتما تشاء.
وأن هذه المناطق ليست حكرا على أحد، ولا يجب أن تتوهم أية جهة أنها أصبحت وحدها على الساحة الدولية التي تملك حرية الحركة في هذه الأجواء الدولية، وكما قال أحد القادة العسكريين الروس «نحن نملك الحق أن نذهب بقواتنا إلى أي مكان في العالم طالما لم نخترق سيادة أي دولة ولم نخالف القانون الدولي».
إنهم حقا لا يحترمون ولا يهابون إلا الأقوياء، وها هي القوة العسكرية الروسية الآن تستعيد مكانتها وهيبتها في العالم، ولا تفيد الدعاية الغربية وتصريحات القادة في البنتاجون وحلف الناتو في إخفاء الحقيقة التي يشهدها الجميع، وروسيا دولة لا تهدد أحدا ولا تعادي أحدا، بل تمد يدها للجميع للتعاون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن للأسف الشديد مازال هناك الكثيرون من الذين تراودهم أحلام وهواجس الحرب الباردة السابقة لا يريدون لروسيا أن تنهض وتستعيد قوتها، ولا يريدون أن يتعاونوا معها لأنهم يعلمون أن التعاون مع دولة قوية مثل روسيا سيعيق الكثير من مصالحهم على الساحة الدولية، هذه المصالح التي ثبت للجميع أنها في جملتها ومضمونها ضد مصالح العديد من دول وشعوب العالم.
جامعة سيبيريا