إذا كانت سيرة المجتمع العربي مع الدولة الوطنية الحديثة سيئة، بسبب هشاشة فكرة الدولة في الوعي الجمعي واصطدامها بموروث اجتماعي تقليدي (قبلي أو عشائري) يأبى الانصياع لسلطة أعلى تجرده من النفوذ،
فإن سيرة النخب (الفكرية والسياسية) العربية الحديثة مع هذه الدولة لم تكن أقل سوءاً حتى لا نقول إنها كانت أشد سوءاً من سيرة المجتمع معها، وما كانت النخب تلك تنهل موقفها السلبي تجاه الدولة الوطنية من موقف المجتمع “العصبوي”، وإنما نضج موقفها في سياق إدراكات فكرية وسياسية وايديولوجية للمسألة السياسية عموماً ولمعنى الدولة وعلاقتها بالمجتمع والأمة على نحو خاص، فالذين ناهضوا الدولة الحديثة من المثقفين والسياسيين لم يفعلوا ذلك لأنها تشكل خطراً على الاجتماع الأهلي التقليدي، على القبيلة أو العشيرة أو الطائفة، فهم أنفسهم كانوا يشاركون الدولة صراعها مع تلك البنى التقليدية الكابحة للتقدم، وإنما هم ناهضوها لأنها- في نظرهم- لا تمثل المجتمع والأمة، بل تسبح ضدهما.
لقد تبلورت ثلاثة مواقف نقدية من الدولة الوطنية في البلاد العربية منذ ميلادها بين العقدين الثالث والسابع منذ القرن العشرين، عقب نيل تلك البلاد لاستقلالها السياسي. أول تلك المواقف النقدية الموقف القومي العربي، تذهب مقالته إلى إسقاط شرعية تلك الدولة لأنها ناتجة عن إرادة التقسيم والتجزئة الاستعمارية، ولأن وظيفتها السياسية الوحيدة هي تمزيق وحدة الأمة والوطن، وما تبقى من قبيل نوع النخبة الحاكمة فيها ونمط ولاءاتها تفاصيل. وثاني تلك المواقف النقدية الموقف الإسلامي. وتطعن مقالته في شرعيتها أيضاً إما لأنها أتت على أنقاض الخلافة أو لأنها لا تحكم بما أنزل الله، فهي دولة لائكية تفرض على المسلمين أحكاماً ليست من صميم شريعتهم. أما ثالث تلك المواقف النقدية منها، فالموقف الماركسي واليساري الذي يذهب أصحابه إلى اتهام تلك الدولة بأنها دولة طبقة هي البرجوازية، وأنها دولة تابعة للميتروبول الرأسمالي الغربي ومعادية لمصالح الشعب وطبقاته الكادحة.
ثلاثة اتهامات هي، إذن، التي كيلت لهذه الدولة الوطنية: معاداة وحدة الأمة، معاداة شريعة الإسلام، معاداة مصالح طبقات الشعب. الدولة هذه دولة التجزئة، أو دولة اللائيكية، أو دولة الطبقة. وفي هذه الحالات الثلاث، هي لا تمثل إلا فريقاً صغيراً: القوى الاجتماعية القطرية التي تتغذى مصالحها من التجزئة، أو النخب العلمانية المرتبطة ثقافياً بالغرب، أو القوى البرجوازية المحلية التابعة للقوى الرأسمالية الامبريالية، وفي هذه الحالات الثلاث أيضاً، ليس لهذه الدولة أي قدر من التمثيل للشعب وللمجتمع وللأمة أو من التعبير عن مصالحها فهذه لا تتحقق تبعاً لنوع كل مقالة من المقالات الثلاث إلا في كنف الدولة القومية أو الدولة الإسلامية أو الدولة الاشتراكية.
الليبراليون العرب وحدهم انفردوا بالاعتراف للدولة الوطنية بشرعيتها السياسية وبالدفاع عن تلك الشرعية في وجه خصومها المتعددين أصنافاً والمتباينين منطلقات وأهدافاً. ولم يكن ذلك مما يستغرب له، فقد كانت الدولة تلك دولتهم: ارتضوها في حدودها الكيانية الضيقة من دون أن يعتبروها حدوداً مؤقتة أو انتقالية مفتوحة على إمكان الاتساع جغرافياً إلى حيث تصير حدود الأمة جمعاء، وسلموا بأن شرائعها وقوانينها من الأرض يقرها الشعب- مصدر السلطة- عبر ممثليه المنتخبين ويعدلها ان اقتضت مصلحته ذلك، ولا قيود على الدستور والقانون فيها إلا ما رسمه الدستور والقانون من قيود، ثم إنهم رأوا فيها كياناً ضامناً للحق في التملك والحرية الاقتصادية والتنافس قصد الربح من دون التدخل في الإنتاج والدورة الاقتصادية، وللأسباب نفسها، ظلت صورة الليبراليين في وعي القوميين صورة قوى قطرية معادية للوحدة القومية، وفي وعي الإسلاميين صورة قوى علمانية مناهضة لمرجعية الإسلام، وفي وعي الماركسيين صورة قوى برجوازية مستغلة معادية لحقوق الشعب، وسواء صحت أحكام هذه التيارات الناقدة للدولة الوطنية في حق الليبراليين العرب أم لم تصح، فقد تماهوا مع تلك الدولة إلى الحدود التي سوغت فعل التشنيع الايديولوجي عليهم من قبل خصوم دولتهم.
على أن الدولة الوطنية لم تكن تملك أن تختار شرعيتها السياسية من مجرد اعتراف قسم صغير من النخب الثقافية والسياسية بها. فالليبراليون العرب ما كان يسعهم تمتيعها بأكثر من اعترافهم بها، وهو اعتراف لا يؤمن لها شرعية تعرضت للطعن شبه العمومي. ولقد كانت النخب الحاكمة في الدول العربية المستقلة حديثاً- أي آنئذ- تدرك على نحو دقيق أن عليها أن تقوم بإجراءات سياسية ترمم بها واجهة شرعيتها، فتحاول أن تجيب بعضها- ولو قليلاً- من المطالب العامة لتحسين صورتها وسيرتها لدى الجمهور- ذلك مثلاً- ما يفسر تداعيها لإقامة إطار “توحيدي” جامع هو جامعة الدول العربية للإيحاء بأنها لا تقدس التجزئة وليست سادناً لها، كما صورها القوميون، ولا تعادي فكرة الوحدة العربية. وهو عينه ما يفسر لماذا نصت دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة، وأنه المصدر الأساسي (أو مصدر أساسي) للتشريع ولماذا حوفظ على التعليم الديني والوقف والأحوال الشخصية الشرعية. ثم إن هذا نفسه ما يفسر بعض ظواهر الشعبوية عندها في مخاطبة الجمهور وفي الإيحاء بالتعاطف مع المطالب الاجتماعية للفئات الكادحة والمعدمة. كانت، في كل هذه الحالات، تجرب أن تدفع عنها التهم الثقيلة التي حاصرتها منذ الميلاد: التجزئة، الكفر، العمالة للأجنبي.
هل نجحت في سد الذرائع؟
لم تنجح: زادت انكفاء في حدودها الكيانية الضيقة وانهارت الفكرة العربية عندها وتعطلت مؤسستها الوظيفية (الجامعة العربية)، وانفجر في وجهها المد الإسلامي فحاصر قدرتها على المناورة والاستيعاب ليجبرها على مواجهته في دورات عنف دموي متبادل لم تنقطع، ثم زادت معدلات ارتهانها للأجنبي ليزيد معه معدل إفقارها للمجتمع والناس وعدوانها على القوت اليومي للمواطنين، وبكلمة، زادت أسباب محنة الشرعية لديها، ولكن من دون أن ينجح مناهضوها في كسب أية معركة ضدها: لا الوحدة ولا الشريعة ولا الاشتراكية.