المسيحيون يحتفلون بشهر رمضان, ومثقفوهم ينكبُّون على إتقان قراءة القرآن للتمكن من العربية. والمسلمون يحتفلون بأعياد المسيح ويرقصون في عيد "البوريم" اليهودي. والجميع يرى في الجميع أشياء كثيرة, جميلة وغير جميلة, هي ما يحدد نبل الفرد أو عدمه, لكن هويته الدينية (المتضمنة والتي تحترم في الخلفية العامة للأفراد) هي آخر ما يُستند إليه كمعيار للنزاهة والألفة. أهل القدس وأعيانها يجتمعون في سرادقات الغناء التي تُقام في القدس القديمة أمام بوابة يافا سنة 1908 للاحتفال بالثورة الدستورية, وفيها يغني الشيخ سلامة حجازي القادم من مصر, وهو نصف مشلول, ويقود له "الأوركسترا" جورج أبيض. يغني الشيخ بكل حواسه فيبكي الجميع طرباً وجذلاً حتى اليونان الذين لا يفهمون العربية. في سماء قدس تلك الأيام ابتسامات الوجوه كانت تضيء بفرح عفوي مشترك فيه علو كعب للحياة, ودنو كعب للسياسة وتدخلات الدين فيها. "واصف جوهرية" عازف عود القدس يرصد في مذكراته البديعة تفاصيل قدس تلك الأيام, وأغنيات ذلك الحفل وتراً بوتر, وأغنية بأغنية. صورة القدس ما قبل الاستعمار البريطاني, وما قبل المشروع الصهيوني, كانت غنية في عمق البساطة, والتحام التعايش, وعفوية الحياة, وانمحاء التعصب الديني من الفضاء العام.