عندما كتبت مقالتي حول - الليبرالية والحكومة القوية - تنوعت في حينها الردود والرسائل بين مؤيد وموافق ، وفي الجملة كان الهم لدى الجميع منصب حول طبيعة الآليات والوسائل والضوابط التي تكفل تحقيق ذلك ، واليوم وفي السياق نفسه سنناقش الموضوعة من وجهة نظر ثانية أو لنقل من أجل بيان الكيفية التي يمكننا من خلالها بناء الدولة القوية ، وأشير هنا إلى المقدمة الأولى واللازمة لبناء المجتمع المدني الحر المتعدد الثقافات ، لما لذلك من صلة وثيقة بموضوعنا الأول .
وأقول : إن المجتمعات العربية والإسلامية لم تتطور فكرياً وبنفس الدرجة التي تطور معها الفكر في بلدان العالم الغربي ، والتطور كما نفهمه مرتبط جدلاً بتطور قيم الحرية وبتحرير الإرادة من جملة الكوابح التي يصنعها التخلف ، والذي هو عندنا وليد واقع إجتماعي وثقافي بدائي وبالي في النشأة وفي التكوين ولازال لحد اللحظة على بدائيته ، وكنت أقول: إن تطور الفكر الاجتماعي كان مع تطور قيم الإنسان المعرفية وعلاقة ذلك بتطور المجتمع ، وفي هذا أجد إن من بين التيارات الفكرية والعملية القادرة على صناعة مجتمع مدني قوي وصاحب إرادة في القبول وفي الرفض ، هو تيار أو مفهوم الليبرالية التي أجدها لا تتفق مع فكرة الوسطية التي يروج لها أنصاف المتعلمين بل ولا أجدها تقف على الحياد تجاه مايتعرض له الشعب من مشكلات ، فتحرير قوى المجتمع من عقلية الهيمنة والتسلط هو ما تسعى الليبرالية لتعميقه في الوعي العام وفي الحياة السياسية والإجتماعية ، وقد عرف الميثاق العام للحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي : - الليبرالية بانها حركة وعي اجتماعي سياسي تتحرك داخل كل مجتمع ووفقاً لقيمه وأخلاقه ، وتتكيف حسب طبيعة كل مجتمع و ظروفه ، لأنها تستهدف تحرير الإنسان فرداً و جماعةً من كل القيود التي تصنعها قوى السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية - ، لأن الناس حسب مفاهيمنا على درجة واحدة من الأهمية ومن التكوين ولا مجال عندنا للفوارق الأثنية والقومية واللسانية ، وهذا يعني إن الجميع لهم نفس الدرجة من الإحترام والحماية للرأي وللحقوق ، وذلك ما يشكل قناعتنا ورسالتنا في الحياة وفي التبشير بالغد الجديد وكذا في نشر المعلومات وفي تلقيها وتحليلها وتبنيها ، فهدفنا صناعة عقول نظيفة غير ملوثة عقول طبيعية ، لأن الإنسان عندنا سواء أكان فرداً أو جماعةً يتمتع بنفس الحقوق والمزايا وبنفس الدرجة من الحرية المطلقة التي من خلالها يستطيع ان يفعل مايريد ومايرغب حسب القانون ومن دون تدخل من أحد في مأكله ومشربه وحياته الخاصة ، لأننا نعتقد إن الإنسان خلقه الله حراً لكي يعيش كذلك فالحرية والحياة هما في الأصل مكون واحد لايمكن الفصل بينهما ، فحق الحياة واجب وحق الحرية واجب لأن منهما ينبع حق الاختيار في العيش وفي التعبير وفي الإرادة ، وفي ذلك تحديد للمشيئة لتكون للإنسان لا لغيره ، اي له كما يشاء لا كما يشاء له الغير .
ان قناعتنا في ذلك لاتتعدى في ان يكون للإنسان حق الحياة فيما يختار ، وقولنا هذا يخص عالم الوجود والإمكان لا عالم الغيب والقيامة ، وحين يكون الإنسان حراً في عالم الدنيا نستطيع ان نعلق عليه مايفعله ومايرتكبه وبالتالي يكون مسؤولاً عن تصرفاته ، من هنا نرى ان الحرية هي الأساس الذي يكون حياة الإنسان ، وقد أمن بهذا أباء الليبرالية القدامى وتحدث عن ذلك هوبز وجون لوك وجرمي بنثام وغيرهم .
والليبرالية حسب إعتقادنا تؤمن بالأخلاق وتؤمن بالدين ، ولكنها لاتجعل من ذلك الإيمان الحجر الذي يعرقل مسيرة الإنسان وحريته ، وهي كذلك تدفع لكي يكون ذلك جزء من كل ، طالما كان ذلك يدور في الحيز الخاص لا الحيز العام ، إن إيماننا بالتعددية الفكرية والحزبية إيمان راسخ وهو جزء من عقلنا الطبيعي ومن فلسفتنا للحياة ، ولهذا فمن اللائق لنا في العراق اليوم ان نفعل مزاوجه بين الحكومة القوية وبين الحرية ، وفي ذلك حماية للدولة من التصدع والتفكك والتقسيم الذي سيكون حلاً نهائياً فيما لو بقي حال الساسة على ماهو عليه الآن ، كما لم نكن نعني بالقوة هو الدكتاتورية التي تتدخل وتتحكم في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا العامة ، ولذلك تكون حاجتنا لصنع مجتمع مدني حاجة طبيعية ، لأنه ومن خلاله نتمكن من تفكيك البؤر التي تعرقل حركة المجتمع وتنميته ، ونريد من ذلك تطوير وسائل الإنتاج والعمل السياسي والإجتماعي والثقافي ، لكي يكون المجتمع قادر ذاتياً على حماية نفسه من التصدع والذوبان ، كما يمكنه فعل مايريده وفقاً لمايمليه عليه عقله ومايحتاجه واقعه ، كما يجب التذكير بان صناعة المجتمع المدني تتطلب صناعة نمط من السياسة والثقافة جديد وخارج عن مفهوم التكليف الإلهي الذي يروج له البعض ولا هو تمثيل لسلطة طبقية ، وفي ذلك يكون ما نعنيه هو خلق مجتمع يقوم بعملية تحول إجتماعي وثقافي وسياسي إرادي ، من خلال جملة أعمال أهمها مايلي :
1- خلق مناخ طبيعي لمشاركة الجميع في صنع القرارات و السياسات العامة .
2 - حماية حق المشاركة السياسية للجميع دعما للديمقراطية .
3 - التصدي للسياسات القمعية والأفكار المتطرفة التي تؤثر في حياتنا وفي مستقبلنا .
من خلال :
أ - تعميق الوعي الذاتي وتطوير المبادرات الخاصة .
ب – تعميق الوعي المؤوسساتي وتطوير ثقافة الوعي العام من خلال التأكيد على قوة الإرادة الذاتية في الفعل وفي البناء .
ج - دعم مشروع الإنتقال بالمجتمع من حالته القديمة إلى مجتمع التطور والنمو البعيد عن كل أشكال الهيمنة العتيقة .
د - الإيمان بان المجتمع المدني هو نقطة التحول الطبيعي لمسار المجتمعات المتقدمة والفاعلة .
وهذا يعني خلق نوع من المؤوسسات البديلة والتي تساعد في دعم الديمقراطية ، وتعمل على تنشيط حالة الوعي الجمعي من خلال ترسيخ قيم وثقافة الديمقراطيةونشرها ، ولهذا السلوك قواعد معمول بها في المجتمعات المتحضرة منها على سبيل المثال ،الهيئات والجمعيات والنقابات والمنتديات والمنظمات غير الحكومية بكل أشكالها ، وهذه هي التي تشكل القوة لإجتماعية القائمة بذاتها والتي بمقدورها مواجهة القوى التي تمثل قوى السلطة ، وفي ذلك الفعل دعوة لتحمل المجتمع مسؤولياته وما يتعرض له من مشكلات ، وهذا يتطلب أستبعاد المؤوسسات ذات الطابع العتيق والمثير للأشمئزاز ، من قبيل المؤوسسات ذات الطابع المذهبي والطائفي والقومي ، كما تستبعد من ذلك كل الأحزاب ذات التوجه الدكتاتوري .
نعم إن حاجة مجتمعنا في العراق إلى قوة ثانوية تعزز قيم الديمقراطية ، وترسخها هو دعم وتطوير وتنمية لمشروع المجتمع المدني ذو السلطات المتعددة ، وفي ذلك دعم للحكومة القوية ولمشروع سيادة القانون والنظام ...
راغب الركابي