في التراجيديا التاريخية التي نقرئها حول مقتل علي بن ابي طالب على يد عبد الرحمن بن ملجم ضمن المؤامرة التاريخية المعروفة ، لم نجد في التاريخ الصحيح ما يثبت لنا بان الإمام علي قد نصب من بعده أبنه الإمام الحسن خليفة للمسلمين ، بل الثابت إنه ترك هذا الأمر للناس يختارون ما يجدونه أهلاً لتولي هذه المسؤولية ، أي إن علي بن ابي طالب في ذلك تمسك بالخيار الدستوري الصحيح فلم ينصب ولم يورث .
وما قيل عن أهل الكوفة بإنهم بايعوا الحسن بن علي بالخلافة ، فذلك مالا نصدقه ولا نصححه من الناحية التاريخية والوثائقية إذ لا دليل عليه ، نعم لقد كان الإمام الحسن ممثلاً لأهل الكوفة في إتمام عملية تسليم الخلافة إلى معاوية وفقاً لإتفاق - دومة الجندل - الذي جرى بين ممثل جماعة الإمام علي - أبو موسى الأشعري - وبين ممثل معاوية - عمرو بن العاص - ، وهذا يعني موضوعياً إن الإمام الحسن لم يبايع بالخلافة ولم يُنتخب لهذا المقام ، لأن البيعة تمت لمعاوية بن أبي سفيان بعد مقتل علي – ع - ، وهذا هو الثابت في التاريخ والمؤيد في الواقع وفي الفكر ..
وأما الصلح المزعوم فكان في الأساس كما قدمنا تنفيذ وإجراء حرفي لما تم الإتفاق عليه بين طرفي النزاع أعني علياً ومعاوية ، فهو إذن ليس صلحاً بين الإمام الحسن ومعاوية كما قيل أو كما يزعم البعض ، ولا هو صيغة منفصلة ومغايرة لصيغة إتفاق - دومة الجندل - .
لكن بعض الباحثين الجدد زعموا بان - صلح الحسن - هو صيغة مغايرة لتلك الصيغة التي أشرنا إليها ، وقالوا : إن فيها بنود تقضي بان يلي الأمر بعد معاوية الإمام الحسن ومن بعده يصير أمر الخلافة للحسين !!!
وهذا القول ليس كما يبنغي من وجوه منها مايلي :
الأول : إصطدامه بالمسلمات من الدين ، والتي تنص على وجوب إنتخاب الحاكم السياسي من قبل الناس أو من يُمثلهم ، وهذا يعني بطلان التعيين بالنصب أو بالتوريث وولاية العهد .
والثاني : إن قبول الإمام الحسن بخلافة معاوية دليل على عدم النص عليه ، وبالتالي عدم النص على أبيه وأخيه وهكذا ، فالشرط القاهر لايغير من حقيقة الوجود وموضوعيته .
يظهر ذلك بصحة الترجيح الذي تبناه غير واحد من المحققيين والمحلليين ، ويثبت معه هشاشة الإستحداث الذي قام بصياغته نفر من الكتاب حول بنود صلح الحسن ، وكان واضحاً تأثر هؤلاء النفر بالصراع المذهبي للكلامية والسياسية اللاحقة .
ولقد كنا في الحلقة 2 من البحث الأول قد أبطلنا بالدليل العلمي العقلي دعوى القول : - بالنص الإلهي على شخص بعينه ليكون حاكماً سياسياً - وقد سُمي هذا الإتجاه بالتنصيب من قبل المولى ، كما أبطلنا هناك القول : - بولاية العهد أو بالتوريث - وأعتمدنا الإختيار كطريق شرعي وقانوني ووحيد لإنتخاب الحاكم السياسي ، وهذا الإجراء يُمكن قراءته في السياق التالي : ( إن الأمة ملزمة بإنتخاب الحاكم ولا طريقية لذلك سوى بالإنتخاب المباشر أو غير المباشر عبر الممثلين للأمة من أهل الخبرة في المجالس النيابية المكلفين بإختيار الحاكم العادل الجامع للشروط الموضوعية في الحكم .. ) .
هذا هو الأصل الذي أنبثق منه أو عنه مجلس - الحل والعقد - في الفكر والعقيدة الدينية ، وإذا كان هذا هو الأصل المعتمد فيكون الزعم الذي تبناه البعض باطل ، وباطلةُ توابعه كذلك التي هي نتاج لفعل فاعل لأنها :
1 - لا تنتمي إلى طبيعة الفكر الذي يُمثله الحسن بن علي ككونه أبن لمدرسة فكرية تؤمن - بالإنتخاب - كطريق وحيد للحكم .
2 - ذات صياغة بيانية تنسجم وطبيعة الإستحداث الغريب في منطق الكلامية السياسية لدى الفرق والمذاهب .
وإذا كان ذلك كذلك فيكون معنى الهم بالقتال أو التحرك نحو المدائن لقتال معاوية ساقط من الإعتبار ولا أساس له من الصحة بلحاظ [ الشرط الموضوعي المتقدم والواقع التاريخي السائد آنئذاك ] ، ونعني بهذا :
1 - ان لا جيش في الأساس لدى الإمام الحسن مستعد للقتال .
2 - و لا وجود لقيادات ميدانية بالفعل مؤهلة لخوض القتال .
3 - و لا وجود لولاء حقيقي يشجع لخوض القتال .
وهذا الواقع التاريخي مع شرطه الموضوعي يجعلنا مؤمنين بان الإمام الحسين لما دُعي إلى الكوفة ، لم يحتج أبداً بكونه الوريث الشرعي للخلافة حسب مقتضى بنود الصلح المزعوم ، ولم يتمسك بذلك لإثبات أحقيته في الخلافة ، ولم يتحدث عن خيانة أهل الكوفة لأبيه أو أخيه ..
إذ الثابت في التاريخ إن السلطة الحاكمة كانت تدعي بإن أهل الكوفة طُبعوا على الخيانة ، مستندة في ذلك على أخبار واهمه وروايات كاذبه ، وكانت السلطة الحاكمة آنئذاك تستهدف بث مثل هذه المقولات كي يتسنى لها قمع المعارضين وسد المنافذ أمام الناس حتى لاتطالب بحقوقها وحرياتها ، وهو فعل قديم جديد تستخدم فيه السلطة كل وسائل الإعلام والنفس .
من هذا كله نعلم : ( بان الإمام الحسن - ع - لم يبايع بالخلافة ، ولم يعقد صلحاً منفرداً مع معاوية ، بل كل ما قام به هو إمضاء وإقرار ما أتفق عليه أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص في دومة الجندل ..) .
نعم لقد فتحت وفاة الإمام الحسن – ع - المجال لإحتمالات جديدة في العمل السياسي ، خاصة في ظل مشروع معاوية السيء في إقرار وتشريع - ولاية العهد - لولده يزيد ، في تحد واضح منه للمشروع السياسي في الإسلام أو للنظرية والمذهب السياسي في الإسلام ، لقد كانت سُنة سيئة بكل تأكيد ، ثم توالت صعوداً في الحقب اللاحقة للأمويين والعباسيين والمماليك والخلفاء السلاطين ، وكما عبر أبن خلدون في مقدمته : - تحول الحكم معه إلى ملك عضوض - .
ولاية العهد :
ذهب أكثر فقهاء السلاطين ووعاظهم إلى القول بصحة عقد - ولاية العهد - في الحكم ، واعتبره البعض منهم : - أصح الطرق وأفضلها - في هذا الشأن على الإطلاق .
والحق إن مفهوم - ولاية العهد - لا ينتمي إلى عناصر و مكونات النظام السياسي في الإسلام ، هو مفهوم غريب أُدخل إلى الدائرة السياسية من خلال الفكر الفارسي العتيق ، وهذا الإدخال أخذ شكل :
1 - نظرية النص الإلهي لدى الشيعة .
2 - ونظرية الجبر لدى أهل السُنة .
مع إن المفهوم في حقيقته قبلي ملكي المنشأ ، ويعني : توريث الحكم من الآباء إلى الأبناء ، والتوريث هذا عرفه المشرع القانوني : بأنه صيغة قانونية تعني حصر السلطة في الوريث النسبي .
ولكن الشيعة : ومن أجل إثبات صحة نظريتها في النص الإلهي ، قامت بوضع جملة من الأخبار ، بهدف تبرير هذه النظرية وتسويقها ، كما نقرء ذلك في القول المنسوب لعلي – ع - : - سلبوني سلطان أبن أمي - ، وكأن الإمام علي هنا ينطلق في تقرير حقه في الخلافة على إنه أرث ، وليس حق إستحقاق !!
وأهل السُنة : ومن أجل إثبات نظريتهم في الجبر ، أولوا نيابة أبي بكر لرسول الله في الصلاة على إنه إستخلاف ، وكأنهم بذلك يريدون القول : - بان رسول الله لم يذكر الإستخلاف صراحة إما خوفاً أو عجزاً - وفي كل ذلك طعن برسول الله وبإيمانه وبشجاعته !! [ ولو كان ما قاله أهل السنة صحيحاً في ذلك لكان ذلك حجة بالغة لأبي بكر في حواراته يوم السقيفة ، ودنما حاجة للإتكاء على عناصر وشروط أخرى في أهليته للخلافة ] .
وحينما أُختير - أبي بكر - للخلافة لم يكن ذلك الإختيار بمثابة الإلزام القهري للعامة ، بل كان ترشيح من أهل السقيفة لشخص ما ، وعلى الأمة الموافقة أو الرفض لهذا الترشيح ، أي إن ذلك الترشيح من الناحية القانونية هو إجراء طبيعي ولكنه لا يصل إلى حد المنجزية من دون موافقة وبيعة الأمة له بذلك ، وهكذا أرتكز فعله الموضوعي على البيعة بعد الإختيار في السقيفة ..
وكذا لما أستخلف - أبي بكر - عمر بن الخطاب من بعده ، إذ لم يكن ذلك الإستخلاف واجب الإمضاء من دون ردُ أو نقض ، إذ الإستخلاف هو تعريف وترشيح لشخص ما وهو من باب الإرشاد ، ولم يتخذ ذلك الإستخلاف صفته الشرعية إلاّ من بعد ان أقره عليه جمهور الصحابة وبايعوه على ذلك .
ويجب ان تكون الموافقة والبيعة قد تمتا برضا وإقتناع ، وليس بالجبر أو الإكراه ، والإستخلاف المتقدم إنما هو ترشيح من طرف واحد ، وهو لا يكون ملزماً إلاّ إذا قبلت الجماعة بهذا الإستخلاف وأمضته ، والقبول يكون عبر مبايعة المستخلف ، والمبايعة أو البيعة هي الشرط الموضوعي لصحة الإستخلاف وتحققه في الواقع .
وهذه هي القاعدة الدستورية في الإسلام والتي على أساسها أختار عمر بن الخطاب - الشورى السداسية - المقيدة بقبول الجماعة بمن ترشحه الشورى ليكون خليفة ثم تعرضه على الأمة [ ويجب التذكير هنا بان الخلافة بعد رسول الله لم تقم أبداً على أساس الشرط الديني ، بل قامت في الأساس على الشرط السياسي ، أعني قيامها وفق مبدأ العصبية القبلية ، وهي لذلك الإعتبار جعلت من الخليفة بمثابة زعيم القبيلة الذي لا ينتهي سلطانه إلاّ بالموت ، وهذا على خلاف مبدأ الإختيار كما لا يخفى ] .
على أية حال لم يدم طويلاً هذا الإتجاه في إنتخاب الحاكم ، إذ إستطاع معاوية بتغيير المجرى الطبيعي لخط الخلافة من الإختيار إلى الفرض والنصب ، وقد أدى هذا الإتجاه السياسي إلى إنتكاسة خطيرة في الوعي المجتمعي العام ويمكننا ملاحظته في مايلي :
1 - إلغاء مبدأ الحرية في الإسلام .
2 - إبطال النزعة التجديدية في الإسلام .
3 - سيادة الإستبداد واليأس وسد الذرائع في أوساط المتكلمين والفقهاء .
4 - سيادة النزعة الجبرية في قضايا التاريخ والعقيدة والشريعة .
5 - إنتعاش حركة المرجئة في الوعي الفكري لدى شريحة من الناس .
6 - زيادة نفوذ المعنى السوقي لمفهومي - القضاء والقدر - فصار وجوب الإيمان بهما من المسلمات ، [ أي الإيمان بالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله !!! ] .
هذا التشكيل السلبي للعقل المسلم ساهم بشكل محلوظ في مسخ إرادة التفكير والوعي لديه ، مسخ لعقله وتدبيره ، حتى صار المسلم عبارة عن - ريبوت - غير فاعل وغير مختار وغير مدرك ومقلد للغير في كل شيء ، فهو مسلوب الإرادة والوعي والقدرة على الإختيار .
هذا القمع الفكري والمسخ المعرفي كان من نتاج فعل معاوية الذي رسخ في اللاوعي القبول بالظلم والإستبداد وإعتبار ذلك من الدين ، وقد روج لهذا السلوك الكثير من المرتزقة وتجار صناعة الأخبار ، لهذا لم تجد المحاولات الكثيرة التي قام بها جمع من المفكريين الإصلاحيين من تغيير منهج التفكير الذي أسسه معاوية ، بل إن هذا التأسيس أثر حتى على جيل الإصلاحيين أنفسهم فكثير منهم مثلاً :
( غاب عنه التوثيق التاريخي للنكبة التي أحدثها الوالي المنشق وشهوته في الملك وعصبيته القبلية ، فلم يكتف هذا الوالي بان إنتزع الأمر عنوة ، بل مضى في الغي لا يلوي على شيء حتى صمّم على توريثه كما يورث المتاع لأبنه وعشيرته ، فجمع في قصة مشهورة ثلة من المرشحين للخلافة من الجيل الثاني من أصحاب محمد ، وأمام ملأ من الناس قام أحد أعوانه يخطب بصفاقة [ الخليفة هذا ] مشيراً إلى معاوية [ فان مات فهذا ] مشيراً إلى يزيد [ فمن ابى ذلك فليس له غير هذا ] مشيراً إلى سيفه ، فقال له معاوية : أجلس فأنت أخطب القوم - ومنذئذ بدأ مسلسل الشر والفساد ) - الحريات العامة في الدولة الإسلامية ص 164 راشد الغنوشي - .
مكرساً بذلك أخطر حقبة في تاريخ الأمة ، مكرساً الدكتاتورية والوصاية والعصمة ، مقصياً الأمة عن حقها الطبيعي ودورها في تقرير مصيرها ، مبدداً طاقاتها في جدل عقيم حول الخلافة والإستخلاف ..
وإذا كنا قد أبطلنا مفهوم حكومة - ولا ية العهد - في النظام السياسي للإسلام ، فإننا نكون بذلك قد أبطلنا الحاكمية حسب مفهوم - الوراثة ، والعصمة ، والإنقلاب - والإبطال هذا مردّه الإيمان بإن الحكم في الإسلام - هو حكم مدني - فالحكم يقوم في الاساس على مبدأ الإختيار الشعبي الذي هو الطريق الوحيد المعبر عن نظرية الحكم والحاكمية ..
ومبدأ الإختيار لا يتخذ الصفة العملية إلاّ عبر البيعة ، وعليه فما حدث من إستخلاف في عهد أبي بكر إلى عمر ، لم يكن في الحقيقة سوى طريقاً من طرق الترشيح يقوم به أهل الخبرة :
( وللأمة الخيار في ان تقبل ذلك الترشيح أو تزاحمه بترشيح أخر أو تلقي به عرض الجدار ) - إسلامية الدولة ومدنيتها ، مجلة الجهاد الإسلامي ، العدد 56 تموز 1967 م - .
ومنه يظهر صحة ماذهب إليه الشيخ محمد عبده عندما قال : ( الحكم والحاكم في الإسلام مدني من جميع الوجوه ، وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر ، وهي سلطة خولها الله لأدنى الناس يقرع بها أنف أعلاهم ، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها من هو أدناهم ، لذلك فان لكل فرد الحق بان يقرع بكلمة الحق ) - الحريات العامة للعسيلي ص 246 - .
يتضح مما تقدم بان معنى ولاية العهد أو الوصية في الحكم الذي شرعه معاوية ليس سوى مفهوم قدم للفكر والثقافة الإسلامية عبر تسلل الفكر الفارسي القديم ، ومع ذلك فلا يلزمنا الإستطراد في شرحه وتحليله بقدر مايجب علينا التعريف بالدواعي الآنية التي فرضت على الناس ولاية العهد قهراً :
أولاً : يجب الإعتراف بان ولاية العهد نظام سياسي في الحكم وافد ، وهو يعبر عن تجربة سياسية ذات صبغة قبلية ملكية ، قريبة الصلة بالنزعة البرجسونية التي كانت تعبر عن الفكر الديني والسياسي للفرس القدامى .
وثانياً : وولاية العهد في النظام السياسي ، يمكن النظر إليها كنسخة بدل عن النظام الذي سبقه ، وبالتالي تفتقد الأمة ميزان الحكم في من يجب ان يتولى السلطة .
وثالثاً : ولاية العهد لا تخضع للمعايير الموضوعية والضوابط القانونية الواجب توفرها في الحاكم السياسي ، من قبيل الكفاءة ، والمقدرة ، والمؤهل العلمي ، وو الخ ..
إذن يمكننا وصف - ولا ية العهد - بانها صيغة راديكالية في الحكم ، وهي نزعة مخالفة للإرادة الشعبية فيما يجب وفيما لا يجب توافره في الحاكم السياسي ، ولذلك فهي نزعة دكتاتورية تقف على الضد من قضايا الشعوب في الحرية والديمقراطية وفي العدل ، ولهذا كان لها دوراً حاسماً في عدم الإستقرار والخوف والإرهاب ، بل وزاد في ظلها الإنقسام والإنفصال والحرب الداخلية ..
* [ بحث موضوعي في كتاب : إشكالية الخطاب في القراءة التاريخية لوقعة كربلاء - للشيخ الركابي - ج3 ] .
يتبع