كان هناك في العالم العربي خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي نوع من الحضور للإيديولوجيات المتصارعة عالمياً، يتمثل خاصة في تواجد بارز لتيارين إيديولوجيين كانا يجتاحان العالم الثالث: الإيديولوجيا الليبرالية، والإيديولوجيا الاشتراكية.
ومع بروز هذين التيارين في الواقع الثقافي العربي آنذاك، فقد كان في الأعم بروزاً "مهزوزاً"، بمعنى أن كلا منهما كان يفتقد للقاعدة التي لابد له منها لكي يتأصَّل ويتجذر.
إن بعض شذرات الإيديولوجيا الليبرالية التي كانت تطفو خلال تلك الفترة على بعض نماذجنا الثقافية، لم تكن تعكس واقعاً برجوازياً أو رأسمالياً وطنياً ذا بنيات تتجاوب معه وتقدر على حمله، وإنما كانت تعبِّر في الغالب عن وضعية شاذة، وضعية برجوازية طفيلية وظيفية، وأرستقراطية مكتبية، تقومان بدور الوسيط للرأسمالية الغربية عامة. ولذلك كان المعبِّرون عن هذه الإيديولوجيا، سواء بالصيغ الفنية أو الفلسفية أو بالكتابات السياسية، يصدرون هم أيضاً عن وعي مزيَّف، يجسم ظاهرة أخرى شاذة يمكن وصفها بأنها ظاهرة "الاغتراب في الغرب".
نجد أمثلة متعددة لهذه الظاهرة في كتابات كثير من مثقفينا في العالم العربي كله، أي لدى أولئك الذين تبنوا الكثير من الصيغ الأدبية والفلسفية للإيديولوجيا الليبرالية، معتقدين أنهم بذلك يجددون ثقافتنا الوطنية، أو يبنون نوعاً جديداً من الثقافة في وطننا العربي... لقد فشلت جميع المحاولات التي من هذا القبيل، لأنها لم تكن تتعدى الاقتباس السطحي من بناء فوقي مرتبط بالأسس المادية للتجارب الحياتية للغرب وحضارته. إن البرجسونية أو الوجودية أو الشخصانية أو السريالية أو الماركوزية أو الوضعية المنطقية... الخ، كل تلك مظاهر فكرية تعبر عن واقع معين، واقع الغرب وتناقضاته وتوتر بنيانه وشخصيته. أما نحن في العالم العربي، فإننا كنا وما زلنا نعيش واقعاً آخر يختلف اختلافاً أساسياً عن واقع الغرب وتجربته. ولذلك فإن شعبنا لم يهتز، ولا يمكن أن يهتز، عندما تُقدَّم له مثل هذه المحاولات الفجة المقتبسة من عالم غير عالمه، والتي تعكس اهتمامات غير اهتماماته.
الثقافة الوطنية "هي مجموع الجهود التي يبذلها الشعب على صعيد الفكر من أجل أن يصف ويبرر ويغني النضال، الذي به يتكون الشعب ويبقى".
على أن مثل هذا الوضع لم يكن ينطبق فقط على الذين تحدثنا عنهم، بل لقد كان ينطبق أيضاً على بعض الذين كانوا يعلنون انتماءهم إلى التيار الإيديولوجي المقابل: تيار الاشتراكية العالمي. ودون الدخول في مجادلات ومشادات كلامية قد لا تنتهي إلى نتيجة، يمكن أن نقرر حقيقة واقعية تفرض نفسها على كل ذي نظرة سليمة موضوعية، وهي أن إيديولوجيا "الاشتراكية العالمية" لم يكن لها أن تتأقلم في العالم العربي، التأقلم الكافي والضروري لتحقيق أهدافها. إنها كانت تؤخذ في معظم الأحوال كنظرية أو كشعارات جاهزة تُرضي نزعة الهروب من المشاكل الملموسة، والميل إلى الكسل أمام الحلول المعقدة المستعصية. وبعبارة أخرى إن "إيديولوجيا الاشتراكية العالمية" التي كانت شعاراتها و"مختزلاتها" تنتشر بين شبابنا، لم يكن يتوافر لها ما يلزم من الأسس الضرورية الموضوعية منها والذاتية، وعلى رأس هذه الأسس وجود فكر واعٍ يهضمها، وتنظيم شعبي بروليتاري يبلورها في ممارسة واعية هادفة، ويجعل منها، وبواسطة هذه الممارسة نفسها، حركة فكرية دينامية تعبر في إطار النظرة العامة عن خصوصية التجربة المحلية.
لم تكن العناصر الثلاثة التي تحدثنا عنها في المقال السابق وهذا المقال (ثقافة المستعمر، رد الفعل الوطني إزاءها، الدعوة إلى التغريب في الماضي أو في الإيديولوجيات العالمية المتصارعة)، تشكل أساساً لثقافة عربية قومية حق. وأعتقد أن في الذي قدمناه ما يكفي لشرح السبب. أما الآن فعلينا أن نتجه وجهة أخرى، إلى البحث في الشروط التي كانت تقدم على أنها القاعدة السليمة لقيام ثقافة وطنية قادرة على الاستجابة لمتطلبات المرحلة.
يمكن القول باختصار إن التصور البديل الذي كان يقدم من أجل بناء ثقافة وطنية حق هو ذلك الذي يرى فيها أنها الثقافة التي "تعبر بصدق وأمانة عن روح الشعب". ولم يكن أحد في الوطن العربي يقصد بروح الشعب ما كان يقصد منه في بعض البلدان الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، حيث استشرت النظريات العرقية المتطرفة التي يغذيها الاستعلاء المفرط، كما أنها لم تكن تنبني على أية فكرة ميتافيزيقية أو أي تصور غيبي. كلا، إنها كانت تعني خلاصة الحياة الوجدانية لمجموع أفراد الشعب بوصفهم كلاً واحداً يصنع تاريخاً واحداً. ولما كان معظم أفراد الشعب العربي من الكادحين، ولما كان غير الكادحين بين صفوفه، على قلة عددهم، لا يشكلون سوى فئة طفيلية مستهلكة، فإن روح الشعب لم تكن تعني شيئاً آخر غير خلاصة آلام وآمال الكادحين. وبالتالي فإن الثقافة الوطنية كان ينظر إليها على أنها المرآة التي تعكس بصدق ووضوح الوضعية التاريخية التي تعيشها الأمة العربية بكل ملابساتها وأبعادها.
وبناء على ذلك فإن الثقافة القومية كان ينظر إليها على أنها تقوم على الأسس الثلاثة التالية:
1- لما كانت روح شعب من الشعوب إنما تتجلى أول ما تتجلى في لغته القومية، فإن الثقافة الوطنية المنشودة في جميع الأقطار العربية لا يمكن أن تستوفي شروط وجودها، ولا أن تقوم بالمهام المنوطة بها، إلا إذا كانت بلغتنا الوطنية، اللغة العربية. لقد كان التصور السائد للثقافة الوطنية هو أنها لا تتحدَّد من حيث الشكل، لا بالأرض ولا بالموقع الجغرافي ولا بالأصل العرقي، وإنما تتحدد أساساً باللغة. لقد كان ينظر إلى اللغة على أنها ليست مجرد أداة للتعبير بل كانت النظرة القومية للغة العربية أوسع من ذلك كثيراً: "إنها الفكر ذاته، إنها الوجدان ذاته، إنها الثقافة ذاتها". وكثيراً ما كان يُستشهد بأقوال مفكرين ألمان مثل قول بعضهم: "إن اللغة هي الروح الحقيقية للأمة، الروح التي تشكل عالماً خاصاً بها، تكشف فيه عن نفسها. إن الأمة هي الـ(نحن) الذي يعي نفسه في اللغة ويتواصل بواسطتها".
لم يكن ذلك يعني الدعوة إلى الاستغناء عن اللغات الأجنبية، كلا. لقد كان هناك إدراك واعٍ بضرورة امتلاك لغة أجنبية من أجل أخذ العلم والتكنولوجيا والتواصل مع العالم الخارجي، ولكن مع بقاء الثقافة العامة عربية الفكر واللسان.
2- ولم يكن ينظر إلى الثقافة الوطنية على أنها ثقافة نخبة، بل على أنها ثقافة للشعب كله، ومن الشعب كله. لقد كان ينظر إلى المسألة على ضوء اختيار إيديولوجي يرى في تقييد تعميم التعليم وتكوين الكوادر بالحاجيات والوظائف الشاغرة، تفكيراً لا يمكن أن يصدر عن مثقف وطني، لقد كان ينظر إليه على أنه نابع من سياسة رجعية تخشى "بطالة المثقفين"، تخشى نشوء انتليجنسيا واعية. هذا بينما كانت النظرة الوطنية في هذا المجال، كما في غيره من المجالات، تحكم على الأشياء من زاوية ما يجب أن يكون، من زاوية مطامح الشعب وتطلعات الشباب. كانت الحجة مقنعة لأنها كانت قائمة على الفكرة التالية: إن بلداً متخلفاً لا يمكن أن يشق طريقه نحو التنمية الحق إلا مع نشر الثقافة والتعليم على أوسع نطاق وفي كل مجال: "لنترك مئة وردة تتفتح وحينئذ سنقطف من الثمار ما لا يقدر ثمنه".
3- إن النظرة الوطنية إلى الثقافة الوطنية لم تكن تدعو إلى الاغتراب في الماضي، بل كانت تنادي بضرورة احتواء هذا الماضي بعد تصحيح معرفتنا به، ولم تكن تدعو إلى استيراد ثقافة معينة من الخارج، بل هي كانت تنادي بضرورة هضم الثقافة العالمية وتمثل مضامينها تمثلاً واعياً. كانت الشعارات التي رفعت في هذا المجال من قبيل القول: إن الثقافة الوطنية هي "تفاعل ذاتي وتكيف خارجي، موقف فكري وعملي من الحياة والتاريخ". وكان لنصوص "فرانز فانون" في هذا المجال رواج كبير في الساحة العربية خلال الستينيات. ومن أقواله: إن الثقافة الوطنية "هي مجموع الجهود التي يبذلها شعب من الشعوب على صعيد الفكر من أجل أن يصف ويبرر ويغني النضال الذي به يتكون الشعب ويبقى". كما كانت لشعارات ماوتسي تونغ أصداء واسعة، مثل قوله: "لابد أن تعتمد الثقافة الوطنية على الفأس والقلم، الفأس لهدم الثقافة الاستعمارية والقلم لبناء الثقافة الوطنية".