الجزء الأول :
الجهاد : مصدر رباعي الفعل على وزن – فعال – من المفاعلة كالخصام بمعنى المخاصمة ...
وقد ذهب نفر من الباحثين للقول بان الجهاد : مصدر ثلاثي الفعل من – الجُهد – أي الطاقة ، كما جاء ذلك في القاموس المحيط للفيروز آبادي ..
و – الجَهد - بالفتح يعني المشقة ، وتعني عند صاحب اللسان أعني أبن منظور :
إستفراغ مافي الوسع من قول وفعل ..
والجهاد بالمعنى اللغوي هذا هو مفهوم عام يصح إطلاقه على كل أمرٍ مادي ومعنوي في الخير والشر ..
وللجهاد في لسان الأخبار والروايات معناً أخص من المعنى اللغوي ، وهو في الفقة الإسلامي : يعني الدعوة إلى الله والإسلام ..
ولكن الرسول محمد – ص – عمم معنى الجهاد ليستوعب حتى - جهاد النفس - كما ورد قوله : [ قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهدة العبد هواه ] - كنز العمال صفحة 116 جزء 4 رقم الحديث 117799 ..
والحق إن موضوع بحثنا عن الجهاد هنا هو - الجهاد بالمعنى الفقهي - المعنى الإصطلاحي بلغة المتفقهة ، ونعني به المعنى الخاص بقتال العدو أو - القتال في سبيل الله - وهذا ماقاله القسطلاني في شرحه على صحيح البخاري قال : الجهاد هو قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله - القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري الجزء 5 الصفحة 30 - ..
وهو نفس المعنى الذي ذكره الكاشاني في كتابه بدائع الصنائع جزء 7 صفحة 97 ...
ولكن بعض الأخبار أستخدمة الجهاد بمعناه الفقهي على نحو مباشر ومن دون ذكر أية قرينة في المقام ، أو إن البعض من الأخبار أستخدمت بعض القرائن المقامية للتدليل على مرآدها كما في قول علي بن أبي طالب وهو يحث أصحابه على قتال عدوه إذ يقول : [ .. إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة .. ] - نهج البلاغة الخطبة 34 - ..
والقرينة المقامية في بيانه هذا هو الحكاية عن الجو الحربي السائد ، ولفظة - جهاد - في كلامه دالة على القتال بمعناه الفقهي .
نعم إن إنتقال الجهاد من معناه اللغوي إلى المعنى الفقهي ، جعل من مفهوم الجهاد دال فقط على معنى - القتال - دون سوآه من المعاني الأخرى ، ظهر لنا ذلك في كلام علي المتقدم ويظهر لنا في كلام عمر بن الخطاب حين قال : [ ياأهل المدينة إنما كتب أبوعبيدة يعرص بكم ويحثكم على الجهاد .. ] - مصنف أبن أبي شيبة جزء 5 صفحة 335 - .
فالمعنى الفقهي للجهاد أخص من المعنى العام ، ولكنه المتداول والمتبادر إلى الذهن لغلبة الإستعمال حتى صار لفظ الجهاد هو : القتال في سبيل الله - وهذا المعنى هو المقرر في كتب الفقة كافة ، ويربط في العادة بينه وبين - الدعوة إلى الإسلام - التي هي واجبة على نحو وصار وجوبها متعلق - بالجهاد في سبيل الله .. وهوهنا يعني الجهاد الأبتدائي - والمراد به : - قتال أهل الكفر حتى يقولوا لا إله إلاّ الله .. -
وأهل الكفر : عنوان عام يشمل جميع المخالفين والمعارضين وأهل الملل والنحل وكذا المعاهدين والمحاربين - !!
ولأن هذا المفهوم عائم ويتداوله الكثيرين في عصرنا من دون تحديد وضبط ، حتى صار كل مخالف لرأي أو لمذهب أولدين عندهم كافر يجب قتاله ، وقد جرى تعميم هذا ليتناول الموضوع بأثر رجعي ، وهذا الإتجاه في تفسير النصوص التاريخية يجعلنا في مواجهة مباشرة حول طبيعة الدليل الذي أعتمد عليه في تبرير هذا الحكم تجاه المخالفين ، أعني أننا سنواجه السؤال التالي :
ماهو المبرر الشرعي والأخلاقي الذي يبيح لنا قتال الناس من غير ملتنا ؟ وهل هناك نص ديني رصين يجيز لنا قتال الناس لا لشيء إلاّ من اجل إدخالهم في الإسلام ؟!!
أي أننا نبحث عن المجوز وعن الدليل الشرعي والقانوني والأخلاقي الذي أباح لنا قتال من لم يعتدي علينا ومن لم يظلمنا !!
وهل هناك شيء من هذا القبيل في الكتاب المجيد يدل على ذلك ؟
وهل يوجد في السنة النبوية دليل على جواز قتال الناس من اجل إدخالهم في دين الإسلام ؟
وكيف أباح بل أجاز الفقهاء ذلك وتبنوه على إنه الخيار الشرعي الوحيد والمعبر عن معنى الدعوة ودلالتها ؟
ولكي نجيب بشكل موضوعي عن هذه الأسئلة نقول : إن الإباحة والجواز لم يأتيا في نصوص الكتاب المجيد ، إنما جاء ذلك في فتاوى رجال المؤوسسة الدينية وكذا جاء ذلك في بعض كتب التاريخ ، يقول ضياء العمري : إن الحافظ أبن كثير كان يقول – الجهاد فريضة يجب القيام بها سواء أحصل من الكفار إعتداءٌ على المسلمين أم لم يحصل - !! ، قال هذا أبن كثير في معرض حديثه عن معركة تبوك التي قال فيها : إن الصحيح فيها إنها كانت إستجابة طبيعية لفريضة الجهاد - المجتمع المدني صفحة 227 – ويقول ابن كثير في هذا الشأن إيضاً : فعزم رسول الله -ص – على قتال الروم ، لأنهم أقرب الناس إليه ، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله ، وقد قال الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة وأعلموا أن الله مع المتقين ) - التوبة الجزء 9 النص 123 - وللمزيد راجع البداية والنهاية لأبن كثير جزء 2 صفحة 5 وكذا كتاب الأم للشافعي جزء 4 صفحة 168 - ..
ولكي يلم القارئ العزيز بأطراف القضية على نحو واقعي وعلمي لابد لنا من القول :
أولاً : هل الدعوة إلى الله وإلى الإسلام تتطلب فعلاً وحقاً - الجهاد الأبتدائي – وقتال الناس وإدخالهم عنوة وبحد السيف إلى الإسلام ؟؟
وهل الدعوة على هذا النحو تحقق معنى قوله تعالى : ( أدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ؟؟
وهل يمكن إعتبار الدعوة بحد السيف عملاً أخلاقياً يمكن تبريره دينياً ؟؟
وهل إن قتل الناس من أجل الدعوة إلى الله يعد عملاً شرعياً مباحاً ؟؟
وثانياً : هل الدعوة إلى الله بحد السيف هي القاعدة الشرعية الواجبة والمقررة في الكتاب المجيد أم لا ؟؟
وثالثاً : هل أستخدم الرسول – ص – السيف من أجل الدعوة إلى الله والإسلام العظيم في حياته في مكة والمدينة ؟؟
طبعاً أدعت بعض كتب الفقة ان جميع معارك الرسول - ص - كانت كلها جميعها - جهاداً أبتدائياً - ، وهذه الكتب تبنت في دعوآها هذه خبر غير صحيح مشكوك في نسبته إلى الرسول محمد - ص - جاء فيه قوله : أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فان قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم .. - هذا الخبر رواه احمد في مسنده ، وذكره الحافظ أبن حجر وقد رد هذا الخبر جمع من العلماء مستبعدين صحته وصحة صدوره عن رسول الله - ص - ..
ولو أفترضنا محالاً صحة صدور هذا الخبر عن الرسول - ص - ، فهل بمقدور هذا الخبر تقرير حال رسول الله وبأنه قد مارس الجهاد الأبتدائي من أجل الدعوة إلى الإسلام ؟؟
وبما إن البعض أستند في فتوآه على هذا الخبر في صحة الدعوة إلى الإسلام بحد السيف ، فالمسألة إذن يجب ان تبحث فقهياً وحسب الأصول المقررة ، وبما إن مصدر التشريع الأول في الإسلام هو - كتاب الله - والسنة النبوية بصفتها الداعمة والمؤيدة للكتاب في أصول الأستنباط ، وأما العقل ( القياس ) والإجماع فهما عندنا ليسا من المصادر بل هما من الأدوات التي يستخدمها الفقية للتدليل على مطابقة مضمون النص على مصداقه في الواقع القريب ، وهي مطابقة إقتضائية للحكم على الموضوع في الزمان والمكان المعينين ..
وبما إن الكتاب المجيد هو المصدر الأول للتشريع فلابد إذن من تحليل النص الذي أباح القتال ونعني به قوله تعالى : [ أُذن للذين يُقاتلون بانهم ظُلموا ] تحليل النص من الناحية التاريخية وسنبحث هنا شأن أو سبب نزول هذا النص ، أعني لماذا أجاز الله القتال ضمن هذه الصيغة الحصرية ؟؟
لنقرء
أولاً ماجاء في تفسير الطبري حول شأن النزول : روي عن قتاده إنه قال في شأن قوله تعالى ( أُذن للذين يُقاتلون بانهم ظلموا ) هي أول آية أُنزلت في القتال ، فأذن لهم ان يقاتلوا ، وقد كان بعضهم يزعم أن الله إنما قال ( أُذن للذين يُقاتلون ) بالقتال ، من أجل أنّ أصحاب رسوالله – ص - كانوا أستأذنوه في قتال الكفار ، إذ آذوهم وأشتدوا عليهم بمكة قبل الهجرة ن غيلة وسراً ، فأنزل الله في ذلك : - إن الله لايحب كل خوان كفور - الحج الجزء 17 النص 38 - فلما هاجر رسول الله - ص - وأصحابه إلى المدينة ، أطلق لهم قتلهم وقتالهم ، فقال : ( أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا .. ) - تفسير الطبري الجزء 17 الصفحة 123 - ..
روى الترمذي والنسائي أن ابن عباس قال : - لما خرج رسول الله - ص - من مكة ، قال أبو بكر { آذوا نبيهم حتى خرج ليهلكن !! فأنزل الله تعالى - أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا ، وان الله على نصرهم لقدير - } ..
قال القرطبي : - فيه إضمار أي أُذن للذين يصلحون للقتال في القتال ، فحذف لدلالة الكلام على المحذوف - تفسير القرطبي جزء 12 صفحة 67 وصفحة 68 - ،
فقال أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون قتال !! ...
هذه رواية الترمذي ، وفي رواية النسائي قال : - لما أُخرج النبي - ص - من مكة قال أبوبكر { أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون !! فنزلت - أُذن للذين يُقاتلون - فعرفت أنه سيكون قتال } ..
قال ابن عباس : - هي أول آية نزلت في القتال – جامع الأصول جزء 2 صفحة 244 -
قال الطبرسي : - الإذن متعلق بالجماعة التي وقع عليها الإعتداء ، أي وقع عليها ظلم ، فالله أذن لها بالدفاع عن نفسها ، أو إن الإذن مشروط بوجود الإعتداء والظلم ..
أي إن الإذن جاء ( للذين يُقاتلون ) باعتبارهم أصبحوا مصداقاً لقوله تعالى ( بأنهم ظُلموا ) فالإذن هو تشريع جاء نتيجة لوقوع الجماعة المؤمنة تحت الظلم أو كونهم أصبحوا جماعة مظلومة ، وهذا القيد في النص يجعل من القتال مشروعاً في حال وقوع الظلم ووجوده في المطلق ..
قال الطبرسي : - هذه الآية نزلت في حق الجماعة المؤمنة بقوله ( كان المشركون يؤذون المسلمين ولايزال يجيء مشجوج مضروب إلى رسول الله – ص - فيشكون له ذلك فيقول لهم : - أصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ، حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية ، وقد جاء الإذن إلى الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق - يعني المؤمنين بمحمد رسولاً ونبياً هم الذين أخرجوا من مكة - والنص عام يشمل كل مسلم بل كل إنسان أخرج من دياره ووطنه بغير حق .. خاصة إذا ما دققنا في السبب الذي من أجله أخرجوا لأنهم قالوا – ربنا الله - !! وهذا السبب هو إستثناء منقطع ، أي إنه ليس لهم ذنب سوى قولهم : - ربنا الله - وهذا القول لايعد جرماً يحاسب عليه المرء ، طالما إنه يتحرك في دائرة القول وحسب ، لهذا إعتبرنا سبب الإخراج – إستثناء منقطع - ..
أقول : النص كما هو عام وفي عمومه هذا فهو يشمل كل إنسان ولا خاصية فيه تفيد معنى المسلمين وحدهم ، أي إن النص صريح في كونه أعطى الأذن لكل إنسان بالدفاع عن نفسه وعرضه وأرضه ووطنه من أي عدوان يُمكن ان يتعرض له ، فالدفاع هو حق فطري يمارسه الكائن الحي حينا يتعرض إلى أي إعتداء ..
قال ابن العربي : - معنى ( أُذن ) أي أُبيح ، وهو موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع ، وهذا دليل على إن الإباحة من الشرع ، وأنه لا حكم قبل الشرع ، أي لا حكم في الإباحة أو الخطر إلاّ ما حكم به الشرع وبيّنه - أحكام القرآن لأبن العربي جزء 3 صفحة 1284 - ..
قال السيوطي : - هذه الآية مبيحة لا موجبة ، وقد نص الشافعي على أنّ القتال كان قبل الهجرة ممنوعاً ، ثم أُبيح بعدها ، ثم وجب بآيات الأمر ، فلعل الإيجاب كان في آخر السنة الأولى أو الثانية من الهجرة - الحاوي للفتاوي للسيوطي جزء 1 صفحة 246 - ..
يتبع