الوقتأقساماخبار العراقمختارات من الثقافة التنظيميةمن يصنع العلمانية في العراق ؟ ـــــ راغب الركابي
(0) الليبرالية الديمقراطية و حاجات الأمة ـــــ راغب الركابي(0) الليبرالية والسلام(0) الطريق إلى الليبرالية الديمقراطية (ج)(0) رؤيتنا للمستقبل (0) الوحدة الوطنية من منظور ليبرالي !!(0) مابين الليبرالية والرأسمالية من تفاوت ـــ راغب الركابي(0) الليبراليةهي الحل للعراق ـــــــــ راغب الركابي(0) الدين لله والوطن للجميع ـــــ راغب الركابي(0) الليبرالية الكلاسيكية و الليبرالية الجديدة ــــــ راغب الركابي(0) الليبرالية الديمقراطية في مواجهة الطائفية والعنصرية ـــــ راغب الركابي(0) الليبرالية خيار السلام في العراق ـــــ راغب الركابي(0) الليبرالية والديمقراطية ...أم الليبرالية الديمقراطية ؟(0) الهوية الوطنية من منظور ليبرالي(0) المرأة في الإسلام ــــــ راغب الركابي(0) مسودة دستور جمهورية العراق(0) الليبرالية الديمقراطية .. ليست الرأسمالية !!(0) الليبرالية في الفكر النبوي ــ راغب الركابي(0) من مقالات التفسير والفكرالقرآن بين التحريف والتصحيف : ـــــــــــ آية الله الشيخ إياد الركابي
موسى النبي والعبد الصالح ــــــــ آية الله إياد الركابي في ظلال آية المحارب ــــــ الحلقة الثانية في ظلال آية المُحارب ـــــــ الحلقة الأولى الذات الإلهيّة بين العلم والعبادة ـــــــ مادونا عسكر الحراك العراقي اللبناني ـــــــــــــ راغب الركابي ثمن الحرية ـــــــــــ راغب الركابي المفهوم الإفتراضي لمعنى قوله تعالى : [ فلا أقسمُ بالخنس ، الجوار الكنس ] – التكوير 15 ، 16 العلاقة بين الفكر والسلطة ـــــــــــ راغب الركابي رسالة ملك الفرس يزدجرد* الى عمر بن الخطاب صوت أبي العلاء الاشتراكي.... إبراهيم مشاره - الخلل المفاهيمي في لغة النص : - القلب ، الفؤاد ، العقل .. الروح مثالاً |
Thursday, October 11. 2007صلاح الدنيا عند الماوردي (دين متبع,وسلطان قاهر ,وعدل شامل وأمل فسيح )
خالد خميس السحاتي*
يعد الإمام أبو حسن الماوردى من أوائل من عالج الشأن السياسى من أعلام الاتجاه السياسى الفقهي. ويمثل أحد اتجاهات الفكر السياسى الإسلامى التى تناولت الظاهرة السياسية بصور وأشكال مختلفة ومتنوعة، بحسب تنوع أساليبها ومناهجها المعرفية وقد كان الماوردى يركز فى دراسته للظاهرة السياسية على مسألة شروط الإمامة /الخلافة، ووظائفها وآليات ممارستها للسلطة، بالإضافة إلى تناوله لموضوع تداول السلطة وانتقالها، وغيرها من القضايا ذات الصلة بالشأن السياسى والأخلاقي.
وما سيتم التطرق اليه هنا، هو من جملة عوامل صلاح الدنيا، التى ذكرها الإمام فى كتابه الشهير: "أدب الدنيا والدين"، بقوله: "إن ما تصلح به الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، فى قواعدها وان تفرعت، وهي: دين متّبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح"، ولكن، قبل ذلك، لابد من التعريف بالإمام الماوردي، والإشارة إلى بعض مصادره الفكرية التى تأثر بها، وطرح آراؤه المختلفة مستدلا ببعض معطياتها وصورها . من هو الماوردي؟ هو على بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردى "نسبة إلى ماء الورد"، ولد فى مدينة البصرة بالعراق سنة 364 هـ، ثم انتقل إلى بغداد، تولى القضاء فى كثير من المدن، ثم صارت له رئاسة القضاء، "أقضى القضاة" فى عهد الخليفة القائم بأمر الله العباسي، وكان له منزلة عالية عند الخلفاء العباسيين، ألف كتبا كثيرة فى الفقه "الشافعي"، وفى التفسير، وفى الأخلاق والسياسة، منها: "أدب الدنيا والدين" و"الأحكام السلطانية" و"تسهيل النظر وتعجيل الظفر فى أخلاق الملك وسياسة الملك"، وكتاب "الحاوى الكبير" فى فقه الشافعية فى أكثر من عشرين جزءا، و"نصيحة الملوك"، و"الأمثال والحكم"، وغيرها... وقد توفى الماوردى كما تذكر بعض المصادر فى شهر ربيع الأول من سنة خمسين وأربع مائة للهجرة"450" هـ، ودفن فى مقبرة باب حرب وكان بلغ ستا وثمانين سنة. أسباب صلاح الدنيا يستهل الماوردى حديثه عن صلاح الدنيا بقوله: "إن صلاح الدنيا معتبر من وجهين: أولهما: ما ينتظم به أمور جملتها، والثاني: ما يصلح به حال كل واحد من أهلها، فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه، لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلال أمورها، لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها، لأنه منها يستمد، ولها يستعد، ومن فسدت حاله مع صلاح الدنيا، وانتظام أمورها، لم يجد لصلاحها لذة، ولا لاستقامتها أثرا، لأن الإنسان دنيا نفسه، فليس يرى الصلاح إلا إذا صلحت له، ولا يجد الفساد إلا إذا فسدت عليه، لأن نفسه أخص، وحاله أمس، فصار نظره إلى ما يخصه مصروفا، وفكره على ما يمسه موقوفا". إن هذا التصور الذى يطرحه الماوردى يشير فى أحد جوانبه إلى تعامله الواقعى مع حال الإنسان فى أى زمان ومكان، فهو أى الإنسان يتأثر بمجريات وأحداث عصره، وبظروف بيئته المحيطة، ويتفاعل معها سلبا أو إيجابا. ومن هنا، ربط الإمام فى إطار حديثه عن صلاح الدنيا واستقامة أمرها واعتدال أحوالها ما بين: انتظام جملة أمور الدنيا من جهة، ومقومات صلاح حال كل إنسان فيها من جهة أخرى، والسبب فى هذا الربط هو وجود نوع من العلاقة الارتباطية بين هذين العنصرين، "انتظام أمور الدنيا وصلاح حال أهلها"، فمن صلح حاله مع وجود أى فساد فى أحوال الدنيا، لا يلبث أن يصيبه شيء من فسادها، والعكس صحيح، فمن فسدت حاله مع صلاح الدنيا وانتظام أمورها، لم يجد لصلاحها لذة، ولا لاستقامتها أثرا، وهنا يبرز التأثير المتبادل الذى سلفت الإشارة إليه آنفا بين طرفى هذه المعادلة التى يقدمها الماوردي، فأحوال الناس فى هذه الدنيا تتباين، وظروفهم تختلف، حسب اختلاف الأرزاق والحاجات والأماكن والأديان، " فالدنيا لم تكن قط لجميع أهلها مسعدة، ولا عن كافة ذويها معرضة، لأن إعراضها عن جميعهم عطب، وإسعادها لكافتهم فساد، لائتلافهم بالاختلاف والتباين، واتفاقهم بالمساعدة والتعاون، فإذا تساوى حينئذ جميعهم، لم يجد أحدهم إلى الاستعانة بغيره سبيلا، أما إذا تباينوا واختلفوا، صاروا مؤتلفين بالمعونة، متواصلين بالحاجة، لأن ذا الحاجة وصول، والمحتاج إليه موصول". وهنا يتضح أن الماوردى يركز على "التعاون المثمر" كركن أساسى لأى تجمع بشري، وشرط جوهرى لنجاحه وتحقيق أهدافه، فالمشاركة والتعاون ظاهرة أساسية للحياة البشرية، بل إنها مسألة وجوبية بحكم الطبيعة الإنسانية وليست جوازية، ولذلك، فان افتراض وجود الإنسان المتفرد فى كينونته مع ما وفرته له الطبيعة، لا يعنى عمليا إلا هلاكه، أو فى أحسن الأحوال أن تسوء معيشته، لحاجته إلى تدبير الموجودات الطبيعية ومعالجتها بعمليات تصنيع وإعداد تجعلها صالحة للاستعمال البشري. ومن هذه الزاوية نلاحظ أن الماوردى لا يختلف كثيرا فى تصوره لغايات وأهداف الاجتماع الإنسانى "وطبيعة العلاقات التى قد تقوم بين البشر ضمن هذا الإطار" عن ما طرحه العديد من فقهاء الحضارة العربية الإسلامية ومفكريها البارزين، أمثال ابن سينا والفارابى وابن خلدون وغيرهم، فالاجتماع الإنسانى عند ابن سينا هو الوجه الآخر لعجز الإنسان عن إشباع حاجاته وتوفير متطلبات حياته إذا انفرد بذاته واعتزل الجماعة الإنسانية، لذلك كان لابد له من أن يتعاون مع غيره من الخلق، فيعينهم ويعينونه، بما يمكنهم جميعا من البقاء والمحافظة على النوع، أما الفارابى فقد ذهب إلى تمييز النوع الإنسانى على أساس أن الإنسان من الأنواع التى لا يمكن أن يتم لها الضرورى من أمورها ولا تنال الأفضل من أحوالها إلا باجتماع جماعات كثيرة منها فى مسكن واحد. فعنده أن "كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج فى قوامه وفى أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها وهو وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه، ويبحث ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة فى أصل الاجتماع الإنساني، وغاياته وسبله، وقد رأى فيه ظاهرة طبيعية، وشرطا لازما لاستمرار الحياة وضمانا لتحضرها، فالإنسان عنده مدنى بطبعه، ما دامت حاجاته الأساسية الطبيعية، كالغذاء والأمن مما لايمكن إشباعه إلا باجتماع البشر وتعاونهم. وعن الحاجة إلى التعاون أساسا للاجتماع الإنساني، يؤكد الجاحظ أن: "حاجة الناس إلى بعض، صفة لازمة فى طبائعهم، وخلقة قائمة فى جواهرهم، وثابتة لاتزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم، لم يخلق الله تعالى أحدا يستطيع بلوغ حاجته بنفسه، دون الاستعانة ببعض من سخّر له، فأدناهم مسخّر لأقصاهم، وأجلُّهم ميسر لأدقهم". وهكذا، فان الماوردى وهو يقدم لنا وجهة نظره حول حاجة الإنسان إلى غيره، وعجزه عن الحياة بمفرده، لا يبتعد كثيرا عن آراء واجتهادات العديد من المفكرين والفلاسفة العرب "المسلمين"، وبالتالى فهو يؤسس مفهومه للاجتماع الإنسانى وأسبابه على رصيد فكرى ثري، متعدد الجوانب، متنوع الاتجاهات. الدين والسلطان يرى الماوردى أن أول قاعدة لصلاح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة: دين متبع، لأنه يصرف النفوس عن شهواتها، ويعطف القلوب عن إرادتها، حتى يصير قاهرا للسرائر، زاجرا للضمائر، رقيبا على النفوس فى خلواتها، نصوحا لها فى ملماتها. وهذه الأمور لا يوصل إليها بغير الدين، ولذلك كان الدين أقوى قاعدة فى صلاح الدنيا واستقامتها، وإحدى الأمور نفعا فى انتظامها وسلامتها"، فالدين بكل ما يحمله من قواعد وأوامر ونواهى يعد من أعظم مقومات الرضا الروحى و صلاح النفوس والأبدان، وتماسك المجتمعات وانضباط أمورها، وتنظيم أحوالها. ولهذا لم يخل الله تعالى خلقه مذ فطرهم عقلاء من تكليف شرعى واعتقاد ديني، ينقادون لحكمه، فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره، فلا تتصرف بهم الأهواء"، بل إن سير حياة الناس على أفضل ما يكون فى أى مكان وزمان يستدعى بالضرورة وجود ضوابط تنظم كافة شؤونهم، وتمنع القوى من ظلم الضعيف، وتصحح مسار المجتمع إذا انحرف عن جادة الصواب، وحاد عن الطريق السوي، والإنسان بطبعه ظلوم جهول، قد تدفعه نفسه الأمارة بالسوء لأن يسفك دم هذا، أو يأكل مال ذاك، أو يظلم أولئك بأى نوع من أنواع الظلم المادى أو المعنوي، وقد يرتبط ذلك بطبيعة الحال بمكانة ذاك الشخص فى المجتمع "من حيث الهيبة أو الجاه أو السلطة" مما يستدعى بالضرورة وجود تلك الضوابط "الدينية" التى تحوى قواعد وتوجيهات تحدد لكل فرد فى المجتمع ما له وما عليه، وبذلك يكون من أبرز وظائف الدين عند الماوردى الوظيفة الاجتماعية كونه الأداة التى تضمن استمرار الوجود المنتظم والمستقر لكيان المجتمع، هذا بالإضافة إلى كونه يضطلع بوظيفة سياسية ترتبط ارتباطا وثيقا بسابقتها تتمثل فى ضمان سير أمور المجتمع /الدولة وفق منهج محدد، يقوم على : تحريم الظلم والمعاملة المبنية على المساواة والحفظ للكرامة الإنسانية، ومشاورة أهل الرأى والخبرة فيما يتعلق بشؤون الناس والمجتمع /الدولة، وإعطاء كل ذى حق حقه دون جور أو ازدراء لأحد الرعية، وهذه المباديء العامة تكفل للمجتمع إذا طبقها تطبيقا صحيحا، الأمن والاستقرار والتقدم، ولذلك يرى الماوردى أن : "الدين من أقوى القواعد فى صلاح الدنيا، وهو الفرد الأوحد فى صلاح الآخرة، وما كان به صلاح الدنيا والآخرة "، وينقل لنا الإمام قول أحد الحكماء فى هذا الشأن، حيث يقول: " الأدب أدبان: أدب شريعة وأدب سياسة، فأدب الشريعة ما أدى الفرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض، وكلاهما يرجع إلى العدل الذى به سلامة السلطان، وعمارة البلدان، لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خرب الأرض فقد ظلم غيره". ثم يحدثنا الماوردى عن القاعدة الثانية من قواعد صلاح الدنيا وهي: "السلطان القاهر"، الذى تتألف برهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتنكف بسطوته الأيدى المتغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية، لأن فى طباع الناس من حب المغالبة والمنافسة على ما آثروه، والقهر لمن عاندوه، ما لاينكفون عنه إلا بمانع قوي، ورادع مليّ"، وهذا يشير إلى أن الماوردى يركز فى حديثه عن دور السلطان، باعتباره يمثل السلطة القاهرة فى المجتمع /الدولة، على إمساكه بزمام الأمور فى المجتمع، وحراسته لأمر الدين والدنيا، وتدبير شؤون الناس، كما أنه يربط بين السلطان والدين من جانب محدد وهو مدى تمسكه بالدين من عدمه، حيث يرى أن: "السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب، حتى يرى أهل الطاعة فيه فرضا، والتناصر عليه حتما، لم يكن للسلطان لبث، ولا لأيامه صفو، وكان سلطان قهر، ومفسد دهر". ولأن الفكر السياسى الإسلامي، واجه فى عصر الماوردى مشكلة ظهور مراكز أخرى للسلطة والخلافة فى العالم الإسلامى "الفاطمية فى مصر، والأموية فى الأندلس"، فقد كان محتما أن تتم المعالجة الفكرية لهذا الأمر المستحدث، من خلال البحث فى مسألة تعدد الأئمة / الخلفاء فى العصر الواحد، وعن ذلك قال الماوردى بعدم جواز أن يكون للأمة إمامان فى آن واحد، لأن الإمامة فى رأيه مما لا يجوز الاشتراك فيه، جاعلا الإمامة للأسبق منهما، بيعة وعقدا . وبذلك جسد موقفه من الخلافة العباسية والقائم على: رفضه لتعدد مراكز السلطة فى أمة موحدة عقيدة وسلطة، وولائه للخلافة العباسية ودفاعه عن شرعيتها، بدفعه لشرعية منافسيها وإنكاره لها. وإن كان فى ذات الوقت، قد أجاز للخليفة، أن يعهد بالخلافة من بعده لواحد أو أكثر، مرتبا الخلافة بينهم، فقدم بذلك الأساس النظرى والفقهى لسياسة تعدد أولياء العهد كإجراء اتبعه العديد من الخلفاء العباسيين. أما وظائف السلطان كما يوضحها الماوردى فى كتابه هذا "أدب الدنيا والدين" فهى سبعة وظائف، كما يلي: 1 حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به، من غير إهمال له. 2 حراسة البيضة، والذب عن الأمة، من عدو فى الدين، أو باغى نفس أو مال. 3 عمارة البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها. 4 تقدير ما يتولاه من الأموال بسنن الدين، من غير تحريف فى أخذها وإعطائها. 5 معاناة المظالم والأحكام، بالتسوية بين أهلها، واعتماد النصفة فى فصلها. 6 إقامة الحدود على مستحقها، من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها. 7 اختيار خلفائه فى الأمور على أن يكونوا من أهل الكفاية فيها، والأمانة عليها . أثر العدل على البلاد والعباد ينتقل الماوردى بعد ذلك إلى القاعدة الثالثة من قواعد صلاح الدنيا وهي: العدل الشامل، الذى يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكثر معه النسل، ويأمن به السلطان، ويعرف العدل عموما بأنه: "تنفيذ حكم الله، أى أن يحكم وفقا لما جاءت به الشرائع السماوية، كما أوحى بها الله إلى أنبيائه ورسله"، ويستند هذا الرأى على أن شريعة الله تعالى، بخلاف القانون الوضعي، هدفها إقامة العدل بين الناس دون تمييز، ويلاحظ هنا أن ما يميز مبدأ العدل فى الإسلام هو أنه مبدأ مطلق وعام، فهو ليس نسبيا يطبق فى بعض الحالات ولا يطبق فى حالات أخرى، كما أنه ليس خاصا بفئة دون أخرى، فمبدأ العدل فرض على كل مسلم، ولذلك يؤكد الماوردى أنّ على الإنسان أنْ يبدأ بالعدل مع نفسه، ثم يعدل مع غيره. فأما عدله فى نفسه، فيكون بحملها على المصالح، وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف فى أحوالها على أعدل الأمرين : من تجاوز أو تقصير، فان التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو على غيره أجور . وأما عدله مع غيره، فقد ينقسم حال الإنسان مع غيره إلى ثلاثة أقسام: الأول: عدل الإنسان فيمن دونه، كالسلطان فى رعيته، فعدله فيهم يكون بأربعة أشياء : بإتباع الميسور، وحذف المعسور، وترك التسلط بالقوة، وابتغاء الحق فى السيرة، فان إتباع الميسور أدوم، وحذف المعسور أسلم، وترك التسلط أعطف على المحبة، وابتغاء الحق أبعث على النصرة. وهذه الرؤية الماوردية تشير إلى أهمية العدل فى كافة أمور الحكم، لأنه يعين على قضاء الحوائج، وحفظ الملك، واستقرار الأمور، وراحة الرعية، أما الجور والظلم فانه ليس شيء أسرع فى خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق منه، لأنه لا يقف على حد، ولا ينتهى إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل. القسم الثاني: عدل الإنسان مع من فوقه: كالرعية مع سلطانها، فقد يكون بثلاثة أشياء: بإخلاص الطاعة، وبذل النصرة، وصدق الولاء، فان إخلاص الطاعة أجمع للشمل، وبذل النصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظن، وهذه الأمور إن لم تجتمع فى المرء تسلط عليه من كان يدفع عنه، واضطر إلى اتقاء من كان يقيه، وفى استمرار هذا حل نظام جامع، وفساد صلاح شامل. القسم الثالث: عدل الإنسان مع أكفائه: ويكون بثلاثة أشياء، بترك الاستطالة، ومجانبة الادلال، وكف الأذى، لأن ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الادلال أعطف، وكف الأذى أنصف، وهذه أمور إن لم تخلص فى الأكفاء، أسرع فيهم تقاطع الأعداء، ففسدوا وأفسدوا" . وبقراءة هذه الأقسام الثلاثة التى يطرحها الماوردى كمحددات لعدل الإنسان مع غيره نلاحظ التالي: أن الماوردى بدأ بعدل الإنسان فيمن دونه، ضاربا المثل على ذلك بالسلطان فى رعيته، على اعتبار أن هذا النوع هو من أهم أنواع العدل وأكثرها أهمية، لأن أثره عام، فمع وجوده تسود الألفة، وتستقر الأحوال، وتعمر البلاد، وتنمو الأموال، ويكثر معه النسل، و يأمن به السلطان. أن الماوردى يحدد بدقة مظاهر عدل السلطان فى رعيته، ويذكر أنها تتمثل فى أربعة أشياء : إتباع الميسور وحذف المعسور، وترك التسلط بالقوة، وابتغاء الحق فى السيرة، بمعنى أن على من يتولى شأن المسلمين أن يتبع فى أمره كله اليسر واللين والتسهيل على الرعية، ويبتعد بقدر استطاعته عن التعسير والتشديد والتسلط عليهم، بل عليه أن يبتغى الحق، ويسعى إليه حيث كان، فالحق أحق أن يتبع، ثم إن إتباع الميسور أدوم، وحذف المعسور أسلم، وترك التسلط أعطف على المحبة، وابتغاء الحق أبعث على النصرة. التركيز على الجانب الآخر من المسألة وهو عدل الرعية مع سلطانها، وتحديد كيفية ذلك بقصره على ثلاثة جوانب، أولها: إخلاص الطاعة للسلطان، والماوردى هنا ينطلق فى رأيه هذا من قاعدة إسلامية راسخة، تقضى بطاعة أولى الأمر، كما قال تعالى فى القرآن الكريم: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم "، "سورة النساء، أية: 58"، وكما جاء فى الحديث النبوي: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره.."، وفى هذا يقول ابن رجب الحنبلي: "وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد فى معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم"، ثم يشير الماوردى أن من فوائد هذه الطاعة جمع الشمل، وهذه غاية من غايات المجتمع المسلم، لأنها تؤدى إلى تماسكه وتحول دون تفككه وتصدع بنائه، والجانب الثانى من جوانب عدل الرعية مع السلطان بذل النصرة، فهى أدفع للوهن والضعف، وأدعى إلى التعاضد والتآلف، لأن معناها يدور حول الإعانة والمساعدة، وذلك يكون فى الشدة والرخاء، بنصرتهم على الأعداء، ومعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم فى رفق ولطف إلى الأصوب والأصلح، والدعاء لهم، وإرشادهم إلى الخير والسداد. وذلك يكون مع صدق الولاء، والبعد عن المهادنة والتملق، فصدق الولاء أنفى لسوء الظن، وأضمن لسلامة الصدور من الأحقاد والإحن، وأجلب للثقة بين السلطان ورعيته. والماوردى عندما تحدث عن الطاعة والنصرة، أشار بشكل أو بآخر إلى موضوع هام وفى عدد من مؤلفاته وهو: تداول السلطة وانتقالها، وقد عالجه من زاوية محددة، هى "شروط الإمامة"، فللإمام حق الطاعة والنصرة على الأمة طالما احتفظ بشروط الإمامة، فان فقد شروطها سقطت حقوقه على الأمة، ومن ثم سقطت شرعية سلطته، وفقد استحقاقه للإمامة. وتأكيد الماوردى على مسألة الوسط الذهبى ذات الأصول الإغريقية "اليونانية" القديمة، وان لم يسمها بهذا الاسم، فنحن نذكر أن المفكر اليونانى أرسطو كان يرى أن إنسانية الإنسان يحققها بعيشه وفقا لأحكام النفس العاقلة التى تمتزج فيها حياته الاجتماعية العملية المتسمة بالنزاهة والخير، بحياته التأملية الفكرية المتسمة بالفضيلة، فى اعتدال وتوسط رأى فيه أرسطو وسطا ذهبيا بين أفعال متطرفة هى رذائل، أصلها إفراط ومبالغة أو تفريط وانعدام. فالشجاعة فضيلة متوسطة بين رذيلتين، تهور "إفراط" وجبن "تفريط"، والكرم فضيلة متوسطة بين رذيلتين، إسراف "إفراط" وبخل "تفريط" . والماوردى يؤيد هذا الطرح بقوله: "إن العدل مأخوذ من الاعتدال، فما جاوز الاعتدال فهو خروج عن العدل" ثم ينقل لنا قول أحد الحكماء عن الفضائل، مشيرا إلى أنها: "هيئات متوسطة بين حالتين ناقصتين، وأفعال الخير تتوسط بين رذيلتين، فالحكمة واسطة بين الشر والجهالة، والشجاعة واسطة بين التقحم والجبن، والعفة واسطة بين الشّره وضعف الشهوة،... الخ . الأمان والعيش الهنيء والقاعدة الرابعة من قواعد صلاح الدنيا كما يرى الماوردى هي: أمن عام، تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس به الضعيف، وهذه قرينة لما قبلها "أى العدل"، فالأمن كما يقول الماوردى "من نتائج العدل، والجور من نتائج ما ليس بعدل، وقد يكون الجور تارة بمقاصد الآدميين الخارجة عن العدل، وتارة يكون بأسباب حادثة عن غير مقاصد الآدميين، فلا تكون خارجة عن حال العدل، فمن أجل ذلك فالأمن المطلق ما عمّ، والخوف قد يتنوع تارة ويعمّ، فتنوعه بأن يكون تارة على النفس، وتارة على الأهل، وتارة على المال، وعمومه أن يستوعب جميع الأحوال، وقد يختلف باختلاف أسبابه، ويتفاضل بتفاضل جهاته، ويكون بحسب اختلاف الرغبة فيما خيف عليه". من خلال ما تقدم، يتضح رأى الماوردى فى مسألة ارتباط الأمن بالعدل، فالأول نتيجة للأخير، حيث أن تطبيق العدل كأهم مباديء الحكم فى الشريعة الإسلامية ينتج عنه بشكل أو بآخر شعور الناس بالأمن والاطمئنان على مصالحهم وحوائجهم، ويروى لنا الماوردى قول الهرمزان لعمر بن الخطاب رضى الله عنه حين رآه نائما تحت ظل شجرة، وهو الخليفة، فقال له: "عدلت فأمنت فنمت". ويقول أحد الحكماء: "الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش، لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب الموادّ التى بها قوام أودهم، وانتظام جملتهم "، ومجمل هذه الأقوال التى ينقلها لنا الماوردى تشير إلى أن عنصر الأمن والأمان هو عنصر أساسى وضرورى لاستقرار أى مجتمع ورغده، وانتظام أموره، لذلك فان وجود باقى مكونات العملية السياسية فى أى مجتمع لايمكن أى يؤدى ثماره المرجوة ما لم يكن هناك أمن واستقرار يأمن الناس به على أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ويستطيعوا من خلاله ممارسة حياتهم بشكل طبيعى واعتيادي، دون خوف أو وجل على شيء مما يملكون، ولهذا يؤكد الماوردي: "أنه من أجل ذلك لم يجز أن يتصف حال كل واحد من أنواعه بمقدار من الوهن، ونصيب من الحزن، لاسيما والخائف على الشيء مختص الهم به، منصرف الفكر عن غيره، فهو يظن أن لا خوف له إلا إياه، فيغفل عن قدر النعمة بالأمن فيما سواه، فصار كالمريض الذى هو بمرضه متشاغل، وعما سواه غافل، ولعل ما صرف عنه، أعظم مما أبتلى به". وهذا يعنى أن الإنسان قد يشغله شيء مما يهمه فى راهن وقته عن آخر لا يشكل له نفس الأهمية فى يومه، وربما يحتلها فى الغد أو بعده، وهكذا، فما يهمنا اليوم قد لا يهمنا غدا، كالمريض الذى هو بمرضه متشاغل، لا يفكر إلا فى الشفاء منه، ولا يهمه غير ذلك، كما لا يعرف المعافى قدر النعمة بعافيته حتى يصاب، وإنما يعرف قدر النعمة بمقاساة ضدها. ولقد جعل الماوردى حديثه عن أهمية الأمن فى المجتمع منفذا إلى العظة والعبرة، وسبيلا لتوجيه الأنظار إلى ما قد يعترى النفس البشرية من تقلبات ومطالب ورغبات متغيرة ومتبدلة من حين لآخر، بسبب تغير الدوافع وطرق إشباعها. فالدوافع كما يؤكد علماء النفس هى الطاقة الكامنة فى الكائن الحى التى تحدد له أهداف سلوكه وتمهد له طريق إشباع حاجاته الاجتماعية والفسيولوجية والنفسية، مثل احتياج الفرد للأمن والأمان، والطمأنينة، والحب، والراحة الجسمية، والطعام والشراب، ... الخ. ثم ينقلنا الماوردى إلى القاعدة السادسة من قواعد صلاح الدنيا وهي: الخصب الدار، الذى تتسع به النفوس فى الأحوال، ويشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال، فيقل فى الناس الحسد، وينتفى عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس فى التوسع، وتكثر المؤاساة والتواصل، وذلك من أقوى الدواعى لصلاح الدنيا، وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يئول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء "، ومعنى الخصب فى اللغة العربية رفاغة العيش أى سعته وخصبه وكثرة العشب، ورجل خصيب أى رحب الجانب كثير الخير، ومعنى أن يكون الخصب دارّاً أى كثيرا مغدقا يعم البلاد والعباد، وعندما يتحدث الماوردى عن هذا الخصب باعتباره من أسباب صلاح الدنيا فانه يشير بشكل أو بآخر إلى حالة من كثرة الخير ورغد العيش التى قد تنعم بها أى بلاد، مما ينتج عنه استقرار الأحوال، وراحة النفوس، وبالتالى يقل الحسد بين الناس، وينتفى عنهم التباغض، وكأن الماوردى يتخيل نتائج هذا الخصب، ويضعها أمامنا لنقيس بها مجمل أحوال أى مجتمع فى أى عصر، ونحاول التحقق من عيشه الرغيد وخصبه الشديد بناء على تلك النتائج والرؤى التى سلف الإشارة إليها. والخصب يكون من وجهين: خصب فى المكاسب، وخصب فى المواد، فأما خصب المكاسب فقد يتفرع من خصب المواد وهو من نتائج الأمن المقترن بها، وأما خصب المواد فقد يتفرع عن أسباب إلهية، وهو من نتائج العدل المقترن بها. ثم يقول الماوردي: "وإذا كان الخصب لم يُحدث من أسباب الصلاح ما وصفتُ، كان الجدب يحدث من أسباب الفساد ما ضادّها، وكما أن صلاح الخصب عامّ، فكذلك فساد الجدب عام، وما عمّ به الصلاح إن وُجد، عم به الفساد إن فُقد، فأحرى أن يكون من قواعد الصّلاح، ودواعى الاستقامة". وفى هذا الجانب يتناول الماوردى آثار صلاح الخصب على المجتمع، فكما أن هذا الأخير عام، فكذلك فساد الجدب عام، فالمجتمع كله يطاله خير الخصب بأشكال متعددة ومتباينة، حتى وان اختلف نوع الخصب وسببه ونتائجه، المهم أن آثاره تطال الجميع، ويدل على ذلك تعبير "عام"، الذى وصف به الإمام صلاح الخصب، كما وصف به فساد الجدب، وهذا أمر طبيعي، فمثل هذه الأمور "الخصب والجدب" تهم كل أفراد المجتمع، وبالتالى تأثيرها سلبا أو إيجابا يطالهم و يمتد إليهم، وهنا يقدم قاعدة هامة تقول أن ما عم به الصلاح إن وجد، عم به الفساد إن فقد، فالعدل مثلا والأمن والتنظيم ورعاية شؤون الناس ...الخ، كلها أمور يعم به الصلاح وتستقر بها الأحوال فى أى مكان وفى أى تجمع بشرى وفى أى زمان، وفى حالة فقدانها يعم بها الفساد، وتضطرب بها الأحوال، وتضيع بها حقوق الناس. اما "الأمل الفسيح" فهو خاتمة القواعد، فهو كما يرى الماوردى يبعث على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه، ويبعث على اقتناء ما ليس يؤمل فى دركه بحياة أربابه، ولولا أن الثانى يرتفق بما أنشأه الأول، حتى يصير به مستغنيا، لأفتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكنى، وأراضى الحرث، وفى ذلك من الإعواز وتعذر الامكان ما لا خفاء به، فلذلك ما أرفق الله تعالى خلقه من اتساع الآمال، حتى عمر به الدنيا، فتم صلاحها، وصارت تنتقل بعمرانها إلى قرن بعد قرن، فيتم الثانى ما أبقاه الأول من عمارتها، لتكون أحوالها على الأعصار ملتئمة، وأمورها على ممر الدهور منتظمة". هكذا يتحدث الإمام الماوردى ببلاغته المعهودة عن الأمل باعتباره عاملا من عوامل صلاح الدنيا، وهو يصف هذا العامل بالفسيح، فى إشارة ربما إلى ضرورة أن يكون الأمل كبيرا واسعا، لا صغيرا ضيقا، لأنه يعين على تحمل نوائب الدهر ومصاعب الحياة، ويبعث فى النفوس الرضا والتفاؤل، والماوردى يوضح المفهوم الإسلامى للأمل، من حيث أنه يبعث على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه، ويبعث على اقتناء ما ليس يؤمل فى دركه بحياة أربابه، فالحياة فى هذه الدنيا لا تصلح بغير الأمل، الذى يدفعنا إلى عمل الصالحات، وترك المحرمات، دون الإغراق فى حب الدنيا ونسيان الآخرة، ولو قصرت الآمال ما تجاوز الواحد منا حاجة يومه، ولا تعدى ضرورة وقته، ولكانت تنتقل إلى من بعده خرابا، لا يجد فيه بلغة، ولا يدرك منها حاجة، ثم تنتقل إلى من بعد بأسوأ من ذلك حالا، حتى لا ينمى بها نبت، ولا يمكن فيها لبث، وقد جاء فى الحديث الشريف: "الأمل رحمة من الله لأمتي، ولولاه ما غرس غارس شجرا، ولا أرضعت أم ولدا"، فبالأمل تسعد النفوس، وتمتلأ بالرضا، وتصلح الأحوال، وتعمر الأرض، وتستقر البلدان، وتأنس الأرواح والأبدان، وكما قال على بن أبى طالب "رض": "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا"، وأما حال الأمل فى أمر الآخرة، فهو من أقوى الأسباب فى الغفلة عنها، وقلة الاستعداد لها، فالآمال هى ما تقيدت بأسباب، والأمانى هى ما تجردت عنها. وما يمكن الإشارة إليه هنا أن قصر الأمل ربطه بعض المفكرين والعلماء المسلمين بالزهد فى الدنيا، حيث أن البعض منهم قال إن الزهد هو فى قصر الأمل، بمعنى التفكر فى نهاية الأجل، وعدم الاغترار بالدنيا، وروى أن أحد علماء التابعين ذكر أن: "الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهى ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فان استطعت أن تقدم فى كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل، فان انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك". والماوردى بطبيعة الحال يقدم رؤيته للأمل وفق هذا السياق، لأنه بالأساس ذو مصدر دينى "أى هذا الطرح فى حد ذاته"، ولذلك نجد أن الإمام يتحدث عن الاغترار بالأمل فى باب أدب الدين فيشير إلى حديث نبوى مؤداه أن "من يؤمل أن يعيش غدا، فانه يؤمل أن يعيش أبدا" ثم يقول: "ولعمرى إن هذا صحيح، لأن لكل يوم غدا، فإذا يفضى به الأمل إلى الفوت من غير درك، ويؤديه الرجاء إلى الإهمال من غير تلف، فيصير الأمل خيبة، والرجاء يأسا". ثم ينقل لنا الإمام بعض الأقوال فى هذا الشأن منها، قول الحسن البصري: "ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل"، وقول أحد الحكماء: "الجاهل يعتمد على أمله، والعاقل يعتمد على عمله، فالأمل كالسراب، غر من رآه، وخاب من رجاه"، هذا هو تصور الماوردى للأمل، ورؤيته له، وهى تصدر عن ارث فكرى ثرى بالآراء والاجتهادات فى هذا الجانب، حاول الإمام طرحها وتوضيح بعضها، واستخلص منها رأيه الخاص الذى ينبثق من تلك المصادر، بيد أنه غنى بالفائدة والبلاغة، ومنمق بإبداعات الشعراء والأدباء حول هذه القاعدة وغيرها. هذه هى القواعد الست التى تصلح بها أحوال الدنيا، وتنتظم أمور جملتها، فان كملت فيها كمل صلاحها، وبعيد أن يكون أمر الدنيا تاما كاملا، وأن يكون صلاحها عاما شاملا، لأنها موضوعة على التغير والفناء، منشأة على التصرم والانقضاء، وبحسب ما اختل من قواعدها، يكون اختلالها وفسادها.ختاما، يمكن القول أن الماوردى بطرحه لهذه القواعد وتحليله لها، كشف عن سعة إطلاعه على العديد من النتاجات الفكرية والأدبية التى حفل بها عصره، واستطاع هو أن يثريها بإضافاته الخلاقة، وشروحاته الضافية، واجتهاداته المتميزة، كما أن مجمل أعمال الماوردى وخصوصا كتابه الذى بين يدينا "أدب الدنيا والدين" لتبرز لنا مفكرا إسلاميا مميزا، لا يكتفى بمجرد النقل من الآخرين، أو إعادة طرح آرائهم، بل كان يستوعب بذكائه الوقاد وإطلاعه الواسع تجارب هؤلاء، على اختلاف توجهاتها ومشاربها، ثم يبدى رأيه الخاص فيما يطرح، وموقفه من بقية الآراء، فى بناء شامل ومتسق، أضفى عليه ملامحه المميزة، وسماته الشخصية الواضحة. وهكذا يكون الإمام الماوردى مفكرا سياسيا بارزا، وعلما من أعلام الفكر السياسى العربى الإسلامي، بالإضافة إلى كونه قاضيا "من أقضى قضاة عصره" وفقيها من أكبر فقهاء الشافعية، ودارسا مجيدا للأخلاق والفضائل والآداب. * كاتب وباحث ليبي تعليقات
أعرض التعليقات على شكل
(تخطيطي | متواصل)
اضافة تعليق
|
بسـم الله الرحمن الرحـيم"الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون"
التقويم
بحث سريعيمكنك أخذ نسخة للطباعة بأحدى هذه الصيغادارة المجلةاحصائياتتاريخ آخر مقالة : 2023-09-02 13:16
|
Copyright 2007 © Liberal Democratic Party of Iraq