كان ينظر للعراق والجزائر في التسعينات على أنهما البلدان العربيان المرشحان للخروج من مأزق التخلف واللحاق بالدول الصناعية المتقدمة، كما أن عليهما التعويل في الصراع العربي ـ الإسرائيلي بحكم قدراتهما العسكرية والاقتصادية والبشرية. وعلى الرغم من الاختلاف الجلي بين البلدين من حيث الموقع والخلفية التاريخية وطبيعة التجربة السياسية، إلا أن نقاط التماثل بينهما عديدة؛ نذكر منها أنهما البلدان العربيان النفطيان الوحيدان اللذان يتمتعان بكثافة سكانية عالية وقدرات اقتصادية خارج دائرة الربيع البترولي.
يضاف إلى هذا؛ العامل الجوهري المتمثل بدور الجيش في نشوء الدولتين سواء تعلق الأمر بالدولة العراقية الحديثة التي تشكلت مطلع العشرينات واضطلعت فيها المؤسسة العسكرية بدور العمود الفقري قبل أن تحكمها أنظمة المليشيات الحزبية، أو بالدولة الجزائرية المستقلة التي ورثت حدود المستعمرة الفرنسية السابقة وشكلت فيها المقاومة العسكرية مرتكز النظام السياسي إلى حد القولة الشائعة بأن الجزائر هي الدولة الوحيدة في العالم التي سبق فيها الجيش نشوء الدولة.وإذا كان النظام البعثي التي حكم العراق قرابة أربعين سنة هو نمط من التنظيم العسكري ـ العقدي الأحادي، فإن النموذج الجزائري، لم يكن يختلف نوعيا عن هذا المسلك خلال الحقبة الممتدة من الاستقلال عام 1962 إلى نهاية حكم الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد (1992).
وكما أن الجزائر تبنت في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين خط التصنيع الثقيل واستثمار الثروة النفطية في مشاريع التحديث التقني والإنفاق العسكري، فإن العراق في عهد صدام حسين انتهج الطريق ذاته.ولم يكن النظامان يختلفان من حيث توجهاتهما الإستراتيجية، فكلاهما طمح لقيادة حركة عدم الانحياز. كما أن كلاهما كان يعد حليفا للاتحاد السوفياتي، وقد تماثلت مواقفهما من القضايا العربية، وتزعما معاً جبهة الصمود والتصدي التي انبثقت عن قمة بغداد عام 1978 لعزل مصر ومقاطعتها بعد توقيعها اتفاقية السلام المنفرد مع إسرائيل. ومن نقاط التماثل الواضح بين التجربتين العراقية والجزائرية، طبيعة التركيبة القومية المتسمة بالتعددية والتنوع، حتى لو كانت المعادلة الداخلية في الجزائر أقل حدة. دخل البلدان نفقاً مظلماً في الفترة ذاتها، أي مطلع التسعينات، وإن اختلفت الأسباب والخلفيات والمعطيات. فإن كان العراق دفع غاليا ثمن حماقة احتلال الكويت التي حكمت على هذا البلد العربي الكبير بالحصار القاتل قبل أن ينهار النظام بحراب أمريكية، فإن الجزائر عرفت تجربة الفتنة الأهلية الدامية على خلفية صراع سياسي دموي خرج عن نطاق التحكم بعد توقف عملية الانتقال الديمقراطي التي بدت واعدة عند انطلاقها.
ولم تكن الفتنة الدموية في الجزائر حربا أهلية بالمعنى المألوف، ولا هي قابلة للاختزال في مجرد عملية ملاحقة بوليسية لمجموعات إرهابية، بل هي مظهر أزمة سياسية ومجتمعية طاحنة كشفت عن فشل النموذج التحديثي الجزائري الذي لم ينجح في تحقيق النقلة المنشودة للبلد الذي كان يرشح نفسه للوصول إلى مستوى البلدان الصناعية المتقدمة في حدود نهاية القرن المنصرم.
ولقد ظهرت أوانها كتابات من أهمها «دراسات استشرافية» للاقتصادي الماركسي سمير أمين ذهب فيها إلى أن النموذج الاشتراكي الجزائري سيكون مثالا للاحتذاء في المنطقة. كما أن الجزائر ستكون قاطرة للنهوض الاقتصادي في الدائرة الإقليمية الواسعة.
وما أثبتته الأحداث هو أن دولة المليون شهيد تخلفت عن جارتيها المغرب وتونس اللتين راهنتا على الاستثمار في الخدمات والتعليم والبنية التحتية، في الوقت الذي أخفقت فيه استراتيجية التصنيع الثقيل في الجزائر التي دمرت الاقتصاد بالمديونية العالية وإهمال القطاعات الإنتاجية الأخرى، خصوصا الزراعة والسياحة.وإذا كانت الجزائر قد دخلت مسار مصالحة سياسية بطيئة منذ وصول الرئيس الحالي بوتفليقة للسلطة، فإن العراق دخل نفق الفتنة (بوتيرة أكثر شراسة وتدميرا) منذ الاحتلال الأميركي وسقوط النظام البعثي عام 2003، ولم تلح بعد بشائر الوفاق الوطني الذي أصبح مطلبا جماعيا داخليا ودوليا.
صحيح أن السياقين مختلفان اختلافا واسعا، بالنظر لمعادلة الاحتلال وللطابع الطائفي للصراع الأهلي القائم، بيد أن التجربة الجزائرية تقدم درسا مهما للتدبر، مفاده أن نهج المصالحة يقتضي شرطين أساسيين هما من جهة وضع الإطار السياسي للخروج من الفتنة، ومن جهة ثانية وضع الأطر القانونية لتسوية تركة العنف والصدام.
فمهما كانت نقائص وهنات الإصلاحات السياسية التي عرفتها الجزائر في عهد بوتفليقة، إلا أنها سمحت بتطبيع الوضع الداخلي وتأمين حد أدنى من المشاركة لألوان الطيف السياسي كما أزاحت المؤسسة العسكرية من واجهة الحكم، وفي الآن نفسه، سمح قانون العفو والمصالحة بإخراج المتمردين على «الشرعية» من السجون، بمن فهم القادة التاريخيون لجبهة الإنقاذ الإسلامية.
إن ما هو مطلوب في العراق هو بطبيعة الأمر أبعد شأوا وأكثر تعقيدا من نموذج المصالحة الجزائرية، ومع ذلك، فإن الخطوة الأولى يجب أن تنطلق من الوعي بعجز النموذج الراهن الذي بلوره مشروع الاحتلال الأمريكي عن تأمين الاستقرار للبلد المنكوب. فالصيغ الديمقراطية الشكلية المحمية بالحضور العسكري الأجنبي لا يمكن أن تضمن للعراق وحدته الوطنية والتعايش السلمي بين مكوناته القومية والطائفية.
السيد ولد باه