الطلاق من القضايا التي جرى فيها إبخاس وظلم كثير بحق المرأة ، وكل ذلك كان بسبب التأسيس الخاطئ للعلاقة الزوجية في الأصل والإبتداء ، وبسبب ذلك أيضاً لازالت المرأة تعاني من طبيعة الأحكام و نوعيتها التي كتبها الرجل على مزاجه ومقاسه ، أحكام رُتبت وفق أهواء الرجال وما يرغبون به وما يريدون ، ولم تسعف التشريعات و القوانين التي سنها مشرعين غربيين وشرقيين في تغيير الصورة النمطية لتلك البناءات والأحكام ، وهكذا بقيت أحكام الطلاق في خدمة الرجال ، ولذلك ظل الطلاق من اكثر القضايا إثارة للجدل في أحكامه وتطبيقاته .
ومن هنا تبدو حاجتنا لإعادة النظر في تلك الأحكام والقوانين الماسةً والضروريةً ، وكذلك تبدو الحاجة ماسة في إعادة النظر بتعريف الطلاق مفهوماً ودلالةً ، ومن ثم إعادة الحقوق الشرعية والقانونية للمرأة .
و لا بد من القول : إننا هنا لا نتحدث عن فلسفة الطلاق ، إنما نتحدث عن الخطأ والصواب في أحكام الطلاق وقوانينه ، تلك التي غاب عنها الوعي وهيمنة عليها سطوة رجال الدين أولئك الذين كانوا في خدمة الخلفاء والسلاطين ، ولهذا أباحوا لهم كل ممنوع في تزييف للحق واضح ..
ونحن هنا سنوجه الأنظار على تلك القضايا في الأحوال الشخصية والمدنية المختلفة في بلدان الشرق العربي والمسلم ، قضايا أشرف على صياغتها نفر من أولئك المهرجين وأتباعهم ، الذين جعلوا من المرأة مكان للتجربة وكبش فداء لأحكامهم وقوانينهم السيئة ، و التي نظموها تبعاً لأوهامهم الدينية والقبلية ، ولكم أن تتصوروا معي كم كانت تلك الأحكام و القوانين قاسية ورديئة ومزرية و بدائية ، وتعالوا معي نتعرف عليها تباعاً ، ولكن قبل ذلك لابد من توضيح مختصر لمعنى الطلاق :
الطلاق :
في اللغة يعني الترك ويعني التحرر ويعني العتق ، والأصل فيه من الفعل ( طلق ) أي ترك وتحرر وعتق ، وجمعه ( طلقاء ) وهم الأحرار ، وقد ورد في المأثور قوله : - أذهبوا فأنتم الطلقاء - ، والطلقاءُ : صفة أطلقت على جماعة بعينها من قريش ، كانت تحارب النبي وتضطهد المسلمين ، وهمُ : - الَّذين خَلَّى عَنْهُمْ - النبي - يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ ، وأَطْلَقَهُم ، فَلَمْ يَسْتَرِقَّهم ، وعلى رأسهم ( أبوسفيان بن حرب وجماعته وأهل بيته ) - ،
وواحدُهم يُقال له : ( طَلِيق ) على وزن فَعِيل ، وَهُوَ الْأَسِيرُ إِذَا أُطْلِقَ سَبيله ، كذا قال أبن حنبل في مسنده برقم 19215 : - الطلقاء من قريش - ..
وقد وظف هذا اللفظ في تعريف حال الزوجين عند الإنفصال والمفارقة عن بعض ، وأستخدمه الفقهاء في أحكامهم و كتاباتهم وهم يريدون به ذلك المعنى ، قيل : والصحيح في اللفظ أن يكون معناه دالاً عليه ، وهذا يصح في حال القول بعدم الترادف ، وأما عامة الفقهاء فلا يقولون بذلك ، ولهذا وجدنا شططاً في جملة أحكامهم وفتاواهم .
الزواج الصحيح :
هو تلك العلاقة التي تقع بين الذكر والأنثى على أساس الميثاق ، قال تعالى : - وأخذنا منكم ميثاقاً غليظا - النساء 21 ، فالميثاق هو الذي يحدد طبيعة العلاقة الزوجية في الأسم والصفة والمعنى ، ولا يصح الزواج من دونه شرعاً وقانوناً .
وأما الزواج السائد بين عامة المسلمين فهو علاقة عرفيَّة تتم بعقد ، وصيغة العقود الدارجة لا يصح وصف الزواج الشرعي الصحيح بها لا أسماً ولا صفةً ، والعلاقة الزوجية لا تتم بعقد لأنه صفة تجارية وأما الميثاق فهو صفة قانونية ، ولذلك قال الله تعالى : - وأخذنا منكم ميثاقاً غليظا - النساء 21 .
والأخذ من ألفاظ الأضداد قال أبن السكيت ، ومعناه هنا المسك و الإلزام والإشتراط ، وأصله من الفعل خذ أي أمسك ، وأما قوله - أخذنا - بصيغة الجمع فتدل على الأمر بجعل قواعد الزواج وقوانينه محكومة بميثاق ، و الميثاق هنا : هو القانون وهو القاعدة التي ترتكز عليها تلك العلاقة الزوجية ، وهذا ما يجعلها قائمة على قاعدة صلبة من الناحية الشرعية والقانونية .
والميثاق صيغة ( قانونية توافقية ) أي يتوافق عليها أو يتفق عليها طرفين أو أكثر ، و ترتكز على قانون ملزم يجعل من العلاقة الزوجية محترمة ومقدسة ، لأنه عبارة عن جملة بنود وقواعد يتم الإتفاق عليها مسبقاً وإبرامها بين الأطراف ، وفي مسألتنا هي من تحدد شكل ونوعية العلاقة الزوجية في المجمل للحاضر والمستقبل .
عقدة النكاح :
قال تعالى : - وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ – 237 البقرة ، النص يتحدث عن قواعد الطلاق - قبل ان تمسوهن - فيما يتعلق بالحقوق المتعلقة برقبة الرجل ، وجعل العفو من الطرفين في حال الموافقة ، ولم يحدد النص من - بيده عقدة النكاح - ، فهو لم يقل ذلك للرجل دون المرأة ! ، إنما تحدث النص عن القانون الذي يحكم العلاقة الزوجية في الأصل ، وهو من يتحكم بها في كل الظروف ، وحين ذكر النص - العفو - جعله مطلقاً للذكر وللأنثى ، وبدلالة صيغة - وأن تعفوا - والتي يفهم منها الأثنين معاً .
إذن فمن بيده عقدة النكاح يعني ما أُتفق عليه بينهما ، وهذا يكون بحسب بنود ونصوص الميثاق المتفق عليه بينهما ، أعني القضية ليست إرتجالية ولا هي من الأشياء التي يحددها العرف و قوانين القبيلة ، بل هي قواعد ومواثيق تجعل من عقدة النكاح بيد الميثاق وليست بيد هذا الطرف على حساب الطرف الآخر .
والرجل و المرأة في الميثاق سواء ، ولا يصح من باب العدل أن تكون العقدة بيد الذكر دون الأنثى خضوعاً و تماشياً مع نواميس العرف و القبيلة ، ذلك أن الحياة الزوجية هي شراكة حقيقية من طرفين ، ولأنها كذلك فقد جعل الله هذا الحق بيد الميثاق أعني بيد القانون المتفق عليه بينهما ، وشراكة الزوج مع زوجته هي في بناء الأسرة وترتيب الحياة للحاضر والمستقبل .
ومع إمضائه وتوقيعه يكون الميثاق ملزماً للطرفين ، و يكون هو القاعدة التي على ضوئها تحدد سير العلاقة وطبيعتها بين الطرفين وفيما لهما وما عليهما من حقوق وواجبات ، وأي طرف يخرق بند من بنود هذا الميثاق يكون منفصلاً و مطلقاً تلقائياً ، والتوكيد هذا من الله يجعل من العلاقة الزوجية رباطاً مقدساً ، وأما ماهو سائد بين الناس من تقاليد وأعراف وتقاليد قبلية فيما يتعلق بمسألة العلاقة الزوجية ، فهي يقيناً لا تتفق و إرادة الله التي تجعل من المرأة الركن الأساس في هذه العلاقة .
وما نؤكد عليه ليس إجتهاداً إنما هو تعاليم وأوامر إلهية شديدة الوضوح ، نقرئها في الكتاب المجيد في نصوصه المبيَّنة ، وليس من خلال تلك التصورات القبلية التي تحكمت فيها أهواء وأمزجة الخلفاء والسلاطين من بني أمية وبني العباس ومن تبعهم ، والتي جردت المرأة من كرامتها وحقوقها ، تصورات تحكي عن طبيعة هيمنة الموروث البيئي للعقلية القبلية التي لم تنحسر أبداً في مجتمعاتنا الشرقية .
يقول الله تعالى : - الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان - البقرة 229 ، هنا يرسم النص خارطة طريق للزوجين في حال أرادا الإنفصال والطلاق ، ولهذا نجد أن النص قد ركز على الجانب الأخلاقي في المعاملة ، وفي كيفية إيقاع الطلاق بينهما ، وصيغة النص تؤكد على تعميم مبدأ السلوك الحسن بين الطرفين حال المفارقة وعدم الإتفاق ، ولم يتحدث النص على من بيده - عصمة الطلاق - بل حدد طبيعة السلوك وهنا يعني الإمتثال لما أتفق عليه الطرفين في ميثاق الزواج .
وتأكيداً على هذه الحالة جاء النص 231 من سورة النساء في السياق نفسه حيث يقول : - وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا
والذي نود التأكيد عليه هو هذه الصحوة التي أثارت إنتباهي في مصر حيث البرلمان يعمل على تشريع جديد ، يتماشى مع هذا الطرح الذي نقدمه ، عبر إحترام المرأة وإحترام إرادتها وعدم إخضاعها لنواميس وأعراف ما أنزل الله بها من سلطان ، وإن العراق هو أكثر البلدان تخلفاً في قضايا الحقوق والحريات ، وهو أشد في نكاية المرأة وسلب حقوقها وحريتها ، من خلال تسليط الزوج عليها بكل الطرق والوسائل ، أعني إن حقوق الإنسان والمرأة على وجه التحديد مغيبة وملغية على وفق ما كتبته الكتب التراثية الصفراء وأحكام القبيلة وأوهامها ، التي سلبت المرأة كيانها ووجودها وحقها في الإيجاب والرفض ، وأحيي في موقفي هذا الأخ الرئيس السيسي وهو يتحدث بإسهاب عن ضرورة إعادة النظر في كل قضايا الأحوال الشخصية التي تهم المرأة والأسرة والمجتمع ، وهو في ذلك يكون متقدماً وبارعاً وهو يحمل هموم المرأة وطموحاتها ، وليت العراق يقوم بالخطوة التالية ليكون حاضراً في تغيير مسار حركة التاريخ والحياة ، وهذا يتطلب جهداً وعملاً شجاع في إزالة وهدم كثير من المفاهيم والأحكام الخاطئة ..
راغب الركابي