يبدو هذا السؤال بريء من وجه ومن وجه آخر يبحث في المعلوم من الأشياء لأنه ببساطة سؤال عن الآلية والكيفية بل والطريقية التي يتم بها تحقيق هذا المعلوم في بلد كبلدنا العراق ..
وللأمانة كان هذا السؤال واحداً من المحاور التي دار حولها نقاش معمق و متفاوت الدرجة ، بين متخصصيين وأكاديميين في مراكز بحثية ذات علاقة كان هذا قبل و بعد سقوط نظام صدام حسين ، وقد أُتيح لنا أن نساهم بدرجة ما في هذا النقاش المتخصص ، واليوم سنحاول توضيح بعض الأفكار التي نجد من المناسب إحاطت بعض المشتغلين بالسياسة وشعبنا النبيل بها على أمل ان يعرف كيف تجري من حوله حركة التاريخ ؟ .
العلمانية في تعريفها البسيط والمتدوال هي حركة فعل إجتماعي واعي لفصل الدين عن السياسة [ أي تأسيس نظام سياسي مدني ] ، وبما إنه كذلك فمن الطبيعي ان يتولى السلطة أناس مؤمنين بفصل الدين عن السياسة في الحكم وكذا كونهم مؤمنيين بان هذه جدلية تاريخية وحتمية تاريخية بل هي ضرورة إجتماعية ، ولهذا وجرياً مع هذه القاعدة كان التوجه ان يتولى السلطة في العراق رجال ذوي ميول وقدرة في توكيد العلمانية في الحياة السياسية وإشاعتها في المجتمع ، وقد كان الخيار الأول في ذلك إن يتولى الدكتور أحمد الجلبي هذه المهمة ، ولكن القراءة السياسية دلت على الدكتور احمد شخص كفء ولكن لا تتوافر لديه القدرة في هذا المجال ونعني بها القدرة الشعبية ولما أُحيط به الرجل من دعاية كانت ليست في مصلحته ولهذا كان القرار الدولي بصرف النظر عنه ، والتوجه لشخصية أخرى قريبة من صُناع القرار الدولي ويُمكنها تحقيق هذه المعادلة ، ساهم في ذلك توثيق البعض له بأعتباره شخصية شيعية وقريبه من البعثيين ، كل هذا رجح كفته ومضى القرار على ذلك ، وأُعطي الضوء الأخضر ليكون الدكتور إياد علاوي هو هذا الشخص المطلوب ، مع ان البعض قد شكك منذ البدء بذلك وبقدرته على إختراق الواقع الشيعي ، ولكن لم يُلتفت لهذا التشكيك ولم يُحمل على محمل الجد وجرى تنصيبه رئيساً للوزراء كتدليل على ذلك التوجه وكاختبار لقدراته الفعلية وليس مايدعيه أو مايروج له ، صاحب ذلك دعاية دولية داعمة لنجاح التجربة من الوسط الطبيعي للعلمانية ، وهذا الرأي كان للأوربيين أكثر منه للأمريكيين ، وفي التجربة سقط علاوي سقوطاً مريعاً وثبت ان فشله كان بسبب مواقف تيارات الدين الشيعي والسني على حدٍ سواء ، ولم تسعفه الإنتخابات [ التي كانت تجربة فاشلة بالفعل ] ساهمت بتركيز السياسية الدينية كما هو واضح ،، .
هذا الفشل سبب هاجس الإنتكاس الأولي للديمقراطية كمشروع نهضوي كان ينادى به للمنطقة كلها ، ولهذ تحول الرأي عند بعض المنظرين الإستراتيجيين لإعطاء الفرصة كاملة - لقوى الإسلام السياسي - من جهتي السُنة والشيعة ومحاولة دعم هذا التوجه بالخفاء من خلال غض الطرف عن كثير من التجاوزات التي مارستها تلك القوى بحق مخالفيها ، ولكن لأن الهدف كان يقتضي ان يصل هؤلاء للسلطة وهؤلاء هم حسب القراءة النهائية الأقدر على تحقيق ما يُطلب منهم لحرصهم الزائد ولحبهم الكبير للسلطة ، أتُخذ القرار بان تتولى قوى الإسلام السياسي السلطة ويُطلب منها تحقيق الأمن من خلال ضرب وتحجيم كل القوى المناوئة لهم كما يجري بالفعل ضرب جيش المهدي في كل ناحية وملاحقة عناصره في كل محافظة ومدينة .
وهذا الإجراء واقعي ومنطقي إذ لن يستطيع ولم يستطع أحد تنفيذ هذا من غير المؤسسات الدينية ، فالليبرالية لا تستطيع فعل عمل كهذا لنه يضر بمصداقيتها ودعوتها الثابتة من أجل الحرية والعدل والسلام ، ولهذا فصناعة العلمانية في العراق يجب ان يتم بأيدي قوى الإسلام السياسي !! لأنها المؤهلة لتطبيق هذا المشروع في الأين والكيف ، وهي القادرة على تبرير أعمالها وفق الشريعة كما تفعل في كل قضية في المجتمعات البدائية لتنفيذ المشاريع التي من هذا النوع .
ولهذا فلو قام بهذا الفعل الحزب الشيوعي مثلاً لما تسنى له ذلك لكونه متهماً بالكفر لدى القوى الإسلامية السياسية ، وكذا لو تصدى الحزب الليبرالي الديمقراطي لهذه المهمة لقيل عنه حزب أمريكي أسرائيلي يشيع الأباحية وما إلى هنالك من هذه التهم الرخيصة .
لهذا كانت القوى الدولية كما نرى محقه في إعطاء هذه المهمة للأحزاب الدينية ، وبالتالي تُسهل عليها الكثير من الجهد والمال في صياغة الوضع السياسي وثقافة العلمانية ، وقد ثبت للجميع ان المتحرك بالفعل في العراق هو كل من ينادي بالدين في حالة من الهستيريا العجيبة [ وليس العراق وحده بل في كل البلاد العربية والإسلامية عامة ] ، وهذه المعادلة وعاها الغرب لاحقاً ، ولهذا فلامانع لديه بالتعامل مع إسلاميين يحققوا لهو ما يعجز عنه قوى العلمانية الرسمية التقليدية أو حتى ذات المناهج الفكرية الرصينة كالشيوعية والليبرالية ، ولا مانع إن طال ذلك لفترة من الزمن فالهدف المرصود هو تحقيق العلمانية ، وهذا الهدف ان تحقق فان القوى الإسلامية السياسية ستزول بذاتها أي سيكون مصدر سقوطها ذاتي وهذه الدينامية هي القادرة على تقليص دور القوى الإسلامية في المستقبل .
هذا في حال عدم تحولها هي ذاتها للفكر العلماني الليبرالي ، ولذلك يجب على كل القوى اليسارية والليبرالية ان لا تزاحم قوى الإسلام السياسي في هذه المرحلة بالذات بل ويجب عليها تشجيعها للقيام بمهمتها الحاليه على اكمل وجه فهي الأجدر لتحقيقها والعبرة بالنتائج ..