مفهوم القسم في الكتاب المجيد لا يكون حقيقياً وملزماً إلاَّ في تلك الصيغة - أقسم - ، ولا يصح القسم في غيرها من الصيغ والتي توهم في الإدعاء بها فقهاء التراث وتوابعهم ، وهذا الإستهلال هو بيان وتقديم : لمادة القسم على المقسوم والمقسوم عليه وبكونها ثابتة وصادقة ومعلومة اليقين ، والصدق والثبات واليقين هي صفات موضوعية أعتمدناها هنا ، و ليس ذلك نفياً لمبدأ النسبية في الصفات ولكن لعظمة المقسوم عليه وأهميته ، وهذا التعميم جئنا به من أجل التأكيد على نظر كل واحد منا للشيء في ذاته ، وفي الكتاب المجيد تكون دلالة لفظ فعل ( أقسم ) على معناه واضحة ، وهي معلومة في السياق والإشارة ، وبحسب القراءة الموضوعية لمفهوم اللفظ لا نجد شيئاً أدل منه على التوكيد سواه ، ولهذا لا يصح بل لا يجوز القسم بغيره ، وهذا ما سنمر عليه في سياق البحث لاحقاً ، وفي الكتاب ورد اللفظ مفرداً هكذا - أقسم - وفي نحو سبع مواضع بإضافة الرقم 15 ، 16 من سورة التكوير ليكون العدد ثمانية ، و هي كالتالي :
قال تعالى : [ فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ] - الواقعة 75 ، 76 . .
و قال تعالى : [ فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ] - التكوير 15 ، 16 .
وقال تعالى : [ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ] - الحاقة 38 ، 39 .
وقال تعالى : [ فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ] - المعرج 40 .
وقال تعالى : [ لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ] - القيامة 1 ، 2 .
وقال تعالى : [ فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا أتسق ] - الإنشقاق 16 ، 17 ، 18 .
وقال تعالى : : [ لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ] - البلد 1 ، 2 .
وقد ورد لفظ - أقسم - ولكن بصيغة الجمع ، وهو في هذه الحالة جاء وصفاً لا تقريراً ، في خمس مواضع من الكتاب المجيد ، في سورة الأنعام النص 109 ، وفي سورة المائدة النص 53 ، وفي سورة النحل النص 38 ، وفي سورة النور النص 53 ، وفي سورة فاطر النص 42 ، وعلى النحو التالي : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم ) ، وهي في الجميع لا تعدو وصف حال في الموجب أو السالب ..
.
ولفظ - أقسم - في اللسان العربي يأتي مفرداً ويكون جمعاً و أصله رباعي صحيح قال أبن فارس ، وأما دلالته فعلى التوكيد والإثبات ، أي جعل المقسوم به أو عليه ثابتاً ومؤكداً ، وقد أستخدم اللفظ في الكتاب المجيد وصفاً للصدق تارةً و للصواب تارةً أخرى ، وأما - الفاء - فيه فهي للأبتداء وما يأتي بعدها فكلام مستأنف ، وقالوا : بل هي حرف عطف ودلالته على الترتيب والإشتراك ، وأما لفظ - لا - فقال البصريون هي حرف زائد لا معنى له ، وقال الكوفيون بل هي أسم إن سبقها حرف جر ، وقيل في معناها أقوال منها : [ إنها نافية للجنس ، أو ناهية للأمر ، أو أنها جواباً لسؤال ، أو تكون بمعنى غير ، أو أنها لا معنى لها ، أو أنها تعمل عمل إن أو ليس ] ، هذه التنوع الذي قال به المعجمين يجعل من التركيز حول المعنى المراد مشكل في ذاته ، لكننا مع القول بأنها نافية للجنس حال دخولها على فعل القسم نفسه هكذا نفهمها ، وتأتي مع لفظ - أقسم - للمبالغة في توكيد القسم وإثباته ، وتدلنا على إن القسم في هذه الحالة لا يكون إلاَّ على شيء مهم وعظيم ، وأما الجمع المركب من - حرف لا وفعل أقسم - فهو جمع بين النفي والإثبات ، [ فالنفي يكون على المقسم والإثبات يكون على المقسم عليه ] ، وهذا مذهب المفسرين والنحاة القدامى ، ودلالة النفي في اللفظ واضحة قال البغوي ، وفي الكتاب المجيد حين أستخدم لفظ - أقسم - أستخدمه في مجال خدمة قضية النبوة وإثباتها وتأكيدها ، هذا في الفترة المكية من حياة النبي عليه السلام ، ولكنها صارت لا حقاً قيمة تداولية لمجمل أفعال الرسالة فيما يخص العقود والمواثيق والإدارة والمسؤولية وغيرها .
وكما قلنا في البدء : - إن القسم لا يصح ولا ينعقد مطلقاً بغير صيغة - أقسم بالله - ، في كل القضايا القانونية والشرعية ( الحياتية والمجتمعية ) ، وأما ماذهب إليه الفقهاء في إعتماد صيغة - الحلف - للقسم فليست عندنا بشيء ، بل ولا تجب عليها أية تبعات وأحكام قانونية وشرعية [ إذا أعتمدت كصيغة للقسم ] ، ومعلوم إن دلالة لفظ - حلف - في اللسان العربي تعني التناصر أوالتعاهد بين أثنين أو جماعة ، ومنه جاء معنى الحلف والتحالف والأحلاف ، ولا دخل له في معنى القسم البتة .
فإن قيل : وما تقولون في معنى - حلف - الذي ورد في غير موضع من الكتاب كقوله تعالى : ( ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ) المجادلة 14 .
قلنا : إن لا دلالة على أن - يحلفون - هنا بمعنى يقسمون ، بل الظاهر من الكلام إن اللفظ هنا دال على التناصر والتعاهد على الكذب ، ولا يدل على القسم بالمعنى المشار إليه ، ودليلنا على ذلك قوله تعالى : ( أتخذوا أيمانهم جنة ) ، فالتترس بالأيمان الظاهر من أجل الصد عن الحق هو غطاء يتخذه دائماً أهل الدعاوى الباطلة .
وللفقهاء فيما يذهبون قول عن - الحنث بالحلف أو الحنث باليمين - ، وقد ورد قولهم ذلك في سياق تدعيم فكرة - الحلف - على أنه القسم !! ، وهذا منهم ليس على ما ينبغي ، فالحنث بالحلف عندنا لا يتعدى ذلك المعنى الذي ذهبنا إليه عن المخالفة أو نقض العهد والتحالف ، ولذلك قلنا بأن مخالفة الحلف أو الخروج على قواعده ونصوصه ، فتترتب عليه أحكام وتبعات وعقوبات وجزاءات ، أي إن العقوبة تترتب على مخالفة شروط الحلف ، وليس بإعتبار الحلف قسم يجب الوفاء به ، ذلك أن المتحالف قد آمن بشروط الحلف وأمضاها ، [ كما يحصل اليوم من أنكلترا مع الإتحاد الأوربي فيما يسمى بقضية البريكست ] ، فالعقوبة أو ما تسمى بالكفارة إنما تترتب أثراً على نقض الحلف وشروطه بعد توكيده لا من حيث هو قسم ، بل من حيث كونه معاهدة يجب الوفاء والإلتزام بشروطها .
وأما معنى قوله تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته ..ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وأحفظوا أيمانكم .. ) المائدة 89 .
فنقول : اللغو في لغة العرب هو كل صوت أو كلام يكون من غير قصد أو إرادة ، أي إنه من حيث هو هو عبارة عن ثرثرة وكلام لا طائل منه ، ولذلك فلا يترتب عليه من الأحكام والعقوبات شيءُ ، وقد أكد النص على هذه الحقيقة بقوله - لايؤاخذ كم الله باللغو - ، أي إن الله لا يرتب عليكم تبعات وأحكام على كل قول وكلام لم تقصدوه أو تريدوه ، وعلى هذا النحو فكل قول أو كلام لم يقصده القائل أو المتكلم ليس عليه عقوبة أو جزاء ، ، [ قال الراغب : اللغو هو الكلام الذي يورد من دون روية ولا تفكير ، فيجري مجرى اللغا ، والذي هو صوت العصافير ونحوها من الطيور ، ومنه اللغو في الأيمان ] ، وأما العقد : ( فهو الجمع بين الأطراف ، ومثاله عقد الحبل وعقد البناء وعقد البيع والشراء ) ، وعليه فكل كلام إن صدر عن شخص ما من غير روية ولا تفكير فلا يترتب على ذلك الشخص أية عقوبة أو حكم ، وبحسب مبدأ المقابلة : فإن كل كلام يصدر عن روية وتفكير فعليه عقوبة وحكم ، ( وقد سما النص هذا القصد من الكلام - عقداً - ومعناه إرادة الفاعل من كلامه وقوله ) ، فالكلام المقصود والمُراد هو ذلك الذي تترتب عليه الأحكام والعقوبات ، وأما إضافة الأيمان للعقد فيكون من باب تأكيد القصد وإرادته لا غير ، [ فانت حين تشتم أحداً أو تسبه أو تدعي عليه دعوى في كلام ما ، فلازم ذلك الكلام توكيد وهذا التوكيد يسمونه عقد أيمان ] ، وإن حصل ذلك يكون العقاب ويكون الجزاء والذي سُمي بلسان النص - كفارة - ، والكفارة لغة بتشديد الفاء بمعنى التغطية أو المحو ، وهي إصطلاحاً عقوبة مقدرة ، وتكون هنا بسبب نقض العقد الذي كان بفعل الحلف ، قال تعالى : - ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) - ، فالعقوبة بحسب منطوق النص تترتب وتتقدر أثراً على طبيعة التحالف ونوعيته الذي تعاقدتم عليه بشروط أمضيتموها ، والتجاوز على تلك الشروط أو نقضها لا زمه عقوبة مقدرة تكون بحسب الزمان والمكان وهي ما يطلق عليها بالتعزيرات وليست الحدود .
وأما قوله تعالى : [ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم .. ] - البقرة 224 ، والعرض هو النشر ومنه جاء المعرض والمعروض ، وكل الأشياء التي تُعرض تسمى عرضة أو معروضة ، وهو أستخدام يجري تداوله في مجال البيع والشراء ، ومن هنا جاء النهي في النص بعدم جعل الله عرضة لهذا النوع من المزايدة والتقليل والحط من قيمته وشأنه ، وظاهر النص ومراده التأكيد على الجانب الإخلاقي في التعامل مع الله أو تداول أسمه العظيم ، إذ لا يجوز بحال جعل هذا المقام العظيم بضاعة وسلعة يُعرض بها الجاهل في كل حين ، كقولهم - والله ، أو أي والله ، أو لا والله وامثالها - ، فهذا القول لا ينعقد به القسم ولا يعتد به شرعاً ولا يترتب عليه أثراً ، وإن حصل وهو حاصل بالفعل فلا يتعدى معنى - اللغو - المنهي عنه في الكتاب ، وكما قلنا فليس هذا اللفظ تبعات وأحكام ، وما قيل في هذا الشأن عند عامة الفقهاء فليس عندنا بشيء .
تحدثنا فيما مضى من بيان عن معنى القسم والحلف ، وقلنا متى يكون القسم صادقاً وصحيحاً ومتى لا يكون كذلك ؟ ، كما رددنا فكرة الحلف وقلنا بإنها ليست من باب القسم المشار إليه في الكتاب المجيد ، والآن سنناقش بشيء من الإيجاز معنى قوله تعالى : [ فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ] من سورة التكوير 15 ، 16 ،
والخنس : لغة من خنس فهو خانس - والخاء والنون والسين - أصل واحد قال أبن فارس في المقاييس ، ودلالتها على الإستخفاء والتستر ، و اللفظ إن جاء مُنكراً فيعنى الذهاب خفيه ، وإن جاء جمعاً فيكون أسماً دالاً على النجوم السيارة التي تستر في النهار وتطلع في الليل ، و - الخناس - صفة للشيطان الذي يوسوس في الصدور ، ..
والجوار جمع جارية وهي الريح المسرعة ، وشُبه فيها كل شيء جار ، ومنها - الجوار ( المنشآت ) في البحر كالأعلام - ، ومنها الخيول و الجبال والأنهار والبحار والشمس وكل شيء يسبح فهو جاري .
وأما الكُنس فهي صفة مشبهة بالفعل من كنس ، وأصله صحيح من الكاف والنون والسين ، قال الجرجاني هو الكشف والإظهار ، وقال أبي عبيدة هو الإستخفاء ، والأقرب ما قاله أبي عبيدة في معنى الإخفاء .
والجملة الخبرية - فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس - وردت في مقام التأكيد والإثبات ، وفي معناها ذُكرت أقوال منها :
أولاً : ما نُسب إلى الإمام علي إنه قال : - هي النجوم تجري ( وفي رواية تكنس ) في الليل وتخنس بالنهار - ، قال أبن عباس فيما ذكره الطبري وأبن كثير ، وعلى هذا أعتمد بعض المفسرين وقالوا : هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية ، وتجري في أفلاكها وتختفي - .
وثانياً : ماذهب إليه مناصروا فكرة الإعجاز العلمي للقرآن ، وبأن المُراد من هذا النص هو في الإشارة إلى عمل الثقوب السوداء ، في عملية تخليص جو السماء من الغبار الفضائي وما يحدث من إنفجارات كونية هائلة ، إذ لولا تلك الثقوب لأنعدمت الحياة ، وهذا الرأي لا أعتد به بل هو مرجوح عندي ، ذلك إن تحميل النصوص القرآنية ما توصلت إليه البحوث العلمية ، هي مغامرة لا نؤيدها إلاَّ غذا كانت منسجمة تماماً مع السياق والسباق ..
وثالثاً : هو الرأي الغنوصي القائم على فكرة - إن هذه الثقوب السوداء - هي مجمع أو بوابات للعالم الأخر ، العالم الخفي الذي تتجمع فيه كل العوالم ، وإليه تذهب الروح بعد الموت ، وهذا الرأي بعيد عن مضمون النص ومقتضى الحال فيه !! .
ورابعاً : الرأي البيالوجي الذي أعتمده بعض المهووسين والمغامرين ، والقائل : هو إشارة لما تقوم به الكريات البيض من تنقية للدم ، وتخليصه مما علق به من ترسبات وميكروبات وبكتريا ضارة ، على أساس إن عملها يقوم بكنس وتنظيف الدم من الرواسب الضارة عبر الجهاز البولي ، وهذا الرأي كسابقيه تحميل للنص ما لا يحتمل من المعاني والدلالات ..
وأما الرأي الراجح عندي والذي أميل إليه ، هو ما نُسب إلى الإمام علي من قول ، عن النجوم التي تجري أو تكنس في الليل وتخنس في النهار ، والذي يؤكد هذا الرأي ، دلالة النص اللاحق في قوله تعالى : [ والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ] ، وهو بمثابة الشرح والبيان ، إذ أن مفهوم عسعس أي دخل أو أقبل الليل بظلامه ، ودخول الليل يفسح المجال لرؤية النجوم حيث تنعكس أشعة الشمس من خلالها إلى الأرض ، وحين يدخل النهار تخنس النجوم أي تختفي عن المشاهدة العيانية ، وفي هذا إشارة للمعنى المُراد من الخنس الجوار الكنس ، والعطف بالليل على القسم لمناسبة جريان الكواكب والنجوم في الليل ، وتعاقب الليل والنهار هو من أجل مظاهر الحكمة الإلهية قال ابن عاشور في التحرير والتنوير ، وهذا مناسب للمقام ومنه يتبين إن الخطاب في النص يخاطب العقل في الزمان والمكان المطلق ، وأما أعتماد منتجات العلم الحديث وتعميمها على نصوص الكتاب فمخاطرة لا نقبلها ولا نوجه بالعناية بها ، إنما يمكن فسح المجال لها في باب الإستئناس لا غير ..
آية الله الشيخ إياد الركابي
12 ربيع الأول سنة 1440 هجرية