الظهور الحقيقي لليبرالية كمفهوم سياسي و اقتصادي متكامل كان في القرن التاسع عشر، و كنتيجة لمساهمات متفرقة في أوقات مختلفة لعدد من الفلاسفة من أمثال جون لوك و جون ميلتون و جان جاك روسو و آدم سميث و ديفيد ريكاردو و ايمانويل كانت و جون ستيوارت ميل
ففي هذا القرن لم تظهر الليبرالية كأيدلوجية فقط و إنما حققت الانتصار على ما عداها، خاصة مع انتشار التصنيع في البلدان الغربية وقيام نظام الرأسمالية الصناعية و اقتصاد السوق الخالي من تدخل الحكومة، و تأسيس أنظمة دستورية تحد من سلطات الدولة و ترسخ الحقوق المدنية و تطلق حريات التعبير و الممارسة الدينية و الملكية.
يلتزم الليبراليون بمجموعة من القيم و المبادئ تشكل في مجموعها موقفا أخلاقيا نبيلا
من قضايا حيوية أساسية. ويمكن اختصار هذه المبادئ فيما يلي:
أولا: احترام إنسانية الإنسان، بمعنى الاعتراف بكيانه الفردي و بأنه الأساس و الجوهر الذي لا يمكن تجاهله أو الحط من قدره و عقله أو اعتباره مجرد رقم أو ترس ضمن الجماعة أو المجموعة. وهذا كله بطبيعة الحال من منطلق أن الفرد متى كان معترفا به ككيان قائم بذاته له استقلاليته وكينونته و احتياجاته وطموحاته الفردية، يستطيع التصدي لمشاكل المجتمع بطريقة أفضل و يقدر على الإنجاز و والإبداع و الابهار لصالح وطنه، و العكس بالعكس. و هكذا فان الليبراليين يعطون أهمية قصوى للفرد تفوق أهمية الجماعة و يعتبرون أن وظيفة المجتمع هو حماية مصالح واحتياجات الفرد، و أن كرامة و مساواة الأفراد يجب أن تكونا غاية و ليستا وسيلة لبلوغ أهداف جماعية. لكنهم في الوقت نفسه و كنتيجة للتطور الذي ادخلوه على مفاهيمهم يؤكدون على أهمية المسئولية الاجتماعية.
ثانيا: اعتبار أن الحرية شرط لا غنى عنه لتمكين الأفراد من تنمية قدراتهم و مهاراتهم و تحقيق ذواتهم بما يتفق مع رغباتهم و يحقق لهم الرضا. و يشمل هذا المفهوم حق الفرد، متى ما بلغ سن الرشد، في اختيار مأكله و ملبسه وعمله و معتقده و قراءاته و شريكة حياته و طريقة إنفاق ماله أو قضاء وقته أو تحديد نوع نشاطه أو اختيار أصدقائه دون وصاية من أي سلطة كانت. غير أن هذا لا يعني طبقا للمفهوم الليبرالي الحديث منح الأفراد حرية مطلقة غير محددة. فحرياتهم مقيدة بعدم الإساءة إلى الآخرين أو إلحاق الضرر بهم أو تجاوز القانون و النظام.
ثالثا: إخضاع كل شيء لحكم العقل، بمعنى توظيف هذه الآلة الجبارة في التوصل إلى الحقائق و الاستنتاجات دون وصاية خارجية سواء من سلطة الاستبداد السياسي أو سلطة الاستبداد الاجتماعي. و هذا بطبيعة الحال نقيض منح الفرد إجازة لعقله و الاستسلام للغيبيات و الخرافات و النصوص الطوباوية و املاءات الآخرين أو الرضا بالتجهيل. و من هنا تعطي الليبرالية قيمة كبرى للمعرفة و التعليم كوسيلة أساسية للارتقاء و تنمية الفرد فالمجتمع، كما تعطي أهمية للحوار و النقاش و الجدل و البحث النقدي باعتبار أن هذه الطرائق كفيلة بالتوصل إلى نتائج عقلانية و منطقية.
رابعا: الالتزام الصارم بأن الناس جميعهم متساوون أمام القانون في الحقوق و الواجبات دون تمييز قائم على النوع أو الجنس أو اللون أو المذهب أو الدين أو الخلفية الاجتماعية. و من هنا كانت مناداتهم بان تكون للأفراد فرص متساوية لتنمية ذواتهم و بالتالي فرصا متساوية للصعود اجتماعيا ووظيفيا. و من هنا أيضا كانت معارضتهم لتدخل الدولة من اجل فرض المساواة فرضا و ذلك انطلاقا من أن الأفراد لم يولدوا متساوين في مواهبهم وملكاتهم. غير أن هذه المعارضة لتدخل الدولة تصبح مقبولة إن كانت بغرض القضاء على التمييز و حماية تكافؤ الفرص.
خامسا: التشديد على مفهوم التسامح و قبول الاختلاف و التنوع و ترسيخه كثقافة مناقضة للقمع و مصادرة الحريات وفرض الرقابة و الإقصاء و التخوين و الهيمنة من طرف ضد أطراف أخرى. وبعبارة أخرى تسعى الليبرالية إلى إقامة مجتمع تعددي يعمل مختلف الأطياف فيه بحرية و باعتراف متبادل تحت مظلة القانون.
سادسا: التأكيد على أن العلمانية شرط لقيام الدولة الليبرالية. فحيث لا تكون هناك علمانية لن تكون هناك ليبرالية. وعلى العكس مما يروجه خصوم الليبرالية، فان العلمانية في المفهوم الليبرالي لا يحارب الدين و لا يلغيه ولا يفرض على الناس تركه وإنما ينزهه بإبعاده عن الواقع السياسي الموبوء، عن طريق منع تدخل المؤسسة الدينية في أعمال المؤسسات الدنيوية تاركا للناس ممارسة عقائدهم كل بحسب قناعاته. ويتضح جدوى العلمانية في حالة الدولة ذات المكونات الدينية المتنوعة، حيث تقف الدولة على الحياد التام إزاء الأديان، مانعة امتلاك جماعة دينية ما لحظوة أو نفوذ على حساب الجماعات الدينية الأخرى.
سابعا: إن الديمقراطية بأدواتها و مظاهرها المعروفة شرط لتحقق المبادئ سالفة الذكر و ترسخها. و بعبارة أخرى لا يستخدم الليبراليون الديمقراطية كمطية للوصول إلى السلطة و بالتالي التحكم في رقاب من لا ينتمون إليهم إقصاء أو تمييزا أو اضطهادا، و لا يختزلونها في الانتخابات و البرلمانات و صناديق الاقتراع، ولا يخرجونها عن مضامينها القيمية الحقيقية المتفق عليها من تسامح و حرية و اعتراف بالآخر المختلف، بل يعتبرونها "أولا و قبل كل شيء هي سيادة الشعب من اجل الشعب" بحسب تعبير الكاتبة و المفكرة التونسية د. رجاء بن سلامة. و من هنا فان الديمقراطية طبقا للمفهوم الليبرالي يقوم على المواطنة بمعنى انتماء الفرد للدولة و ليس للدين أو العرق أو الثقافة و مساهمته في الحياة السياسية من هذا المنطلق وحده، و تساويه مساواة تامة مع شركائه في الوطن أمام القانون في الحقوق الواجبات دون النظر إلى دينه أو عرقه أو أصله أو جنسه، بما في ذلك حق إشغال أعلى مناصب الدولة و القضاء. ويعتبر الليبراليون أن الالتزام بمرجعية حقوق الإنسان هو أساس الديمقراطية و لبها.