تصدرت أنباء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي العناوين الأولى لوسائل الإعلام العالمية عبر عملية تضخيم ومبالغة غير مسبوقة.
نتناول هنا محورين فقط من هذه الحملة:
- ما يتعلق بالموضوع الروسي وما يحاول البعض تصويره بأن روسيا مستفيدة من خروج بريطانيا، وذهاب البعض الآخر إلى دور روسيا في تفكيك الاتحاد الأوروبي.
- وهل كانت بريطانيا عضوا حقيقيا في الاتحاد الأوروبي، وهل يمكن أن يؤثر خروجها على حلف الناتو المكون أصلا من دول الاتحاد بزعامة الولايات المتحدة؟
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، اعتبرت موسكو أن نتائج استفتاء بريطانيا حول الخروج من الاتحاد الأوروبي "شأن داخلي"، معربة عن أملها بأن تتغلب فكرة إقامة علاقات جيدة مع روسيا. وهو ما تحدث عنه العديد من الساسة والخبراء الروس حتى قبل ظهور نتائج الاستفتاء.
البعض يبالغ في دور روسيا، وأنها لعبت دورا في خروج بريطانيا، ولكن روسيا نفسها تلتزم بمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة إلا بما يتطابق مع القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة. وبالتالي، فالمبالغات في دور روسيا أو إسناد أدوار وهمية إليها في تفكيك هذه المنظمة أو تلك أو تدهور أوضاع هذا الاتحاد أو ذاك، جزء من حملات ساذجة وسطحية وبروباغندا فارغة تستخدم ضد روسيا وسياساتها، مهما كانت طبيعة النوايا الحسنة.
الكرملين نفسه لا يرى وجود أي علاقة بين مسألة العقوبات المفروضة على روسيا وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فهناك وجهات نظر مختلفة في الاتحاد بشأن عقوباته ضد روسيا، وفعالية هذا العقوبات مهما كانت علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي. هذا ما قاله الناطق الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف. والذي أضاف أيضا فيما يشبه التحذيرات الدبلوماسية، بأن "دولا مختلفة مهتمة بدرجات مختلفة بتطوير التعاون الاقتصادي التجاري والحفاظ على علاقات طيبة مع روسيا، كما أنها تفهم بشكل مختلف عدم وجود بديل للعلاقات الطيبة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا".
قد يرى البعض أن روسيا عندما تقول إنها تريد اتحادا أوروبيا قويا ومزدهرا وشفافا، فهي تريد اتحادا أوروبيا غير خاضع لضغوط وتحكمات أمريكية، وبالتالي، فخروج بريطانيا من الاتحاد سوف يعمل على تقوية الاتحاد وتعزيز شفافيته ومضاعفة ازدهاره واستقراره. ولكن ماذا بشأن وجود بريطانيا في حلف الناتو الذي يضم دول الاتحاد تحت راية واشنطن؟ وماذا بشأن زيادة بريطانيا نفقات الدفاع في إطار حلف الناتو؟
إن محاولات قراءة النوايا في السياسة الكبرى أمر في غاية الحساسية والخطورة، وقد يتحول في لحظة إلى "نظرية المؤامرة". وبالتالي، فقد أعلنت موسكو صراحة، على مستوى الكرملين والخارجية، بأن الاتحاد الأوروبي يعتبر شريكا اقتصاديا مهما لروسيا، وأن نتائج الاستفتاء في بريطانيا شأن داخلي للشعب الإنجليزي، وأن هذه إرادة لشعوب بريطانيا العظمى.
المدهش أن وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند قد انضم فجأة إلى أصحاب نظرية المؤامرة وأعلن أن نتائج الاستفتاء في بريطانيا قد بثت السرور في نفس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، معربا عن أمله في أنها لن تسمح بتخفيف الضغط على موسكو. ويبدو أن السيد هاموند لم يسمع المثل الروسي الذي ينصح عادة بضرورة "فصل اللحم عن الذباب"، وعدم خلط الأوراق لتصفية حسابات أو إعطاء انطباع بأن لندن أصبحت ملكية أكثر من الملك في واشنطن.
يبدو أيضا أن هاموند يريد أن يخفف ليس بالضبط من صدمة الساسة الأوروبيين أو من تسخين وسائل الإعلام، بقدر ما يريد أن يعزي الولايات المتحدة وأوساط الصقور في لندن. ولذلك ركَّز على تمديد العقوبات والتعامل بصرامة مع موسكو. وفي الحقيقة، فهذه مشكلة بريطانيا وليست مشكلة روسيا إطلاقا. ومع ذلك، لا يوجد أي داع للمبالغات في دور روسيا، وبالذات في المؤامرات وتفكيك المؤسسات والهيئات الدولية، لأن ذلك ناجم أصلا عن تناقضات في تلك المؤسسات والهيئات وفي سياساتها وتوجهاتها بالأساس.
أما النقطة الثانية، فهي شيقة ومثيرة، ولو حتى على المستوى النظري. فبريطانيا حافظت على عملتها ولم تدخل في الوحدة النقدية الأوروبية وبعيدا عن تقلبات اليورو. بريطانيا لم تكن أيضا عضوا في اتفاقية "شينجن". وهناك عدة اتفاقيات ومجالات أخرى، لم تأخذ بريطانيا بها عند توقيعها على "عضوية" الاتحاد. ما يعني شئنا أم أبينا أن بريطانيا كانت عضوا غير كامل في الاتحاد، وأنها كانت تسير على هامش هذه المنظمة الدولية التي تضم 28 دولة، بما فيها طبعا بريطانيا. فهل نستطيع أن نقول إن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، كانت عضوية شرفية، خاصة وأن القاطرتين الحقيقيتين للاتحاد الأوروبي هما فرنسا وألمانيا، وأن الأهم أصلا في الموضوع، هو عضوية حلف الناتو التي تعتبر بريطانيا أحد صقوره؟
في الحقيقة هناك مبالغات غير إيجابية في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتأثير ذلك على وحدة الاتحاد ونفوذه وتأثيره. فبريطانيا لم ولن تقلل من ميزانيات الدفاع في إطار الناتو، ولن تخرج من هذا الحلف الذي يضم نفس دول الاتحاد، ولن تعارض حتى المطالب بزيادة ميزانيات الدفاع عموما. ووفقا للتهويمات النظرية ونظريات المؤامرة والتمارين الذهنية، يمكن أن يذهب الكثيرون إلى انهيار وتفكك حلف الناتو نفسه. وبصرف النظر عن التفاؤل والتشاؤم فهذه العمليات تحتاج إلى سنوات طويلة. وكلنا يعلم، كم احتاج حلف وارسو من السنوات لكي ينهار ويتفكك، وكم احتاج الاتحاد السوفيتي من السنوات لكي ينهار ويتفكك.
لقد أكد وزير الدولة البريطاني للشؤون الأوروبية دافيد ليدينغتون أن بريطانيا ستحتفظ بعلاقات وثيقة مع دول الاتحاد الأوروبي، بل ولا تقل قوة عن ما كان الحال عليه الماضي. وأشار إلى أنه من الواضح أن نتائج الاستفتاء أشعرت جميع التجمعات السياسية التي كانت تؤيد فكرة عدم الخروج من الاتحاد الأوروبي بخيبة أمل. إلا أننا نعيش في ظروف المجتمع الديموقراطي، ولذلك علينا أن نحترم القرار الذي أتخذه سكان البلاد ونقبله.
وبشأن المخاوف من أن يؤدي ذلك إلى ظهور تأثير الدومينو، قال ليدينغتون إن قرار الخروج اتخذه الناخبون البريطانيون بشكل مستقل دون أن يكون له أي علاقة بآراء سكان الدول الأخرى.
الجديد في الأمر أن وزير خارجية اسكوتلندا نيكولا ستيرجن أعلنت أن بلادها تنوي إجراء استفتاء على الخروج من تحت التاج البريطاني، وفي نفس الوقت تريد البقاء في الاتحاد الأوروبي. وهذا يمكن أن ينطبق في أوقات ومراحل مقبلة على كل من ويلز وأيرلندا الشمالية. ولكن كل ذلك سابق لأوانه. ومن الصعب التكهن بتفكك الاتحاد الأوروبي أو تفكك بريطانيا، فالمسألة ليست بهذه البساطة.
وعموما فقد علّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأنه لا يحق لأحد التصريح عن موقف روسيا بعد خروج بريطانيا، فهذا مظهر من مظاهر تدني مستوى الثقافة السياسية. بل وأضاف بأن تصريحات كاميرون حول مصلحة روسيا في خروج بريطانيا من الاتحاد لا أساس لها من الصحة، وهي محاولة منه للتأثير على البريطانيين.
أشرف الصباغ
RT