قول في مسألة النزول القرآني وفي البعثة النبوية
نواصل في هذه الحلقة البحث في مسألة النزول القرآني وفي البعثة النبوية ، أقول : عن الكيفية وعن الطريقية ، وفي هذا المجال نقول :
لو أن أحداً من الناس قام بحفر بئر ماء ، وقد خرج الماء بعد الحفر في يوم الجمعة ، فإننا سنقول إن خروج الماء من البئر كان في يوم الجمعة ... وفي هذا القول لا نعني أبداً ان يكون مُرادنا من خروج الماء من البئر هو خروج كل ماء البئر في ذلك اليوم ، بل نريد من ذلك هو إن بداية خروج الماء منه كان في يوم الجمعة ، لأن خروج الماء من البئر يكون في العادة على نحو تدريجي ، ولا يكون الخروج على نحو دفعي ولمرة واحدة ، وهذا القول يوضح ويبين المعنى الذي قصدناه ، في العبارة القائلة : - خرج الماء من البئر يوم الجمعة - فالجمعة هي ظرف زمان يدل على بداية خروج الماء ، ولا يعني إن جميع أو كل الماء قد خرج في ذلك اليوم ، وهذا الإستخدام جار في لسان العرب وهو ليس من قبيل المجاز كما إنه ليس من قبيل اللزوم ، ذلك لأن في الجملة لفظة مقدرة مفهوماً وهي - بعض - ونظائرها ، أي إن بعض ماء البئر قد خرج يوم الجمعة ، وهذه عبارة حقيقية ، إذ إن إطلاق لفظ الماء هو إطلاق حقيقي وليس إطلاقاً مجازياً ، وهذا التعبير يصلح ويجري في كل الأمور التدريجية ..
ومسألة نزول القرآن هي من هذا القبيل ، ولهذا يمكننا القول : بما إن مفهوم نزول القرآن واضح في العرف الإسلامي - ككونه نزول تدريجي - ، وبما إن الله قد قال - إنا أنزلناه في ليلة القدر – فإنه يفهم منه : إن بداية النزول كان في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهذا الفهم فهم واقعي حقيقي وليس فهماً مجازياً أو فهماً لا زماً ، وهذا ماأردناه من مثالنا عن الماء الخارج من البئر في يوم الجمعة ....
ولنضرب مثال أخر : ونقول لو قال أحد في أول يوم من شهر رمضان - قد دخل علينا شهر رمضان - فهل يعني هذا إن جميع أيام الشهر قد دخلت دفعة واحدة ؟ طبعاً : لا ، ذلك لأن أيام الشهر وكل شهر تأتي بالتتابع وعلى التدريج ولا تأتي دفعة واحدة ، وهذا يعني إن المُراد من قولهم - دخل علينا أو دخلنا في شهر رمضان - لا يعني دخولنا في كل الشهر هكذا دفعة واحدة ، ذلك لأن المتعين هو الوقت الأول للشهر وهذا هو الذي قالوا عنه قد دخلنا في شهر رمضان ، ومعلوم إنه حتى أجزاء اليوم لاتأتي دفعة واحدة بل تأتي على التدريج ، ونفس الأمر نقوله في قوله - شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن - أي إن مبدأ نزول القرآن كان في شهر رمضان ، وفي ليلة مباركة منه هي ليلة القدر ، كما إن جو أو طبيعة نزول القرآن كان كذلك أعني على التدريج أو بالتدريج ، وهذا واضح حتى قال المشركون ومن في قلوبهم مرض : - لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة - الفرقان 32 .
وهذا دليل على إن طبيعة النزول القرآني هي طبيعة تدريجية ، يظهر هذا ويلاحظ من نفس الإعتراض أو المشاكسة الواردة في النص ، ويظهر كذلك في وعي الناس الطبيعي لزمن النزول وكيفيته ، وهذا الكلام قرينة قطعية على ان نزول القرآن كان في ليلة القدر ، أي إن نزول أول نص من نصوصه كان في ليلة القدر ..
ولكن البعض قد يتصور إن لفظ - الإنزال - من باب الافعال دال على النزول الدفعي ، وإن لفظ - التنزيل - من باب التفعيل دال على النزول التدريجي ، وإن قوله تعالى - إنا أنزلناه في ليلة القدر - وماشابهه من الأقوال يدل على إن كل القرآن قد نزل دفعة واحدة ، وإن قوله تعالى - ونزلنا عليك القرآن تنزيلا - الدهر 23 . ، والأقوال المشابهة له دالة على النزول التدريجي ، وهذا التصور منهم ليس صحيحاً ، ذلك لأن - الإنزال - من باب الإفعال ، - والتنزيل- من باب التفعيل ، إنما جاءا بمعنى واحد ، وهو معنى مطلق النزول من غير تحديد لمعنى النزول الدفعي أو النزول التدريجي ، كما إن معنى النزول الدفعي أو النزول التدريجي يُفهم معناهما من القرائن الموجودة في القرآن نفسه ، وفي القرآن أستخدمت لفظة - الإنزال - من باب الإفعال في معنى النزول التدريجي ، وكذلك استخدمت لفظة - التنزيل - من باب التفعيل في معنى النزول الدفعي ..
وللتوضيح نقول :
أولاً : أستخدم القرآن لفظ - الإنزال - من باب الإفعال في النزول التدريجي ، كما في قوله تعالى - أنزل من السماء ماءاً - البقرة 22 ، إذ إن المطر ينزل من السماء بالتدريج دائماً ، وهذه قرينة خارجية مضافة لماذهبنا إليه ، وقد قال في سورة ق - ونزلنا من السماء ماءاً مباركاً - ق 9 ، وهنا قد استخدم لفظ التنزيل من باب التفعيل ، ولا فرق بين هذا النص والنص الذي سبقه ، .
ثانياً : أستخدم القرآن لفظ - التنزيل - من باب التفعيل في النزول الدفعي ، كما في قوله - وقالوا لولا نُزل عليه القرآن جملة واحدة – الفرقان 32 ، وعبارة - جملة واحدة - تدل على ان المُراد هو النزول الدفعي ، ولكن صيغة - نُزل - هي من باب التفعيل ، التي ليس فيها ما يدل على النزول الدفعي أو النزول التدريجي ..
قال تعالى : - وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانُزل إليهم - النحل 44 .
وقال تعالى : - وقالوا ياأيها الذي نُزل عليه الذكر - الحجر 6 .
فصيغة - أنزلنا - في النص الأول من باب الإفعال ، وصيغة - نزل - في النص الثاني من باب التفعيل ، وقد أستعملتا بمعنى واحد ، لأنهما في النصين ذكرا النزول على قلب محمد ، إذ إن لفظة - إليك - في النص الأول ، ولفظة - عليه - في النص الثاني ، تدلان على النزول على قلب محمد – ص - ، وفي ذلك لا نستطيع القول : إن المُراد من لفظ – نزلنا - في النص الأول هو نزول القرآن إلى البيت المعمور الذي في السماء ، كما إن صيغة - أنزلنا - جاءت من باب الافعال ، وصيغة نزل وردت في باب التفعيل ، ولاشك بان صيغتا اللفظ جاءتا بمعنى واحد ، أو يُفهم منهما مطلق مفهوم النزول ، وليس فيهما مايدل على النزول الدفعي أو التدريجي .
ولوقلنا : بان لفظ – أنزلنا - يعني النزول الدفعي ، ولفظ - نزل - بمعنى النزول التدريجي ، ففي هذه الحالة سيكون المعنى على هذا النحو : - إنا أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ، وأنت تنزل القرآن على الناس بالتدريج - !!! وهذا القول غير صحيح وغير منطقي ، ثم ان من قالوا : بان لفظ - الإنزال - بمعنى النزول الدفعي ، ولفظ التنزيل بمعنى النزول التدريجي ، فإنهم لم يذكروا لنا دليلاً على مدعاهم ، ومعلوم إن الدعوى من غير دليل لا معنى لها !!!
كما يجب التنبيه : ان لا فرق من جهة اللغة ومن جهة المفهوم بين لفظي الإنزال والتنزيل ، كما لا فرق بين الإكرام والتكريم ....
بعد التفصيل في قضية النزول القرآني ، حان الوقت لكي نبحث بالدليل مسألة - البعثة النبوية - ، ونقول : إذا كان نزول القرآن في شهر رمضان ، فهل يجب ان تكون البعثة النبوية في شهر رمضان كذلك ؟ على أساس إن البعثة النبوية مرتبطة بالوحي ، والوحي قد نزل في شهر رمضان ، وإذا كان الأمر كذلك : فكيف يمكننا فهم مايقوله البعض حول بعثة النبي ، وإنها كانت في 27 رجب ؟ كيف يمكننا فهم ذلك وكيف يمكننا تعليل ذلك ؟
ونقول : هناك ثلاث إحتمالات في تحديد تاريخ البعثة النبوية منها :
الإحتمال الأول : ان يكون المُراد من البعثة هو بداية الوحي على النبي محمد ، أي إن المُراد هو نزول أول نص عليه - ص - .
الإحتمال الثاني : ان يكون المُراد من البعثة هو المقام النبوي قبل نزول القرآن رسمياً .
الإحتمال الثالث : ان يكون المُراد من البعثة هو الأمر الإلهي الداعي لإظهار النبوة والإعلان عنها .
فلو كان المُراد منها هو الإحتمال الأول ، أي إن المُراد هو بداية نزول الوحي ، فهذا يلزمه ان تكون البعثة في شهر رمضان وليلة القدر منه بناءاً ما أكده القرآن نفسه ، وفي ذلك روى الشيخ الصدوق عن الفضل بن شاذان عن علي بن موسى الرضا إنه قال : - شهر رمضان هو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن وفيه نبئ محمد – ص - كتاب العيون ج2 ص116 .
وفي تاريخ ابن كثير رواية عن محمد بن علي الباقر قال فيها : - كان أبتداء الوحي إلى رسول الله يوم الأثنين لسبع عشرة خلت من رمضان - تاريخ ابن كثير ج3 ص6 .
وإذا كان المُراد من قوله - أبتداء الوحي - هو الوحي النازل على قلب محمد – ص - فتكون هذه الرواية موافقة للإحتمال الأول .
وعن اليعقوبي إنه قال : - وآتاه جبرئيل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له بالرسالة يوم الأثنين ، وقيل يوم الخميس ، وعن جعفر بن محمد الصادق كان في يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان ولذلك جعله الله عيداً للمسلمين - تاريخ اليعقوبي ج2 ص 17 و18 .
ولو كانت العبارة القائلة - يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان - مروية كلها عن جعفر الصادق ، فهذا يعطينا علماً بزمن البعثة ويومها ، وفي هذه الحالة ستنطبق هذه الرواية على الإحتمال الأول ، وبأن مبدأ نزول الوحي على قلب محمد كان في شهر رمضان ، ولذلك كتب ابن كثير يقول : - المشهور إن بعثة النبي كانت في شهر رمضان - تاريخ أبن كثير ج3 ص 6 ..
وإذا كان المُراد من البعثة هو المقام النبوي ، كما روى ذلك أبن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده عن عامر الشعبي إنه قال : - نزلت عليه النبوة وهو أبن أربعين سنة ... ولم ينزل القرآن ، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبرئيل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ، عشراً بمكة وعشراً بالمدينة - تاريخ ابن كثير ج3 ص4 .
إذا كان المُراد هو الوحي من دون البعثة ، فعلى هذا الفرض تكون البعثة في شهر ربيع الأول ، كما جاء ذلك في تاريخ اليعقوبي ج2ص17 .
وايضاً كما ذكر ذلك المسعودي حين قال : - فلما بلغ أربعين سنة بعثه الله إلى كافة الناس يوم الأثنين لعشر خلون من ربيع الأول - المسعودي التنبيه والإشراف ص198 .
وقال الشيخ الطوسي : - وصدع بالرسالة في اليوم السابع والعشرين من رجب وله صلى الله عليه وآله أربعون سنة – التهذيب ج6ص2 .
وهكذا قال الفتال النيشابوري : - فإذا أتت أربعون سنة أمر الله جبرئيل ان يهبط إليه بإظهار الرسالة ، وذلك في اليوم السابع والعشرين من شهر الله الأصم - روضة الواعظين ص52 .
ولكن الصدوق في كتابه المقنع قال : - وفي خمسة وعشرين من رجب بعث الله محمداً - الجوامع الفقهية ص17 .
وإذا كان المُراد من البعثة هو الإحتمال الثالث : - أي الأمر الإلهي بإعلان الدعوة - وهنا ربما يكون الأمر قد تم في شهر رمضان ، وربما في ربيع الأول كما عن اليعقوبي والمسعودي ، وربما كان في السابع والعشرين من شهر رجب كما عن الطوسي والفتال النيشابوري ، أو ربما تكون في الخامس والعشرين من شهر رجب كما عن الصدوق ، وعبارة الطوسي القائلة - وصدع بالرسالة - أي إبلاغها وهذا منه منطبق على الإحتمال الثالث وهو دال على إبلاغ ونشر الرسالة ولا يعني ذلك نزول الوحي ومبدئه ، فالقضية عند الجميع تخلط مابين مبدأ النزول ومابين إبلاغ الرسالة ، والذي ظهر لنا من خلال البحث إن الوحي لم يكن مبدئه في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب ، بل هو في شهر رمضان كما دلت على ذلك النصوص الصريحة ، وكما قلنا إن نزول القرآن كان في شهر رمضان على قلب محمد ، ولكن البعض خلط بين أصل النزول وبين مفهوم إبلاغ الرسالة ، وظهر لنا ضعف قول من قال بان بعثة النبي كانت في اليوم السابع والعشرين من رجب ، لأن ذلك مجرد ظن وعدم تفريق بين نزول الوحي وبدايته والإبلاغ عن الرسالة ، وكما هو واضح فهذا شيء وذاك شيء أخر ،
ولكن كيف تم تحديد يوم السابع والعشرين من رجب زمناً لبداية البعثة ؟ أي لا قبل هذا اليوم ولا بعده ؟!!
هذا السؤال يجب ان يواجهه القائلين بزمن البعثة بشهر رجب !! ، وبما إننا نرفض هذا القول لأن مستنده أخبار وروايات معارضة لصريح القرآن ، نقول : إننا لا يمكننا ترجيح قول تاريخي مشكوك في صحته على ما قاله الله في كتابه المجيد ، كما إن هذا القول التاريخي ليس بحجة حتى يعتد به كما إنه لم يصدر عن النبي حتى نأخذ به ، والقول التاريخي هذا : مجهول السند ومجهول المصدر ، كما ان له معارض تاريخي أخر هو قول المسعودي وقول اليعقوبي ، ومع التعارض في الأقوال يُسقطها جميعاً من الإعتبار ...
نعم ورد في القرآن المجيد ألفاظ من باب الافعال أو من باب التفعيل وهي تتحدث بإطلاق عن نزول القرآن ، وليس في هذه الألفاظ دلالة على التقييد بالنزول الدفعي أو بالنزول التدريجي ، كما في قوله تعالى : - كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته - ص29 .
وقوله تعالى : - تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا – الفرقان 1 .
ونحن لم نجد في هذه النصوص وغيرها مايفيد بخصوص النزول الدفعي أو النزول التدريجي ، بل هي نصوص مطلقة ، ولكننا في الوقت نفسه نجد أن في القرآن المجيد نصوص صريحة في الدلالة على النزول التدريجي ، كما في قوله : - وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث - الأسراء 106 .
وكما في قوله : - وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك - الفرقان 32 .
وكما هو ظاهر النصين المتقدمين يتبين بان القرآن قد نزل على التدريج وبالتتابع ، وبناءاً على القاعدة الأصولية : فيجب حمل المطلق على المقيد - أي حمل النصوص التي ذكرت النزول على نحو مطلق على النصوص التي ذكرت النزول على نحو مقيد ، أعني التي قّيدت النزول بالتدريجي ، وهذا يعني إن النصوص التي تتحدث عن النزول التدريجي للقرآن تفسر وتبين النصوص التي تتحدث عن النزول على نحو مطلق ، وبالنتيجة تكون النصوص المطلقة حاكية عن النزول التدريجي ..
كما إنه ليس في القرآن نص واحد يدل على النزول الدفعي - جملة واحدة – إذ ليس في القرآن نص يقول : إن القرآن نزل في شهر رمضان دفعة واحدة سواء إلى البيت المعمور أو إلى النبي محمد ، نعم ورد هذا فقط في رواية الصدوق ، وقد مر البحث فيها في الحلقة الماضية فلا نعيد .
نعم لقد نفى القرآن المجيد - النزول الدفعي - يظهر ذلك بقوله : - وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك - ، والكفار وهم في معرض الرد والنقد للقرآن ، قالوا : بانه لم ينزل جملة واحدة ، وفي نفس النص أجاب الله عن ذلك الرد بقوله : إنما ننزله عليك بالتدريج ، لنثبت به فؤادك .. فلو كان القرآن قد نزل جملة واحدة لما أعترض عليه الذين كفروا به ، ولم يقل القرآن في معرض الرد : إنني قد نزلته جملة واحدة ، بل قال : على عكس ذلك ، وبحسب اللفظ القرآني قال - كذلك - ثم تابع لنثبت به فؤادك ، وهذا واضح في معنى النزول التدريجي .
ولكن مالفائدة من قولنا بالنزول التدريجي للقرآن ، نقول : تظهر الفائدة حين نعرف بان النبي محمد والرسول محمد يحتاج في إثبات ما يدعيه إلى قول منسجم مع طبيعة الواقع الموضوعي الذي هو فيه ، ولا يكون ذلك ممكن فيما لو كان قد نزل عليه القرآن معداً في موضوعات وأحكام مسبقه لا ترتبط بالواقع الذي يعيشه النبي أو الرسول إنما هي مجرد أفتراضات ووجهات نظر ، وهذا ليس من الحكمة بشيء ، هنا نقول إن النزول التدريجي إنما هو حركة في سياق حركة النبي أو حركة الرسول ، وهذا الشيء واحد من دلائل الإعجاز ، وبناءاً على تلك المقدمات التي عرضناها يتبين لنا بان القرآن لم ينزل دفعة واحدة لا إلى البيت المعمور ولا على قلب النبي محمد ، ولا كذلك في مرحلة اللوح المحفوظ ، وكل ما قيل في هذا الشأن فهو من قبيل الأستحسان الذي لا دليل عليه من عقل أو نقل ...
ورد في الصحيفة السجادية قول منسوب لعلي بن الحسين جاء فيه : - والطائفين بالبيت المعمور .. - الصحيفة السجادية الدعاء رقم 3 .
وليس في العبارة ما يدل على إن البيت المعمور هذا هو نفسه الذي ذكره أبوهريرة في السماء ، بل إن المُراد هنا هو الكعبة المشرفة ، وبحسب منطوق الدعاء فإن طائفة من الملائكة تطوف حول الكعبة المشرفة ، يظهر ذلك في نفس الدعاء حيث يقول : - ومشيعي الثلج والبرد والهابطين من قطر المطر - وليس عندنا مايمنع من ذلك ، فطواف الملائكة حول الكعبة المشرفة أمر لا خلاف فيه ، ويؤكد ذلك ماورد في روضة الكافي عن الإمام الصادق إنه قال : - ليس خلق أكثر من الملائكة ، إنه لينزل كل ليلة من السماء سبعون ألف ملك فيطوفون بالبيت الحرام ليلتهم ، وكذلك في كل يوم - روضة الكافي ج2 ص141 .
وجاء في البحار عن محمد بن السائب إنه قال : - قال رسول الله ، لما عرج بي إلى السماء وأنتهيت في المسير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة فرأيت بيتاً من ياقوت أحمر ، فقال لي جبرئيل : يا محمد !! هذا البيت المعمور خلقه الله قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام ، فصل فيه فقمت للصلاة وجمع الله النبيين والمرسلين فصفهم جبرئيل فصليت بهم - بحار الأنوار ج36 ص155 .
وراوي هذا الخبر هو - محمد بن السائب الكلبي - الذي قال عنه أبن حجر العسقلاني : محمد بن السائب الكلبي كذاب يضع الحديث - تهذيب التهذيب ج9 ص180 إلى 187 - ، والكذاب في الرواية من لا يعتد به ولا يؤخذ عنه .
وجاء في بحار الأنوار عن يونس بن ظبيان قال : - إذا كان ليلة الجمعة أهبط الرب تبارك وتعالى ملكاً إلى السماء الدنيا ، فإذا طلع الفجر نصب لمحمد وعلي والحسن والحسين منابر من نور عند البيت المعمور ، فيصعدون عليها ويجمع لهم الملائكة والنبيين والمؤمنين ..- البحار ج52 ص297 .
وراوي هذا الخبر هو - يونس بن ظبيان - الذي قال عنه القهبائي : - يونس بن ظبيان كذاب فاسد المذهب يضع الحديث ، وإن كتبه وروايته فيها خلط وعباراته باطلة ، وقد ورد لعنه على لسان الإمام الرضا كما في الصحيح قوله : الآلاف اللعنات على يونس بن ظبيان - مجمع الرجال ج6 ص191 إلى 193 القهبائي .
والكذاب في الرواية لا يعتمد عليه حتى في المسائل الإجتهادية فمابالك بالمسائل القرآنية العالية ، والمحقق في رواية يونس بن الظبيان هذا يجد فيها الخبط والكذب والجعل واضح ..
وجاء في كتاب مشارق الأنوار للحافظ رجب البرسي مرفوعاً إلى أمير المؤمنين علي إنه قال : - أنا البيت المعمور ، أنا السقف المرفوع ، أنا البحر المسجوع ، أنا باطن الحرم - مشارق الأنوار ص 165 .
يقول العلامة المجلسي عن رجب البرسي وعن كتابه مشارق الأنوار ما مضمونه : - كتاب مشارق الأنوار فيه وهم كثير وغلو وخبط وخلط ، وإن مايرويه الحافظ رجب البرسي وحده لا يعتد به ولا يعتمد عليه - البحار ج1 ص 10 .
وجاء في أصول الكافي عن علي بن العباس إنه قال : - .. إن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخالق .... فيأتي على صف المسلمين في صورة رجل .......- أصول الكافي ج2 ص596 .
وراوي الخبر هو - علي بن العباس الخرازيني أو الجراذيني - قيل في حقه : إنه رجل خبيث فاسد المذهب ، غالي ، ضعيف جداً ، لا يعتمد عليه - مجمع الرجال ج4 ص 202 و203 .
ومما لا ريب فيه إن الفاسد المغالي لا يمكن الإعتماد على مايرويه حتى في مسائل الأكل والشرب ، أضف إلى هذا فمتن الخبر فيه تناقض وضعف في عباراته ، وهو في كل حال لا يشبه كلام أهل البيت ، لأن كلامهم فصيح بليغ ، وهذا ضعيف هش ليس فيه من البلاغة والفصاحة شيء يذكر ، وهنا لا يمكن لأحد القول : إن صحة المتن وقوته جابرة لضعف السند وهشاشته ...
ويجب قبل ان نُنهي هذا الحلقة من القول : إن يوم السابع والعشرين من رجب ليس هو يوم المبعث النبوي كما يُزعم فيه الإتفاق عند الشيعة الإمامية ، بل إنهم في ذلك قد تضاربت أقوالهم وهذا الشيخ الصدوق في كتابه المقنع قد قال : إن يوم المبعث النبوي هو يوم الخامس والعشرين من رجب ..
وجاء في أصول الكافي عن الحسن بن العباس إنه قال : - لقد خلق الله جل ذكره ليلة أول ما خلق الدنيا - أصول الكافي ج1 ص250 .
هذه الرواية وستة روايات أخرى قبلها وروايتين بعدها ، أي ما مجموعه تسع روايات كلها عن الحسن بن العباس بن الحريش الرازي ، الذي ورد ذكره في كتاب الأخبار الدخيلة للعلامة محمد تقي الشوشتري ج1 ص234و237 ، وقال عنه : إن رواياته التسع الواردة في أصول الكافي كلها مجعولة موضوعة ..
وهكذا قال عنه صاحب قاموس الرجال في ج3 ص182 ، وقال النجاشي : الحسن بن العباس بن الحريش الرازي أبو علي روى عن إبي جعفر الثاني ، كان ضعيف جداً له كتاب إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وهو كتاب رديء مضطرب الألفاظ - وقال أبن الغضائري : الحسن بن العباس بن الحريش الرازي ضعيف روى عن إبي جعفر الثاني ، فضل إنا أنزلناه في ليلة القدر كتاباً مصنفاً فاسد الألفاظ تشهد مخائله على إنه موضوع ، وهذا الرجل لا يلتفت إليه ، ولا يكتب حديثه - مجمع الرجال ج2 ص118 .
آية الله الشيخ الركابي