المؤلف الشيخ الركابي طبع في دمشق سنة 1997 وهو : [ دراسة موضوعية تحليلية تبحث بالدليل العلمي الفقهي عن الجهاد وعناصره في التنزيل والسنة ] الحلقة الأولى من - المدخل - الجهاد كما عرفته المعاجم اللغوية الجهاد : هو مصدر للفعل الرباعي - جاهد - على وزن - فعال - بمعنى المفاعلة وهي حركة من طرفين ... مثل قولنا خصام الذي هو بمعنى مخاصمة ومصدره خاصم ، وكالجدال بمعنى المجادلة ومصدره جادل .. وأما الفعل الثلاثي للجهاد فهو : - جهد - قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط : [ الجهد هو بذل الطاقة بالفتح ، وهو المشقة بالضم ] . وعرفه ابن منظور في لسان العرب بقوله : الجهد بالفتح يعني المشقة ، والجهد بالضم يعني الطاقة ، وعنده إيضاً الجهاد : هو إستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول وفعل .
وورد تعريف الجهاد في المنجد على إنه جاء من فعل : جاهد مجاهدة وجهاداً أي بذل وسعه .. والأصل فيه : بذل كل منهما جهده في دفع صاحبه .. وعرفه الكاشاني في بدائع الصنائع ج7 ص97 بقوله : وأما الجهاد في اللغة فهو عبارة عن بذل الجهد بالضم ويعني بذل الوسع والطاقة ويعبر عن المبالغة في العمل من الجهد بالفتح .. والجهاد حسب المعنى اللغوي هذا فهو عبارة : عن مفهوم عام مطلق يعني الصبر وتحمل الأعباء ، سواء أكان ذلك التحمل والصبر في طريق الخير أم في طريق الشر !! ومن هذا التعريف يتبين لنا بأن للجهاد طرفاً آخر ألاّ وهو : النفس أو الشيطان كما يقول صاحب القاموس الفقهي ص71 .. وللجهاد في عرف الروايات والأخبار معنى آخر هو أخص من المعنى اللغوي ، ويعني العمل الصالح الذي يبذله المرء من اجل الخير العام ، وأحد مصاديق هذا المعنى هو - جهاد النفس - الذي هو عبارة عن مجاهدة العبد هواه كما ورد عن الرسول محمد - ص - مخاطباً أصحابه قائلاً : قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، قالوا : يارسول الله وما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد القلب . !! وفي رواية : مجاهدة العبد هواه - كنز العمال ج4 ص116 رقم الحديث 117799. وللجهاد في دنيا الحياة مصاديق متنوعة منها مثلاً : صبر طالب العلم في تحصيله للعلم ، وصبر المرأة الشرقية لأذى زوجها لها ، وكل أنواع الصراع من اجل الحرية والعدل والسلام هو جهاد ، وردم الفتنة الطائفية جهاد والحفاظ على كرامة الإنسان جهاد وتحرير المرأة من الظلم جهاد وتقرير المصير للشعوب المضطهدة جهاد ، ورفع سوية الناس المعاشية والصحية والتعليمية جهاد ، ومناصرة المظلوم جهاد ، ومحاربة الطاغوت جهاد .. والحق إن موضوع بحثنا هنا هو الجهاد بالمعنى الفقهي الشرعي الذي هو المعنى الأخص لمفهوم القتال أو الحرب ، قال القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري ج5ص30: والجهاد في الاصطلاح يعني قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله - وقال صاحب البدائع ج7ص97: وأما الجهاد في عرف الشرع فهو بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل باللسان والمال والنفس أو بغير ذلك .. ونحن نلاحظ إن بعض الأخبار تستخدم لفظ الجهاد بالمعنى الفقهي بشكل مباشر ودون قرينة بيانية دالة على ذلك ، وأحياناً نجده مستخدماً من خلال قرينة دالة على ذلك .. ففي كلام لعلي بن أبي طالب يحث فيه الناس على قتال معاوية بقوله : أفًّ لكم لقد سئمت عتابكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً وبالذل من العز خلفاً ، إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة - نهج البلاغة الخطبة رقم 34 - . وهذا الكلام قرينة مقامية لبيان حالة الجو السائدة آنذاك ، الذي هو جو قتالي ، لذلك فيكون معنى لفظ الجهاد في كلامه يعني القتال بالمعنى الفقهي .. كما نجد المعنى ذاته واضحاً في خطبته رقم 27 التي قال فيها : أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه ، ألاّ وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم - وكلمة القتال هي قرينة في بيان قوله [ إن الجهاد باب من أبواب الجنة ] والمراد بالجهاد هنا معناه الخاص الذي هو القتال في سبيل الله .. والخطبة هذه هي في مقام تذكير الأمة بواجباتها الشرعية والأخلاقية وللوقوف بوجه التحديات التي تفرضها الفرق الجوالة التي كان يستخدمها معاوية للإغارة على أطراف الدولة الإسلامية ، أي إن هذا الكلام جاء بعد ما قام به سفيان الغامدي من الإغارة على ولاية الأنبار وقتله لحسان بن حسان البكري وإلي الأنبار وأزالته لخيل الخلافة عن مسالحها ، وسفيان هذا كان يدخل على المرأة المؤمنة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام .. إن إنتقال معنى الجهاد من المفهوم اللغوي إلى المعنى الفقهي الشرعي جعله دالاً مطلقاً على معنى القتال كما نقرئه في كتاب أبا عبيدة بن الجراح لعمر بن الخطاب يجيب فيه على كتاب قد بعثه إليه : - أما بعد فإن الله تبارك وتعالى قال [ أعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد .. ] قال فخرج عمر بن الخطاب بكتاب أبي عبيدة على الناس فقال : ياأهل المدينة إنما كتب أبو عبيدة يعرض بكم ويحثكم على الجهاد - مصنف ابن ابي شيبة ج5 ص335.. فكلمة الجهاد هنا في كلام عمر تعني القتال في سبيل الله ، وهذا المعنى هو المعنى المتبادر إلى ذهن السامع ، أي إنه قرينة مقامية دالة على واقع الحال . يظهر لنا بأن المعنى الفقهي للجهاد صار هو المعنى السائد ودلالته على القتال غدت الدلاله الأبرز . وقد جاء هذا المعنى مقرراً في كل كتب أهل الفقه والأصول ، حتى إنهم ربطوا بين الدعوة إلى الله بالقتال في سبيل الله تحت عنوان - الجهاد الأبتدائي - الذي يعنون به مقاتلة أهل الكفر من اجل إدخالهم في دين الإسلام ، ومن دون النظر إلى ما هم عليه سواء أكانوا أهل ذمة ومعاهدين أم أهل حرابة ومقاتلين !! ولأن هذا التقرير الفقهي خطير جداً أقتضى منا ملاحقته والبحث عن أصوله وقواعده الفكرية التي أسسته ، وهل يجوز في دين الله حقاً إدخال الناس عنوة في دين الإسلام ؟ وهل إن هذا الإتجاه الفكري جائز في كتاب الله وفي سنة رسول الله ؟ أم إن هذا هو مذهب فقهي صنعته ظروف زمانية ومكانية خاصة ؟! ولكي نجيب على هذا السؤال يلزمنا القول : بأن مفهوم - الجهاد الأبتدائي - هو مذهب فقهي وليس تنزيل إلهي ولا هو سنة مقررة ، يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه المجتمع المدني ص227 : إن الحافظ ابن كثير كان يقول [ الجهاد فريصة يجب القيام بها سواء أحصل من الكفار إعتداء على المسلمين أم لم يحصل !! ] يقول ابن كثير ج2ص5 والشافعي في كتاب الأم ج4ص168 : فعزم رسوالله على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه ، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله ، وقد قال الله تعالى : [ ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ] - التوبة 123 - . وكما قلنا يجب متابعة مفهوم الجهاد ومفهوم القتال وكيفية الدعوة إلى الله وهل تتطلب الجهاد الأبتدائي بحد السيف ؟ وهل تكون الدعوة إلى الله بهذا النحو مقبولة وتنم عن وعي ومنطق وعلم ؟ وهل الدعوة إلى الله بحد السيف مبررة أخلاقياً وقيمياً وإجتماعياً ؟ هذه الأسئلة ضرورية قبل الخوض في متاهات البحث من خلال النصوص والأخبار والفتاوى ، أعني قبل مناقشة تفاصيل مفهوم الجهاد ودلالاته . كما يجب التعرف على الدعوة إلى الله وهل تتطلب الجهاد الأبتدائي ليكون ذلك العمل قاعدة فقهية مقررة ؟ وهل الرسول محمد - ص - قد مارس هذا النوع من الجهاد في دعوته الناس إلى دين الإسلام ؟ ومعلوم إن الرسول محمد عاش في المدينة إحدى عشرة سنة هي سنوات الصراع مع أعدائه من الكفار والمشركين . والمؤسف إن بعض المدونات واللوائح الفقهية نصت وجزمت على إن كل معارك الرسول محمد كانت بأجمعها جهاداً أبتدائياً من أجل إلى الإسلام . من أجل هذا التدوين وهذا التقرير يلزمنا تفكيك وتحليل الخبر المنسوب لرسول الله - ص - والقائل : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ...] من حيث الدلالة والمضمون ومن حيث الوثوق والصحة التاريخية والروائية ، وهل يمكن إعتبار هذا الخبر دليل على صحة ممارسة رسول الله للجهاد الأبتدائي ؟ ..