إذا كانت عملية كتابة التاريخ من أكثر المهمات خطورة وحساسية بسبب استجابتها للضغوط السياسية المعاصرة أو الطارئة ، فإن هذه الحقيقة غالباً ما كانت تؤخذ أداة من قبل المؤرخين المستشرقين لتوجيه التهم إلى المؤرخين المسلمين والعرب ،
خاصة بقدر تعلق الأمر بتورخة حقبة صدر الإسلام والفتوحات وإذا كان بعض المستشرقين يدفع بمثل هذه التهم نحو "الشيوخ" من كبار المؤرخين المسلمين ، مدعين بأن هذا مؤرخ علوي الميولات وذاك مؤرخ أموي أو عباسي النزعات وما شابه ، فإن علينا الاعتراف الآن أن التورخة الغربية للإسلام هي الأخرى قد سقطت في فخ التأثيرات السياسية المعاصرة والمؤقتة درجة استخدام أو توظيف القراءات الجديدة لتاريخنا بطرائق مستوحاة من الحالة السياسية المعاصرة المهووسة بقضية مكافحة الإرهاب ويبدو للمتابع أن المؤرخ الأكاديمي الغربي "هيو كنيدي" Hugh Kennedy ( جامعة سانت اندروز، أسكتلندا- بريطانيا) قد وقع في هذا المطب ، مشوهاً سمعة التواريخ الغربية والاستشراقية للعرب والإسلام على نحو مثير للملاحظة .
ولأننا قد حظينا بشيء من التخصص في هذا الموضوع الحساس والمثير للاهتمام ، فإن علينا أن نلاحظ واحدا من أكثر فصول تاريخنا إثارة للاهتمام وللإعجاب في حركة رصد التاريخ الإسلامي في الغرب ، وهو فصل الفتوحات الإسلامية المبكرة : فقد أثارت هذه الفتوحات العظيمة تعجب وإعجاب جميع المؤرخين ورجال القلم الغربيين ، من المؤرخين الرومانسيين كـ "كارلايل" Carlyle و"إرفنغ" Irving إلى المؤرخين المحترفين من نمط "توينبي" Toynbee ، بوصفها ظاهرة فريدة لا يمكن أن تتكرر حتى في الحقب التالية. لقد لاحظ جميع المؤرخين الغربيين هول الفتوحات الإسلامية التي تحققت في فترة لا تزيد عن 15 سنة بعد وفاة الرسول الكريم ، محمد بن عبد الله (ص) ، إذ تمكن العرب المسلمون خلالها من تحقيق الانتصار على أعظم إمبراطوريتين في العالم القديم ، حيث تم القضاء تماماً على الإمبراطورية الفارسية ، بينما تحقق تحجيم كامل للإمبراطورية البيزنطية ، بعد ضم ثلث العالم المسيحي القديم لدولة الخلافة التي يعمد المؤرخون الغربيون إلى تسميتها "إمبراطورية" الخلافة، تتبعاً للمصطلح الغربي السائد بل إن حجم الإنجاز التاريخي راح يتبلور أمام العقل الغربي عبر مراجعة مكونات الجيوش الإسلامية التي تمكنت من هاتين الإمبراطوريتين : فقد تمكن ما يقارب من 30 ألف مقاتل عربي من فتح بلاد الشام بالكامل ، بينما تمكن حوالي 16 ألف مقاتل من فتح مصر ، في حين اكتفى المسلمون بـ10 آلاف مقاتل لفتح العراق حيث كانت عاصمة الإمبراطورية الكسروية بالقرب من بغداد اليوم وعبر القرن التالي لانتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية ، ظهرت جيوش المسلمين على حين غرة عبر مشارف الصين الغربية ، في حين ضمت جيوش أخرى شبه جزيرة إيبريا (إسبانيا والبرتغال اليوم) لتقاتل الإمارات التي كانت تحكم فرنسا آنذاك وقد كانت الدولة الجديدة من طراز جديد كذلك ، لأنها توحدت بدين واحد وعقيدة واحدة ، ضامة شعوباً كانت تدين بأديان قديمة واسعة الانتشار كالزرادشتية والبوذية والهندوسية ، زيادة على الديانتين المسيحية واليهودية .
إن محاولة الأستاذ كنيدي تفسير ظاهرة الفتوحات الإسلامية المبكرة بطريقة ملتوية مستوحاة من أهداف سياسية معاصرة تتجلى عندما يدعي أن مثل هذه الفتوحات ما كانت لتتحقق قط لو أن الرسول الكريم (ص) قد ولد قبل جيل من تاريخ ولادته الحقيقي ، ولو أن الخلفاء الراشدين (رض) قد فعلوا فعلهم التاريخي التالي قبل قرن واحد من تلك الحقبة ، حيث كانت الإمبراطوريتان البيزنطية والفارسية في أوج قوتهما ! وبطبيعة الحال ، يحاول كنيدي أن يمرر هذا الرأي باعتبار "التوقيت" الذي مكن المسلمين الأوائل من تحقيق هذه الفتوحات في زمن كانت فيه هذه الإمبراطوريات في أضعف حالاتها وحسبما يتكهن المؤرخ البريطاني ، فإن الفتوحات الإسلامية المبكرة جاءت في وقت انتشار الأوبئة والطواعين الفتاكة التي ألمت بمنطقة "الشرق الأدنى"، بمعنى منطقة هيمنة الإمبراطوريتين المذكورتين ، زد على ذلك حدوث صراعات بينهما وانقلابات داخلية وتفرقة طائفية ، قادت (جميعا) إلى بث المزيد من عوامل الضعف والهوان في نسيجهما ، الأمر الذي يبرر تمكن العرب الذين كانوا قبائل لا تلتوي ، من التوحد تحت راية دين واحد لفتح العالم القديم المتحضر بأسره .
إن الفتوحات الإسلامية التي تحققت على نحو موجتين عظيمتين (الأولى خلال الخمسة عشر عاماً الأولى بعد انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ، والثانية خلال قرن واحد) قد اذهلت أذكى العقول وأعمق المنظرين التاريخيين ، ليس بسبب اعتمادهم المصادر العربية الإسلامية التي بررت الظاهرة بطرائق عقائدية ودينية إسلامية ، ولكن بسبب استمكان الظاهرة كحالة استثنائية في التاريخ، حالة تعكس هول الإنجاز الذي يتحقق من خلال الوحدة القومية المستنيرة بدافع روحي واجتماعي توحيدي أما أن تظهر الآن قراءات جديدة مبتكرة ، مستوحاة من الحملة العالمية ضد الإرهاب ، على طريق طمس حقائق التاريخ وحرفها بوسائل يراد منها أهداف سياسية ، ولكن لا تاريخية ولا علمية ، فإن في الأمر ما يثير الشك والانزعاج إن العمل ضد الإرهاب والحركات الفكرية التي تغذيه لا يعني ولا يمكن قط أن يكون مبرراً للعبث بالحقيقة التاريخية ، خاصة بقدر تعلق الأمر بالمنجز العربي الإسلامي الذي أذهل أذكى العقول الغربية ، كما بقي نبراساً للأذهان العربية والمسلمة المستنيرة لذا يتوجب على الأكاديميين الغربيين ، قبل غيرهم ، التشبث بالحقيقة التاريخية وعدم الانجراف وراء المصطنع واللاتاريخي لأهداف سياسية مؤقتة وزائلة .
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي