مر عيد الأضحى المبارك في الأسبوع الماضي، وهو أكبر أعياد المسلمين حيث يقف الملايين منهم على جبل عرفات. يهللون ويكبرون بصوت رجل واحد من مختلف القبائل والشعوب ويحمدون الله على ما أنعم به عليهم من الإيمان والتوفيق والإسلام خاتم الرسالات. تتوالى الأعياد عبر السنين
تتوالى الأعياد عبر السنين. ويظل المعنى واحداً ثابتاً يتأكد في كل عيد، واللسان يردد "عيد بأية حال عدْت يا عيد"، نظراً للتفاوت الشديد بين دلالة المناسبة وواقع المسلمين، بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، بين المثال والواقع. وانحسار الفعل الإنساني المنوط بتحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم.
والدلالة العظمى لعيد الأضحى المبارك مستنبطة من اسمه "الأضحى" أي الضحية، (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) والواقعة معروفة تاريخية عند الفقهاء. والدلالة معروفة أيضاً، الإنسان قيمة مطلقة. حياته مقدسة.
يدافع الغرب عن حقوق الإنسان وينتهك حقوق الشعوب. أعطى العالم "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". في الغرب حقوق بلا واجبات. ولدينا واجبات بلا حقوق.
وقد رُفع المسيح أيضاً. وتغلبت الحياة على الموت، والرفع إلى السماء على الدفن في الأرض. والتضحية بالحيوان بديل عن التضحية بالإنسان. وقد كانت القرابين عند الساميين أحد مظاهر التقوى والعبادة. ومنها الختان في اليهودية والإسلام. ضحَّى قدماء المصريين بالإنسان في احتفال مهيب بعروس النيل حتى يعم الفيضان والرخاء. وأنقذ الإسلام الإنسان. ونسخ الأمر الأول الذي وقع في منام إبراهيم، عليه السلام، بذبح ابنه إسماعيل بأمر ثانٍ وهو التضحية بكبش تنفيذاً للأمر الإلهي، وفي نفس الوقت اعترافا بأن الإنسان قيمة مطلقة، وذبح الحيوان لإنقاذ الإنسان. بل إن بعض الملل والنحل أيضاً تحرِّم ذبح الحيوان كما هو الحال في الهند أو لدى جماعات الرفق بالحيوان الحديثة.
أما واقع المسلمين اليوم فهو على عكس ذلك. تتم التضحية بالإنسان والحيوان معاً. فكم من الزعماء والقادة تم اغتيالهم وتصفيتهم جسدياً بأيدي بعض النظم السياسية، ومثل عز الدين القسام وأحمد ياسين بأيدي العدو الصهيوني؟ وكم من أفراد المقاومة وزعماء المعارضة يتم تعذيبهم في السجون والمعتقلات؟ وكم من المعتقلين يتم احتجازهم طبقاً لقانون الطوارئ والحبس الاحتياطي؟ وكم من المواطنين يستشهدون في بالوعات غير مغطاة أو بصعق الكهرباء أو بأسلاك عارية في الطرقات أو بحوادث طرق غير ممهدة دون حد أدنى للأمان، أو من حرق قطارات أو تصادمها أو من غرق عبَّارات في البحار، أو من غرق قوارب محمَّلة بالهجرات غير الشرعية من الوطن العربي إلى شواطئ أوروبا؟
وكم من الفقراء يموتون جوعاً وقحطاً من المسلمين في السودان والصومال وتشاد ومالي وبنجلادش؟ وكم من عرايا الأجساد والمتشردين بلا مأوى يموتون من البرد والعراء؟ وكم من القوانين تسنُّها بعض الدول ضد الإنسان وإشباع حاجاته الأساسية في الغذاء والكساء والإيواء والتعليم والصحة وحرية التعبير، بحجة الخصخصة، ورفع الدعم، وقانون العرض والطلب، ومنطق السوق، ومتطلبات الجودة والكفاءة، والحفاظ على الأمن العام حتى يستقر النظام ويأتي المستثمرون هرولة لإنقاذ البلاد من الفقر والبطالة.
ونشأت جمعيات حقوق الإنسان كأحد تنظيمات المجتمع المدني. وظلت ضعيفة الأثر. وتوارت حقوق الشعوب لصالح حقوق الإنسان، وتهميش حقوق الجماعة لصالح حقوق الأفراد.
لم تتحول حقوق الإنسان إلى ثقافة شعبية عامة ربما نظراً لتهميش تراث الإنسان في موروثنا الثقافي الديني القديم. فقد غاب مبحث الإنسان كمفهوم مستقل في تراثنا القديم. وظهر بصورة مغلفة داخل مفاهيم دينية وفلسفية وصوفية وفقهية أخرى. الإنسان في صورة الكمال في علم أصول الدين. فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة صفات تضفى بمعنى ما على الإنسان، وإن أطلقت على الإنسان مجازاً فقط. وظهر الإنسان عند بعض الصوفية في نظرية "الإنسان الكامل" الذي تتحد فيه أيضاً الصفات عند ابن عربي والجيلي. وظهر الإنسان في علوم الحكمة أي الفلسفة كنفس وبدن أو روح وجسم بين الإلهيات والطبيعيات، جسم في الطبيعيات وعقل في الإلهيات، وليس الإنسان الواحد الوجودي الموجود في الزمان والمكان. فالإنسان بين عالمين كما قال الكندي. كما ظهر الإنسان العامل في الفقه الذي ينفذ الأوامر ويجتنب النواهي بدافع الطاعة والإيمان والتقوى والعمل الصالح.
وقد ذكر الإنسان في القرآن الكريم خمساً وستين مرة مما يدل على أنه موضوع رئيسي. فقد خلق الإنسان ولكنه عُلّم البيان، (خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) خُلق هشاً ضعيفاً متعجلاً، لا يعي الزمان، تحركه الدوافع، وتسيره الانفعالات. يطلب العون في ساعة الشدة، شاكياً، جاهلاً مجادلاً، وسواساً، متأملاً، ناسياً. يترصد له عدوه الذي ينكر كرامته ويرفض أن يسجد له. ويهدد قيمته ووجوده. وهنا تبرز مسؤولية الإنسان وتحمله الأمانة، (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)، ومع ذلك يتحول الإنسان الهش إلى إنسان صلب. يحقق الكمال في الأرض، يحترم والديه احترام الإنسان للإنسان، (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً) وهذا ما حاولت الحركات الحديثة إبرازه خاصة الشاعر العظيم محمد إقبال.
لذلك ظل الغرب يزهو علينا بأنه وحده الذي أعطى العالم مفهوم حقوق الإنسان منذ نشأة النزعة الإنسانية في القرن السادس عشر عند أراسموس والكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر... إذن أنا موجود" في القرن السابع عشر، والإنسان مركز الكون في الثورة الكوبرنيكية عند كانط، ومثال من مُثل التنوير في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. وصور الشعراء كما فعل شيلي في "برومثيوس طليقاً" بعد أن قيده "إله" اليونان لأنه أراد سرقة نار العلم ونور المعرفة.
صحيح أن الإنسان هو الإنسان الغربي في الممارسة، الإنسان الأبيض القوي المتحضر، النموذج الأوحد، السوبرمان، وليس الإنسان الأفريقي الآسيوي، الأسود أو الأسمر أو الأصفر. وصحيح أيضاً أنه مجرد فرد لا جماعة. يدافع الغرب عن حقوق الإنسان وينتهك حقوق الشعوب. أعطى العالم "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" ولكنه نسي "الإعلام العالمي لواجبات الإنسان". في الغرب حقوق بلا واجبات. ولدينا واجبات بلا حقوق.