بعيداً عن الخلط والتعميم اللذين تقوم بهما أوساط وقوى ومؤسسات غربية، سياسية وإعلامية وفكرية بعضها عن قصد وبعضها الآخر عن جهل، خلط بين الحالة الإرهابية: فكراً وشبكة وأطيافاً وممارسة من جهة،
وقوى سياسية واجتماعية وتحريرية وطنية إسلاموية من جهة أخرى، يبقى الإرهاب واقعاً مخيفاً ومرضاً خطيراً ينخر الجسم المجتمعي والسياسي العربي والإسلامي، ولا يمكن ولم يعد من الجائز التعامل معه عبر النظريات التآمرية أو التبسيطية التي تهدف كلها إلى ترحيل المسؤولية أو تجهيل المسؤول الموضوعي عن انتشار هذا المرض.
من باكستان التي جاءت أزمة المسجد الأحمر بمثابة جرس الإنذار الذي يعلن التحول من حالة التوتر المكبوت بصعوبة إلى حالة المواجهة والصدام مع قوى التطرف، إلى أفغانستان التي تسقط من جديد وكأن هذا قدرها في حالة الفوضى لاحقة بالعراق الذي سبقها بأشواط، ويكفي غياب الدولة أو سقوطها الفعلي ولو بقيت اسمياً وشكلياً مع اهتراء المجتمع وتفككه من خلال الصراع والحرب بين مختلف مكوناته، لتشكيل قاعدة جذابة سياسياً ومادياً للحالة الإرهابية ومصدراً أو منصة انطلاق أو حديقة خلفية للإرهاب.
النمط الجديد الذي يتبلور يتمثل في اتجاه الإرهاب غرباً، انطلاقاً من أفغانستان بالأمس ومناطق الحدود الأفغانية الباكستانية، نحو العراق ثم نحو شاطئ المتوسط من طنجة إلى طرابلس. نسمع عن قاعدة بلاد المغرب الإسلامي، وقاعدة أرض الكنانة، وقاعدة غزة، ثم لبنان تحت مسميات مختلفة.
قد يكون بعض هذا الوجود المتوسطي ما زال اسماً إعلامياً أو تعبوياً، وقد يوظف في صراعات إقليمية لأهداف مختلفة، ولكنه أخذ في الترسخ كجزء من المشهد السوسيولوجي السياسي على الشاطئ الشرقي الجنوبي للمتوسط، المتصل جغرافياً والمتواصل مجتمعياً مع أوروبا، أرض صراع الحضارات كما هي النظرة إليها في الفكر المتطرف.
مع انتقال مركز القلب في الحالة الإرهابية من أفغانستان إلى العراق، ازدادت تلك الحالة نشاطاً وحيوية وانتشاراً وتطوراً، سواء في القدرة التعبوية أو إقامة الشبكات، وذلك بسبب مركزية العراق مقارنة بأفغانستان في العالمين العربي الإسلامي وطبيعة الصراع الدائر في بلاد الرافدين، من حيث حدته وشدته وصور المواجهة العقائدية والثقافية والحضارية والسياسية التي يمكن أن تحمل لهذه الصراعات الدائرة والمتداخلة فيما بينها في العراق.
أضف إلى ذلك بالطبع تطورات الأوضاع السياسية وولادة بؤر أزمات جديدة وازدياد التوترات والانسدادات في البؤر الأزموية القائمة، كلها عناصر تدفع نحو مزيد من الراديكالية وتزيد بالتالي من جاذبية فكر التطرف بأشكاله المختلفة، الفكر الذي يشرعن الإرهاب.
ولنتذكر أن الإرهاب هو فكر وإيديولوجيا قبل أن يكون حركة ونشاطاً وسلوكية. فكر يدعي التفوق الأخلاقي والقيمي على الآخر أياً كان ذلك الآخر الغريب والبعيد، إلا أنه خائف من الآخر ومخوف له في الوقت ذاته. خائف إذ لا يستطيع التفاعل مع الآخر إلا بالصراع المطلق والكلي.
فكر يقوم على العدمية والانقطاع عن العالم والنظر إليه كشر مطلق ضمن ثنائية الخير والشر. فكر يتجاهل في نظرته إلى الآخر وجود اتجاهات وحساسيات وأولويات مختلفة وتناقضات سياسية ومصلحية وفكرية، ويختصر ذلك كله في وحدانية العدو ليرتبط معه في علاقة صراع كلي قائم على الإلغاء والإخضاع الذي يمثل الانتصار الكامل.
فحالة الغضب والمهانة والبؤس والقهر والإقصاء والتهميش على كافة أصعدة الانتماء، مهما كانت شرعية، لا تبرر إيديولوجية القتل العدمي الذي يشوه في نهاية الأمر مشروعية تلك المشاعر. شعوب كثيرة منها عربية وإسلامية عانت في الماضي ويعاني بعضها حالياً، تجارب الاستعمار والاستغلال بأشكالها المختلفة والمشاعر التي تولدها هذه، ولكن لم يكن الرد عبر إيديولوجيات عدمية.
بالأمس كان التجاهل أو الإدانة اللفظية هو الرد على الإرهاب عندما كان ناشطاً فقط في «الخارج» بعيداً عن أرض العرب لكنه اليوم صار ناشطاً على أرض العرب، متبعاً استراتيجية إقليمية ومحلية محاولاً مصادرة المسألة العراقية، وراهناً محاولاً الدخول على خط المسألة الفلسطينية.
«إنجازات» الإرهاب في الخارج توتر علاقات «الآخر» مع العرب، وتؤثر سلبياً في صورة العرب والإسلام وقضاياهم ومصالحهم، وتوفر ورقة ثمينة جداً في يد أعداء العرب والإسلام طالما بقيت الإدانة خجولة أو خافتة ومرفوقة دائماً بشكل عام بتفسيرات تبدو تبريرية أو تخفيفية في حالات كثيرة وتتهرب من مواجهة المشكل عبر نظريات المؤامرة. فإذا لم يكن من الجائز السقوط في سياسة جلد الذات، فإنه من غير الجائز أيضاً تبرئة الذات بشكل كلي وتلقائي.
صار المطلوب إدانة مبدئية أخلاقية ودينية وفكرية واضحة وحازمة، والمطلوب ما هو أبعد من ذلك أيضاً. المطلوب بلورة مقاربة شاملة لا تكتفي بالجانب الأمني، وهو أساسي في مكافحة الحالة الإرهابية، في حين أن الجوانب الأخرى تساهم ولو بشكل غير مباشر في تغذية أو تخصيب البيئة التي ينتعش فيها الإرهاب فكراً وممارسة. المطلوب مقاربة شاملة تركز على المجالين التعليمي والثقافي بشكل أساسي، لمحاربة الفكر الذي يولد ويشرعن ويشجع كما يبرر الإرهاب.
وإذا تذكرنا أن الإرهاب يمثل انقطاعاً عن السياسة وينمو بشكل خاص في ظل غياب الفضاء السياسي، الذي يعني عملياً غياب ثقافة وتقاليد الحوار والاختلاف والتعددية والبحث عن أجوبة ممكنة وذات مصداقية وفعالية وتخضع للمساءلة المجتمعية قبل المؤسسية لمعالجة المشاكل والتحديات، فغياب السياسة يفتح الباب أمام الإيديولوجيات المطلقة وذات الأجوبة الجاهزة والمعلبة والجذابة، طالما أنها لا تخضع «لامتحان» الفضاء السياسي الذي تتسم به المجتمعات الحية والدينامية.
إن الجواب التعليمي والثقافي والفكري لن يأتي بالطبع بالحل الناجع بين ليلة وضحاها لمرض الإرهاب فكراً وممارسة الذي يتفشى في عالمنا العربي، لكنه يبقى الجواب الوحيد القادر على إحداث المناعة المطلوبة في الجسم العربي، للتخلص من هذا المرض فنقضي عليه، إذا ما تحلينا بالشجاعة الفكرية والنقدية المطلوبة قبل أن يقضي على مستقبلنا.