انتقد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية، عدم التوصل لأية نتيجة فعلية في طريق تحقيق السلام بالمنطقة حتى الآن رغم الزخم الدولي حول التصريحات الإعلامية قائلا
“إننا نسمع جعجعة ولا نرى طحينا”. ووصف موسى التحركات الدولية الخاصة بعملية السلام بأنها مثل “الرحى التي لا تنتج طحيناً”، وذلك تعليقا على التصريحات الصحافية والرحلات المكوكية لمسؤولين غربيين في الفترة الأخيرة. وأكد موسى أن الجانب العربي ليس في نيته أن يظل في دائرة مغلقة “كالساقية تلف من دون نتيجة” لكنه أعرب عن أمله في أن تسفر الكثير من الأحاديث والتحركات عن نتيجة فعلية.
ولكن ما مناسبة انفعال موسى وتعليقه الساخر على مهام دولية تشهدها المنطقة يتعلق معظمها بعملية السلام؟ المناسبة هي قيام توني بلير مبعوث اللجنة الرباعية الدولية بزيارة للأراضي الفلسطينية و”إسرائيل” في أول مهمة له منذ تعيينه في منصبه الجديد. ويقلل مراقبون من فرص بلير في تحقيق أي تقدم سياسي في ظل تباين المواقف الفلسطينية من جهة ونية “إسرائيل” حسب مصادر سياسية “إسرائيلية” تهميش دور بلير في المنطقة والحيلولة دون تدخله في قضايا الحل الدائم وفي المفاوضات مع الفلسطينيين. وستهتم “إسرائيل” فقط بأن تقتصر مهمة بلير على التعاون مع السلطة الفلسطينية لبناء مؤسسات السلطة وتعزيزها. ولذا حرصت “إسرائيل” على احاطة زيارة بلير بدفء كبير وعلني في مسعى منها لاستمالته إلى جانبها، لقناعتها أنه خير وسيط وصديق ل “إسرائيل” حتى إنه أفضل من كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية. ورأينا كيف تعمد رئيس الوزراء “الإسرائيلي” إيهود أولمرت استقبال ضيفه وصديقه بلير بحفاوة على مأدبة عشاء. وأكد سدنة الحكم في “إسرائيل” في محادثاتهم مع بلير أهمية حصر مهمته في بناء مؤسسات السلطة الفلسطينية وخصوصا الأمنية منها، باعتبارها “مصلحة “إسرائيلية” محضة”.
ف “الإسرائيليون” لم يستقبلوا بلير بحفاوة، إلا بعد أن اطمأنوا له وأنه لن يسبب لهم إزعاجا كأسلافه مثل جيمس وولفنسون وألفارو دوسوتو، كما انهم رأوا فيه خير وسيط يستطيعون من خلاله تمرير رسائل للعالم تقول إن “إسرائيل” راغبة حقا في التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين وأنها ليست معنية بمواصلة احتلال الضفة الغربية، كما أنها معنية بصدق بتدعيم مكانة الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وتضع “إسرائيل” في حساباتها العلاقة الحميمة التي تجمع بين بلير وجورج بوش، ومن هنا تدرك أن بلير سيكون منحازا لأفكارها وطروحاتها عندما يرفع ملف عملية السلام الى الرئيس الأمريكي. فعلاقة “إسرائيل” مع جيمس وولفنسون المبعوث الاسبق للجنة الرباعية لم تكن جيدة، وهو الذي استقال بسبب احباطه من التصرفات “الإسرائيلية”، ومن هنا جاء التدليل “الإسرائيلي” لتوني بلير في زيارته الأخيرة ما يعني أنها ستعمل على تفادي تعرضها لانتقادات منه حتى لا يسبب لها الإزعاج أو الإرباك.
وتتلخص مهمة بلير في الاهتمام بأن تكون السلطة الفلسطينية قوية وأن تهتم بالسكان، ولكن في ما يتعلق بقضايا الحل الدائم فهذا ليس دوره. وهذا ما تعتقده السلطة الفلسطينية فعلا والتي لا تعول على دور بلير السياسي، لكنها تأمل في أن يتمكن من استغلال علاقته بالرئيس الأمريكي بوش في تطوير مهمته إلى بحث قضايا الحل النهائي.. فمهمة بلير بالأساس محدودة، وستتركز في مجال بناء المؤسسات الفلسطينية وتحسين الوضع الاقتصادي حسب ما أراد له الرئيس الأمريكي و”إسرائيل”. ويبقى الدور السياسي بيد الجانب الأمريكي في المنطقة. فبالرغم من مطالبة عشرة وزراء خارجية دول من الاتحاد الأوروبي بأن يكون لبلير دور سياسي الا أن هذا المطلب الأوروبي لم يحظ بقبول أمريكي لأن الأمريكيين و”الإسرائيليين” لا يريدون له أي دور سياسي.
مجيء بلير إلى ساحة الشرق الأوسط كممثل للجنة الدولية بعد رحيله عن رئاسة الحكومة البريطانية قد يكون هدية تقاعد من حليفه الكبير جورج بوش، وقد يكون قراراً أمريكياً مدروساً لقطع الطريق على بيل كلينتون بعد أن كشفت هيلاري كلينتون عزمها على إعادة تكليفه بملف السلام الفلسطيني “الإسرائيلي” في حال فوزها في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. والثابت أن الإدارة الجمهورية عملت بنصيحة وزيرة خارجيتها، كوندوليزا رايس، في فرض هذا التعيين المفاجئ لبلير كممثل وليس كمبعوث للجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط، وهو ما يوحي برغبة دفينة في تحقيق هدفين مزدوجين: أمريكياً، استنساخ بديل لبيل كلينتون الذي تم ترشيحه من قبل لتولي المنصب. وبريطانيا، خلق قناة أخرى للدبلوماسية البريطانية في الشرق الأوسط متمايزة عن سياسة وزير خارجيتها الجديد، ديفيد ميلبنك إن لم تكن مغايرة لها.
أما توني بلير يريد من مهمة الوسيط، تبييض صفحة تاريخه في العراق التي لا تقربه إلى قلوب العرب والمسلمين بتحقيق إنجاز سلمي في فلسطين على غرار إنجازه في ايرلندا الشمالية.
ليس لدينا أي دليل على ان بلير سيعصف ذهنه من أجل تنشيط عملية السلام، فممثل اللجنة الرباعية يردد ما يمليه عليه البيت الأبيض. وهنا باستطاعتنا تقديم الدليل على هذا وهو ما أكدته رايس التي رفضت قبيل الاجتماع الأخير للرباعية في برشلونة طلبا أوروبيا بتوسيع مهام بلير. وقد اقترح المطلب الأوروبي أن تتضمن مهام بلير التهميد لإحياء مفاوضات السلام المجمدة بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، في حين أكدت رايس أن بلادها مصممة على مواصلة الإمساك بملف عملية السلام. بلير من جانبه تماشى مع الرغبة الأمريكية وأكد لمحمود عباس خلال زيارته للضفة الغربية أنه يحمل تفويضاً اقتصادياً فقط، ولكنه يأمل بتطويره ليكون سياسياً أيضاً، وهذا ما دفع صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين إلى توجيه اللوم إلى بلير والقول إن التفويض الاقتصادي يجب أن يتكامل مع تفويض سياسي، لأن القضية الفلسطينية قضية سياسية في المقام الأول وان الاقتصادي منها يلازم السياسي. فبلير هو شريك بوش في خطط تمزيق وتدمير العراق وحصار شعبه وتجويعه وتدمير بنيته التحتية وزرع بذور الفتن والشقاق بين أبناء الشعب العراقي. وبلير هو رجل الحرب الظالمة وهؤلاء لا يصلحون أن يكونوا رسل سلام.