منذ أعوام أقامت الهيئة المصرية العامة للكتاب ندوة ركزت على تحليل النتائج المدمرة للخراب الذي لحق بوضع الفئات الوسطى ليس في العالم العربي وحده أو البلدان النامية وحدها، وإنما على المستوى العالمي كذلك نتيجة استشراء نفوذ ما بات يدعي «الليبرالية الجديدة» التي تستعير من الرأسمالية أدواتها القديمة القائمة على تسييد مبدأ الربحية كحاكم أوحد
كانت بلدان عربية عديدة في السنوات الأخيرة مسرحا لحروب أهلية دامية أو في حالة حرب مع بلدان أخرى تركت آثارها المدمرة على الفئات الوسطى.
هذا ما حدث في لبنان مثلا التي تدهورت فيه الحرف الصغيرة، وكذلك النشاط الخدماتي الذي ميزه في سنوات ما قبل الحرب، والذي كان يستوعب في بنوكه وشركاته وفنادقه أعدادا كبيرة من متوسطي الحال، عدا ما فعلته الهجرات وحالات النزوح الواسع من القرى الجنوبية إلى ضواحي بيروت وقلبها تحت ضغط العدوان الإسرائيلي لتشكل حزاما ريفيا اثر ويؤثر بشكل حاسم في مجريات البلد.
وهذا ما حدث في العراق حيث أدت عسكرة المجتمع ودفع الآلاف المؤلفة إلى الجبهة في سنوات الحرب مع إيران ومن ثم في الحرب في الكويت وحولها، واستيعاب المؤسسة العسكرية والأمنية لمئات الآلاف إلى آثار وخيمة على بنية المجتمع واقتصاد البلاد، دون أن ننسى أمثلة الجزائر والسودان واليمن وغيرها.
ومن عوامل تراجع مكانة ودور الفئات الوسطى، وانكفاء خطابها السياسي العلماني المتنور هو خيبة أملها المرة في الأنظمة التي حكمت باسمها وعلى مدار عدة عقود في دول عربية مفصلية سواء في المشرق أم في المغرب العربي. لقد انتهت تجربة هذه الأنظمة، كما هو جلي اليوم، إلى مأزق لا مخرج منه، حين أخفقت في انجاز خطط التنمية وفي دمقرطة المجتمع وفي تحرير الأراضي العربية المحتلة وفي تحقيق الوحدة العربية، وهي مجموع الشعارات التي رفعتها وحكمت باسمها.
منذ أعوام أقامت الهيئة المصرية العامة للكتاب ندوة ركزت على تحليل النتائج المدمرة للخراب الذي لحق بوضع الفئات الوسطى ليس في العالم العربي وحده أو البلدان النامية وحدها، وإنما على المستوى العالمي كذلك نتيجة استشراء نفوذ ما بات يدعي «الليبرالية الجديدة» التي تستعير من الرأسمالية أدواتها القديمة القائمة على تسييد مبدأ الربحية كحاكم أوحد، وتعيد النظر في الضمانات الاجتماعية والمكتسبات التي نالتها الفئات الوسطى والعاملة في صراعها المديد مع أصحاب رؤوس الأموال، وتطال إعادة النظر هذه حقولا مهمة كالتعليم والصحة والإعانات المعيشية والاجتماعية والخدمات الثقافية والترفيهية وإلغاء الدعم على الأسعار وتجميد الأجور وتحرير التجارة الخارجية وبيع القطاع العام.
بعض أوراق الندوة المذكورة لفتت النظر إلى جانب على قدر كبير من الأهمية لم يجر الالتفات إليه من قبل بعناية، هو أن الخراب الذي لحق ويلحق بالفئات الوسطى في الدول الغربية هو إحدى نتائج أفول فترة الحرب الباردة، خاصة في فترة صعود الريغانية في الولايات المتحدة والتاتشرية في بريطانيا، وهو صعود وجد محاكاة له في بلدان غربية أخرى.
وهذه خلفية مهمة للتعرف إلى جانب آخر من أسباب تآكل الفئات الوسطى في بلداننا مع الاستقطاب الاجتماعي العنيف الذي أدى الى تآكل مدخراتها مع بروز نخبة صغيرة تتجمع في أيديها مصادر السلطة والثروة مقابل قطاعات اجتماعية هائلة العدد واسعة الامتداد تكابد من اجل الظفر بلقمة العيش، وتجد في التمسك ببواعث الهوية الثقافية والتاريخية ملاذا وباعث طمأنينة لها خاصة عند الذرى التي تصل إليها الأزمات في هذا البلد العربي أو ذاك.
حسب معطيات إحصائية حديثة، فإنه من بين المليار نسمة الذين يشكلون سكان الهند اليوم يبلغ عدد من يمكن أن نعدهم في قوام الطبقة الوسطى نحو مائتين وخمسين مليون نسمة، أي بالضبط ربع السكان، وبالتالي علينا ألا نبدي اندهاشاً كبيراً حين نرى الهند تحقق معدلات النمو الكبيرة التي دفعت بها إلى مصاف الدول الأكثر نمواً في العالم في السنوات الأخيرة. والطبقة الوسطى وحدها ليست سبباً كافياً لتحقيق النهضة، ولكن وجودها المتين والراسخ في أي مجتمع يضمن له التطور المستقر، ويحميه من الهزات الاجتماعية الكبيرة، هذا فضلا عن انه يوفر القاعدة البشرية المؤهلة لأن تكون مرتكزاً مكيناً للعطاء في مجالات التنمية والإبداع والثقافة والتقدم الاجتماعي، لان هذه الشريحة هي الأقدر، من بين شرائح المجتمع، على أن تدفع بفكرة الحداثة إلى الأمام.
وتبدو محقة التحليلات التي تذهب في تفسير أوجه التدهور في أوضاعنا العربية في توقفها أمام حقيقة أن تدهور أوضاع الفئات الوسطى، من بين الأسباب الرئيسية لهذا التدهور العام.
لن يمكن إغفال حقيقة أن هذا الاستقطاب الحاد بين الغنى والفقر في العالم العربي، واتساع قاعدة الفئات المعدمة، التي تنضم إليها أعداد واسعة ممن كانوا في قوام الفئات الوسطى، أفقروا بسبب تآكل مدخراتهم بفعل التضخم بأسبابه الداخلية والخارجية، وانخفاض القدرة الشرائية للرواتب أمام زيادة الأسعار، تسهم في إيجاد ظروف التوتر الاجتماعي التي تطبع الحياة اليوم في أكثر من بلد عربي وتعرضها لانفجارات حادة قد لا تكون السيطرة عليها ممكنة.