إن وقع كلمة "الليبرالية" على مستمعيها تعطي إنطباعاً عاماً عن كلمة "التحرر". وبما أن "التحرر" كمصطلح من الممكن أن يكون وسيلة لتبرير تصرفات شتى، فإن مصطلح "الليبرالية" أصبح إلى حد ما ذو شعبية بين الشباب بسبب الإيحاء بإنعدام القيود، وأصبح أيضاً هدفاً لحرب مضادة من الجماعات الدينية، المعتدلة منها والمتشددة،
إما بسبب هذا الإيحاء وهو الأغلب، او بسبب المبدأ العلماني الذي يتبناه كل ليبرالي بالضرورة. ولكن كلمة "التحرر" بالمعنى الدارج العامي، وبالتأكيد ليس بالمعنى الوطني، ذو صلة مباشرة بالأخلاق، وهذا لسوء الحظ. فقط إسأل أي شخص هنا في الكويت عن رأيه، مثلاً، في تلك الفتاة. فإذا كانت الإجابة تتضمن كلمة "متحررة"، فإن الأرجح هو أن المقصود صفة ذم. فإذا ألححت بالإستفسار عن المقصود بكلمة "متحررة"، أتتك الإجابة إما على شكل نوعية تصرفات أو ذوق معين للمظهر العام، مما يوحي للسامع بأن تلك الفتاة تملك حدوداً أرحب وأكثر سعة لبعض المفاهيم الدينية والأخلاقية وذلك على حسب فهم وتصور من أعطى الرأي.
ذلك الربط بين مصطلح "التحرر" (الليبرالية) والاخلاق بصفة عامة أوقع الكثير من الليبراليين، وخصوصاً الجدد والشباب، في حيرة من أمرهم. فأول ما يتبادر إلى الأذهان هو هذا السؤال: ما هو موقفي، كليبرالي، من هذا التصرف أو ذاك؟ وهل علي أن أتقبل كل أنواع التصرفات الأخلاقية ونقيضها، إن صح هذا التعبير، إذا لم يكن هناك تعدي فيه على الآخرين؟
قبل الإجابة على هذين السؤالين، يجب علينا أولاً أن نتطرق إلى الليبرالية كنظام عام. الليبرالية بصفة عامة تأتي من تمازج ما يسمى Non-Conformance (أي عدم تكييف المرء نفسه وأفعاله جبراً وفقاً لأفكار وأعراف الآخرين. سواء كان الآخرون أفراد أو نظم أخلاقية بإختلاف مصادرها)، وما يسمى Independence (أي التركيز على الجهد أو المبادرة الشخصية على حساب الذوبان في المبادرات والجهود الجمعية). وللسهولة سوف أطلق على مصطلح Non-Conformance كلمة "رفض التكيف الفكري الجبري"، وعلى مصطلح Independence كلمة "الفردية".
لنتطرق أولاً إلى مصطلح "رفض التكيف الفكري الجبري". في البداية يجب أن أنبه إلى حقيقة مهمة. ما سوف أسطره الآن هو وصف لمصطلح عام ولا يعني بالضرورة أنه يعكس توجهات كافة التيارات الليبرالية الفاعلة أو الحاكمة في العالم. هذا شرح مجرد مطلق، يخضع بالتأكيد لعمليات التقييم والتقنين طبقاً للمجتمع موضوع النقاش. وإذا أردت الدليل، فقط أنظر إلى الصراع في الولايات المتحدة بين المعارضين والمؤيدين لقوانين الإجهاض، وكمثال ثاني، محاولات الحكومة الأمريكية مؤخراً لتنقيح الدستور لصالح تعريف الأسرة على أنها بين رجل وإمرأة، في محاولة منها لإجهاض مشاريع القوانين المؤيدة لحقوق الشواذ والمثليين. فإذا وضح هذا التنبيه، فلا يبقى محل لتساؤل أو لتنابز مع الليبراليين من أطراف اخرى بأن هذا المصطلح هو بالضرورة يعكس توجهاتهم تماماً كما هي.
بعد هذا البيان أقول: في "رفض التكيف الفكري الجبري" يكون الفرد محكوم فقط بما يختاره هو (هي) من معايير أخلاقية حتى وإن إختلفت مصادرها أو تعارضت توجهاتها، بشرط ألا تخالف القوانين المعمول بها في مجتمعه. فالأفراد، تحت هذا المصطلح، من الممكن أن ينظروا إلى كافة الأعراق والأديان والثقافات والأعراف على أنها متساوية ولا يفوق أحدها الآخر بالأهمية. وبالتالي هم يختارون ما يشاؤون منها (معايير أخلاقية) لتحكم حياتهم الشخصية. وهذا يسمى أيضاً Flat Moral Order أي نظام أخلاقي متساوي. ميزته هي تنوع المصادر التي تغذي هذا النظام الشخصي ولا يكون بالضرورة حكراً على نظام أخلاقي واحد. مساوئه، أنه متغير ويخضع للذوق الشخصي والذي من المحتمل أن يضع الفرد في مكان تصادم مع مجتمعه وأحياناً مع القانون نفسه.
أما مصطلح "الفردية"، فهو فيما أعتقد أنه واضح ولا يحتاج إلى إسهاب في الشرح. هو يتركز على الجهد الشخصي بحيث يجعل الفرد في غنى نسبي عن المحيط الذي يعيش فيه (مالياً، مثلاً). فالأفراد في مضمون هذا المصطلح تكون مطالبهم، مثلاً وليس بالضرورة كلها، الحرية الإقتصادية، تقليل الضرائب، ملكية الأسلحة الشخصية، تقليل سلطات الدولة على الأفراد والمجتمع...الخ.
إذن الليبرالية هي تمازج بين "رفض التكيف الفكري الجبري" و "الفردية" بدرجات متفاوتة تخضع لمعايير مختلفة في المجتمع موضوع النقاش. وهذا يؤدي بالضرورة إلى أن المجتمع الليبرالي يتواجد فيه أشخاص أو فئات ذات قناعات وتصرفات أخلاقية متعددة، وليس بالضرورة أن تكون هذه الممارسات موضع قبول ورضى من الأفراد أو الفئات الأخرى في نفس المجتمع. وهذا بدوره يرجعنا إلى السؤالين الذَين طرحناهما في بداية المقالة، وهما: ما هو موقفي، كليبرالي، من هذا التصرف أو ذاك؟ وهل علي أن أتقبل كل أنواع التصرفات الأخلاقية ونقيضها، إن صح هذا التعبير، إذا لم يكن هناك تعدي فيه على الآخرين؟
الجواب، وبكل بساطة، هو: القانون. أحد المبادئ الأساسية في الليبرالية هو سيادة القانون على الجميع وبلا إستثناء. وبالتالي فإن الليبرالي هو بالضرورة إنسان يعمل طواعية في إطار القانون وضمن حدوده العامة لهذا المجتمع ولا يخالفه. ولنأخذ مثال هنا عن المجتمع الكويتي. القانون في الكويت يجرم الإتجار وتعاطي الخمور. إذن الليبرالي الحقيقي والذي يؤمن بالمبادئ العامة للليبرالية ومنها المبدأ الأساسي بسيادة القانون على الجميع حتى وإن إختلف معه، يجب أن يمتنع، طواعية، عن شراء الخمور وتعاطيه داخل المجتمع الكويتي. ببساطة لأن القانون يمنعه. بل الليبرالي يجب أن يذهب أبعد من هذا. فهو من واجبه، كليبرالي، أن يُنكر على متعاطيه وأن يُبلغ عن عمليات الإتجار فيه. لماذا؟ لأنه مخالف للقوانين الفاعلة في هذا المجتمع بالذات. هكذا هي وبكل بساطة. وكل من يدعي غير ذلك، فهو مدعي للليبرالية، كاذب أفاك أو جاهل متذاكي، ولا يوجد هنا خيار ثالث. هكذا هي وبكل بساطة. وإلا فليأت لنا بدليل، ويقول لنا فيه أن هذا الرأي خطأ.
وأيضاً يمكن قياس هذا المثال أعلاه على تجريم الزنا مثلاً، أو غيرها من الأمور الأخلاقية والتي يجرمها القانون في هذا المجتمع بالذات.
فإذا وضح هذا المبدأ أعلاه، فإنه دائماً تكون هناك أمور أخلاقية لا تخضع للتشريع القانوني في هذا المجتمع أو ذاك. في الكويت مثلاً، موضوع الإختلاط في غير الأماكن الدراسية. فإن الإطار الأخلاقي الإسلامي يُلزم متبعيه بعدم الإختلاط بغير المحارم من الجنس الآخر من دون وجود مَحرم. وكمثال ثاني، السفور للنساء البالغات. ولكن بسبب أن القانون لا يجرم هذه الأفعال، فلا يمكننا، كليبراليين، أن ننكر أو نعترض على من يمارس هذه الأفعال إذا كان إختيارنا للمبدأ الأخلاقي هو المصدر الإسلامي. لأن المبدأ الليبرالي مفتوح لمصادر ومعايير أخلاقية مختلفة وغير متطابقة. ولكن، وكما قلت، إذا كان الإختيار الشخصي لمصدر المعايير الأخلاقية للفرد الليبرالي هو الدين الإسلامي، فإنه من الممكن هنا أن يتبع وسائل الإقناع بمختلف أدواتها أو الدعاية أو محاولة تغيير القوانين بالطرق المشروعة لصالح هذه المعايير.
الخلاصة هي، إذا كانت الأفعال الفردية للأشخاص مُـجَـرَّمة قانوناً في المجتمع، كبيع وشراء الخمر والزنا كمثال في المجتمع الكويتي، فإن من واجب الليبرالي إحترام القوانين، طواعية، وإن كان يختلف معه، وإلا فإنه ينسف من الأساس أحد أهم مبادئ الليبرالية الأساسية. ومن واجبه، والحالة هذه، أن يُبَلغ عن مرتكبيها ويدلي بشهادته أمام الجهات المختصة إن طُلب منه ذلك. وإذا إختلف المجتمع، في حالة الهجرة أو السفر مثلاً، فإنه، وبالبديهة، من واجبه أن يحترم قوانين هذا المجتمع حتى وإن أباحت هذه المجتمعات ما لا يتفق معه. أما في حالة الأمور الأخلاقية ذات المصدر العرفي أو الديني والتي لا تخضع لقانون أو تشريع، فإن إختلف الفرد الليبرالي مع ممارسيها، فليس هناك من سبيل إلا الإقناع أو الدعاية وبالوسائل السلمية، أو محاولة تغيير القوانين بالطرق المشروعة. ولا سبيل له غير ذلك على أعضاء هذا المجتمع من المخالفين له في المعيار الأخلاقي. هذه هي الدولة المدنية.