بعد تلك السنوات من اللااكتراث (ولو من قبيل المرؤة العربية)، ولبنان يمضي، أكثر فأكثر، نحو الخراب، بل ونحو الموت، فجأة اكتشفت المملكة أن لبنان ما زال موجوداً على الخريطة، وأن اللبنانيين ما زالوا على سطح الأرض ...
أبواب قصر اليمامة مقفلة في وجه رؤساء حكوماتنا، حتى ولو رأوا في البلاط القبلة الدينية، والقبلة السياسية. ما الذي حدث حتى فتحت أبواب النار على وزير لا بد أن يحظى بامتناننا لأنه أعادنا الى الذاكرة السعودية، والى الأجندة السعودية !
من يصدق أن مملكة، بذلك النفوذ الاقليمي والدولي، وبتلك الأرمادا المالية والسياسية، تطلق براكين الغضب على مواطن لبناني دخل، كما غيره من الوزراء، من ثقب الباب الى التشكيلة الحكومية، لا بسبب حنكته السياسية، ولا بسبب رصيده الأكاديمي، أو المهني، وانما بسبب ولائه لاحدى المرجعيات المناطقية، ولكونه ـ سابقاً ـ نجماً تلفزيونياً في برامج ترفيهية، واجتماعية، على احدى الشبكات التابعة للمملكة ؟
نعلم أن الغضب على لبنان، وتركه هكذا، وحيداً، يلفظ أنفاسه الأخيرة، مردها الى وجود حزب الله كقوة سياسية ضاربة، والى اتهام الحزب بدور عملاني في الادارة السياسية، والعسكرية، لـ»أنصار الله» في اليمن. وبايعاز من ايران التي نسأل هل كان يمكن أن يكون لها موطئ قدم في لبنان لولا الغياب العربي (والغيبوبة العربية) ابان الاحتلال الاسرائيلي، وكان نتاج وضع الجنوب اللبناني تحت سلطة ياسر عرفات، وبضغط عربي، ما استتبع كل الويلات التي حلت بلبنان على امتداد العقود الأربعة المنصرمة.
المملكة على بيّنة تامة بأن لبنان، ومنذ قيامه عام 1920، دولة مركبة طائفياً وسياسياً، ودون أن يحظى، الا في حالات عابرة، بسلطة تحاول الانتقال به من منطق المغارة الى منطق الدولة. هكذا التداخل العضوي بين التصدع السياسي والتصدع الطائفي لتبقى الدولة البطة العرجاء بين ملوك الطوائف ...
للمثال، حين كان هناك من يرى أن ياسر عرفات هبط، للتو، من عباءة صلاح الدين، ثمة من رأى في آرييل شارون النبي الذي خرج، للتو، من الكتاب المقدس.
بدا واضحاً من الحوار التلفزيوني الذي جرى مع «المواطن» جورج قرداحي الذي تعوزه الفذلكة اللغوية في الكلام السياسي استدرج الى قول ما قاله في التراجيديا اليمنية، ودون أن ندري لماذا تم «نبش «الفيديو الآن وليس لدى تشكيل الحكومة.
لماذا الحملة على هذا الوزير بالذات ؟ وهل الغاية فعلاً تفجير الحكومة التي جيء بها لترسم خارطة الطريق الى الخروج من الأزمة التي زعزعت كل مقومات الدولة، فاذا بها على شاكلة الفيل الذي يتعثر بحصاة. أكثر من يد غليظة تضغط لابقاء لبنان في حالة الموت السريري الى أن تتبلور التسويات (الصفقات) الكبرى حول المنطقة أو لاستخدامه كورقة (او كجثة) في حلبة الصراع؟
لم تعد قضية اللبنانيين تنكة المازوت، ولا فاتورة المولدات، ولا الأسعار الخيالية للأدوية . القضية الآن تدعى جورج قرداحي اذا كان لنا أن نصدق تلك «الخدعة البصرية». هل حقاً أنه اختير كبش المحرقة لابلاغ من يعنيهم الأمر بأن طريق سليمان فرنجية الى قصر بعبدا بمثابة الحلم المستحيل، ولا عودة خليجية الى لبنان الا اذا حمل سمير جعجع لقب فخامة الرئيس؟
مخجل جداً أن يظهر وزير الاعلام اللبناني، وهو المسيحي، في رسم كاريكاتوري في احدى الصحف السعودية بزي رجل دين شيعي. هل يمكن أن تصل بنا التفاهة، وأن تصل بنا الكراهية، وأن تصل بنا ثقافة القرون الوسطى، ونحن في القرن الحادي والعشرين، الى حد التأجيج المذهبي، في حين أن المجتمعات المتقدمة تتحدث عن عالم ما بعد الكائن البشري؟
أولئك الذين طالما وصفناهم براقصات الدرجة الثالثة في ملهى الباريزيانا يحذرون من اقدام المملكة على طرد اللبنانيين العاملين فيها. ما ذنب هؤلاء؟ وهل لاحظ أحدكم أن أميركا، أو فرنسا، أو ألمانيا، تطرد أي شخص من أراضيها بسبب خلافها مع حكومة هذا البلد؟
المسألة أبعد بكثير من كلام رجل قيل على الهواء، وذهب مع الهواء. ولتتوقف هذه المهزلة