مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور دانييل تانغواي أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوتاوا بكندا. وهو يقدم هنا سيرة أحد كبار فلاسفة العصور الحديثة: ليو ستروس. ومعلوم أن فكره أثر على المحافظين الجدد الذين يحكمون أميركا حاليا وبخاصة بول ولفويتز وسواه.
فمن هو ليوستروس هذا يا ترى؟ ولد في منطقة فرانكفورت بألمانيا في عائلة يهودية عام 1899 ومات في الولايات المتحدة عام 1973 عن عمر يناهز الرابعة والسبعين. وقد خلف وراءه العديد من الكتب والمقالات الأكاديمية المعمقة. وقد اكتشف أعمال نيتشه في أواخر دراساته الثانوية. وقال فيما بعد: كنت أعتقد آنذاك بكل ما يقوله نيتشه. كنت أعتقد أنه صحيح كليا ولا مجال لمناقشته.ثم ذهب ليو ستروس بعدئذ لإكمال دراساته العليا في جامعة هاربورغ التي كانت تضم أساتذة مشهورين وبخاصة ارنست كاسيرر. وكان هذا الأخير أكبر ممثل في ألمانيا لتيار التنوير والفلسفة الكانطية. كان يمثل تيار الكانطية الجديدة، أي الفلسفة العقلانية المتطورة. وقد درس ليو ستروس على يديه وحضر أطروحة جامعية تحت إشرافه. ثم سافر بعدئذ إلى جامعة فريبورغ لحضور دروس الأساتذة الكبار في الجامعة الألمانية وبالأخص هوسيرل وهيدغر. وقال ليو ستروس بعدئذ ان كاسيرر كان يبدو كقزم من الناحية الفلسفية بالطبع. ومعلوم أنه جرت آنذاك مناظرة كبرى بين كلا الرجلين: أي هيدغر وكاسيرر. وكانت أكبر مناظرة فلسفية في ذلك الزمان. ثم يردف المؤلف قائلا: وبعد أن اشتغل ليو ستروس لفترة على فكر سبينوزا ونقده للدين اليهودي والتعصب السائد في العصور القديمة انتقل إلى باريس لدراسة فلاسفة اليهود والعرب. وعندئذ انهمك في دراسة أعمال الفارابي وموسى بن ميرون الذي كان معاصرا لابن رشد. ومعلوم أنه حاول أن يقيم المصالحة بين الفلسفة والدين اليهودي مثلما فعل ابن رشد في الجهة الإسلامية. وفي باريس تزوج ليو ستروس من فتاة تدعى ماري أو مريم. وفي عام 1932 انتقل إلى لندن وكامبردج حيث شغل منصبا جامعيا لفترة من الزمن. وهناك انهمك في كتابة أطروحة عن الفلسفة السياسية لهوبز. وهو من كبار فلاسفة الانجليز في القرن السابع عشر. فهو أحد مدشني الفلسفة السياسية الحديثة بالإضافة إلى ماكيافيلي وجون لوك وآخرين. وبعد أن هيمنت النازية على ألمانيا لم يتجرأ ليو ستروس ذو الأصل اليهودي أن يعود إليها. فهاجر كليا إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث قدموا له منصبا جامعيا في مدينة شيكاغو عام 1949. وهناك راح يدرس ويبلور نظرياته عن الفلسفة السياسية حتى مات عام 1973.ويعتقد ليو ستروس بأن الحداثة مرت بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: هي التي شكلت التصورات الليبرالية للحياة السياسية. وكانت بمثابة رد فعل أولي على اللاهوت الديني المسيحي المهيمن على أوروبا آنذاك. المرحلة الثانية، هي مرحلة فلسفة الأنوار التي رمت الإيمان الديني في ساحة الخرافات والأوهام. وكان هدفها تعميم العلم لكي يشمل المجتمع وجميع البشر. وهكذا يتم الانتقال من عصر الدين المسيحي إلى عصر العلم العقلاني. المرحلة الثالثة، هي تلك التي تجلت لدى أوغست كونت وهيغل. وهي ما ندعوه بالفلسفة الوضعية، وهي التي حملت في طياتها جرثومة العدمية الأوروبية أو بذرة النسبوية العبثية التي تقول ان كل شيء يتساوى مع كل شيء، ولا شيء، أحسن من شيء. على الأقل بحسب رأي ستروس. وضد هذا التيار الجارف الذي نظّر له نيتشه وهيدغر على وجه الخصوص راح ينهض ليو ستروس. وقال بما معناه: لا يمكن أن نساوي بين القيم. فهناك حق وهناك باطل، هناك خير وهناك شر. ولكي يدافع عن وجهة نظره فإنه راح يعتمد على فلسفة أفلاطون وارسطو أي أول فلسفة ليبرالية أو عقلانية في التاريخ. فهذه الفلسفة كانت تؤمن بوجود القيم وترفض العبثية أو العدمية التي سادت أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى على وجه الخصوص. ترفض نزعة اليأس والخراب والمراهنة على الأسوأ. وهذه النقطة بالذات هي التي أخذها المحافظون الجدد عن ليو ستروس، ثم طبقوها على مجال السياسة المعاصرة. وقالوا بما معناه: هناك حق وهناك باطل في السياسة ولا يمكن أن نساوي بين الشيوعية والرأسمالية، أو بين التوتاليتارية والديمقراطية. وبالتالي فنحن ضد الميوعة الأيديولوجية التي اكتسحت الغرب بعد ثورة مايو 1968. ينتج عن ذلك أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تثق بقيمها وأن تحاول تعميمها على كل شعوب الأرض. فقيمها هي الصحيحة لأنها قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسعادة والرفاهية والازدهار الاقتصادي والسوق الحرة، الخ. لقد أخذ المحافظون الجدد من ليو ستروس كل هذه الأفكار ودعوا إلى إسقاط الاتحاد السوفييتي بالقوة باعتباره إمبراطورية الشر. ثم جاءت ضربة 11 سبتمبر وأعطتهم زخما جديدا وساهمت في خلع المصداقية على أطروحاتهم السياسية الهجومية. وراح البيت الأبيض يتبنّى هذه الأطروحات ويقول اننا على حق والآخرون على باطل. وبعد إسقاط إمبراطورية الشر السوفييتية آن الأوان لإسقاط إمبراطورية الشر الأصولية. وضمن هذا المعنى يمكن أن نفهم سبب الهجوم على أفغانستان ثم العراق. وبالتالي يخطئ من يقول ان الأفكار الفلسفية لا تؤثر على السياسة. في الواقع انه لولا ليو ستروس ونظرياته الفلسفية لما وجد المحافظون الجدد الدعامة الأيديولوجية لخلع المشروعية على سياساتهم المغامرة والهجومية. فعندما تعتقد بأنك على حق فإنك تصبح قويا وواثقا من نفسك إلى أقصى الحدود. وهذا ما حصل. فليو ستروس كان يعتقد أن أفكاره هي الصحيحة وأن الغرب لن يخرج من انحطاطه إلا إذا تبناها. وهكذا جاء المحافظون الجدد لكي يتبنوا أفكاره بعد موته بثلاثين سنة تقريبا. ثم يردف المؤلف قائلا: لقد دعا ليو ستروس الغربيين إلى التخلي عن الفلسفة الحديثة التي قادتهم إلى الانحطاط والعدمية والعودة إلى الفلسفة الكلاسيكية الصلبة والراسخة: أي فلسفة أفلاطون وارسطو كما قلنا. فعند هاتين الفلسفتين لا يوجد لعب بالكلمات ولا كره للحقيقة ولا ارتماء في أحضان العدمية العبثية. عندهما نجد أن للحق معنى وكذلك للخير والجمال. ولا ينبغي أن نطابق بين الخير والمتعة كما علمنا ارسطو. فقد يكون شيء ما ممتعا من الناحية الحسية أو الجسدية ولكنه ضار في نهاية المطاف. وبالتالي فإن الفلسفة الحديثة التي تقوم على مبدأ المتعة هي فلسفة ساقطة وقصيرة النظر. وهي التي أدت إلى ميوعة الشباب الأوروبيين أو الشعوب الأوروبية بشكل عام. وبالتالي فالحل يكون في العودة إلى فلسفة الإغريق القديمة، أي فلسفة سقراط وأفلاطون وارسطو. فهناك ترسخ العقل الراجح وتشكل القيم الأصيلة التي تعرف كيف تميز بين الخير والشر، أو الصحيح والخطأ، ولا تخلط بينهما كما يفعل المعاصرون. نضرب على ذلك مثلا الشذوذ الجنسي. فالفلسفة السائدة في الغرب الشبعان حتى درجة البطر هي فلسفة المتعة الحسية أو الجنسية. وقد وصل الأمر بأقطابها إلى حد أنهم لم يعودوا يميزون بين الجنس الطبيعي المشروع بين الرجل والمرأة، والجنس الشاذ. وهذا الانحراف الناتج عن العدمية الفلسفية هو ما يدينه ليو ستروس وكل التيار المحافظ في الغرب. وبالتالي فهناك مشكلة قيم في أوروبا والغرب كله. البعض يركز أكثر مما يجب على فلسفة المتعة ويقول انه يحق للمرء أن يعيش كل أنواع اللذات والشهوات والمتع. والبعض الآخر يقول ان هذا أخطر على حياة المجتمع.ولا تزال هذه المناقشة مشتعلة في الغرب حتى الآن. فميشيل فوكو كان من أتباع فلسفة المتعة أو اللذة إلى أقصى حد في حين أن بول ريكور كان من أتباع فلسفة الخير والاعتدال وعدم انتهاك القوانين الكبرى للطبيعة الإنسانية.