التصحيح الثاني
لا يذهبن بنا الخيال للقول بأن التصحيح هي عملية بحثية ودراسية وحسب ، بل إنها عملية في الصميم لأنها بيان للصواب وللخطأ فيما نعتقد ونؤمن ، ونحن في حاجة إلى ذلك وبدورنا ندعوا الكتاب والمفكرين لتبني التصحيح في عقائدنا وذلك من أجل أن نخرج من الدوران في الحلقات المفرغة والتي لا تعود على المجتمع والناس بنفع يذكر ، وفي صُلب التصحيح تأتي أهمية التمييز بين معنى النبوة ومعنى الرسالة ، التي قلنا بها في مقالنا الأول ، وهنا سنستكمل البحث فيها ولكن من خلال قضية الخلافة .
ونقول :
إن الخلافة هي قضية إجتماعية وشعبية بدرجة أساسية ، وهي ليست من القضايا الشخصية التي يصح فيها التوريث أو الوصية ، وهذا القيد الإحترازي عمل الحسين عليه السلام من أجله لكي لا تكون دولة بين الأغنياء ، أي إنه سعى لترتيب أوراق الخلافة كمؤوسسة تقوم على مبدأ الشورى والإنتخاب والتبادل السلمي للسلطة ، و من خلال ذلك المفهوم رفض خلافة يزيد التي قامت على التوريث الملكي المنهي عنه ، وهذا الرفض يقودنا لرد الخبر التراثي القائل : - الخلفاء من بعدي من قريش ..- ، ذلك لأن الخلافة ليست شأنية قريشية خاصة بهم ، وعلى الناس السمع والطاعة ! ! ، والناس ليسوا عبيداً لقريش حتى تكون الخلافة بهم حصراً ، والخلافة لا تنحصر في الحاكمية على قبيلة قريش فحسب حتى يصح ذلك ، بل هي على الناس والناس ليس قريشاً وحدها ، كما ولا يجوز إخضاع الناس لسلطة قريش من حيث هي قريش .
فهذا الإتجاه في الحكم قبلي عشائري بأمتياز و يُحاكي من جانب ما كانت تفعله إيران القديمة ، وهذا الإتجاه هو الذي رفضه الإمام الحسين منطلقاً من إيمانه ووعيه الديني ، فعنده الناس أحراراً فيما ينتخبون وفيما يختارون ممن يرونه صالحاً ومحققاً للشروط الموضوعية الواجب توفرها ليكون الحاكم عليهم .
إن كتاب إشكالية الخطاب للشيخ الركابي يبحث في ذلك و يسلط الضوء على ذلك من جهتين :
الأولى : التأكيد على واقعية حركة الحسين وموضوعيتها وإنها كانت سياسية بأمتياز ، وليس فيها صفةً أو صبغة تقول غير ذلك ، وإنه لذلك أستجاب لنداءات أهل الكوفة في أن يكون لهم ومعهم حاكماً وقائداً ، وهذا ما عمله بالضبط في كل تحركه .
الثانية : التأكيد على الطبيعة الموضوعية للحكم ودور المجتمع والناس فيها ، وهذا يعني نفي الماورائية التي نسمعها من أفوآه بعض الخطباء ومن بعض الكتب الصفراء ، والتي لا تعتمد الدليل والبرهان على ما تذكره وما تقوله غير أخبار كاذبة وقصص هزيلة ، كما يتوجب في الشأن ذاته رفض بعض شطحات أهل الكلام والمغالين ، في إخراج ماهو موضوعي ومنطقي وإدخاله بالغيب وربط ذلك بالحكم والسلطان .
إذن نحن في وقعة كربلاء نلتقي مع الحسين الإنسان الذي قال لأخيه محمد : - ما خرجت أشراً ولا بطراً وإنما خرجت من أجل الإصلاح ... - وصيغة الإصلاح الواردة في كلامه ليست مفهوماً غيبياً ، إنما هي صيغة عمل تبادلي بين الناس مجتمعين ، ولهذا يتكأ فيها على همة الناس وحركتهم في هذا المجال وليس على شعورهم ورغباتهم ، ولا تتم هذه الحركة ولا تكون هذه الهمة من غير إيمان بها من قبلهم ، ويعني ذلك إن الحسين مع الناس ومن خلالهم يستطيع عمل الإصلاح بالجهد الموضوعي الممكن والمتاح ، ومادة الإصلاح هي الأخرى ليست أشياء ماورائية غيبية ، إنما يكون متعلقها أشياء مرتبطة بمؤوسسة الخلافة ، فيكون الإصلاح الواجب :
[ - في طريقة الحكم وفي كيفية إنتخاب الحاكم ، وكذلك يكون في كيفية إصلاح المؤوسسة المالية والإقتصادية ، من خلال الكيفية التي يتم من خلالها توزيع الثروة بشكل عادل وعلى الناس كافة ، وكذلك يكون في تعميم مبدأ الحرية ليكون الناس قادرين على تصويب وتصحيح الأخطاء من غير خوف من قوى السلطة ، هذا يستلزم حرية في مجال الإعتقاد والسلوك وحرية ثقافية تحترم وجهات نظر المخالفين ] ،
الإمام الحسين أراد هذا وأراد أن يُشاركه الناس في ذلك ، ولم يأت ليقول لهم : - أنا الحاكم بأسم الله عليكم وواجب عليكم السمع والطاعة - ، هذا السلوك كان يرفضه الحسين مع معاوية ، حين كان يحكم الناس بالعنف والقمع والحيلة والتغرير وكبت الحريات وكم الأفوآه ، ولا يجوز في هذا الشأن إعتبار الحسين خارجاً عن الطبيعة البشرية والإنسانية ، لأن ذلك الإعتبار إن حصل سيفقد الحسين من مستوى الأسوة التي تكون للناس من خلاله في العمل وفي السلوك ، وهذا ممتنع عنده ولذلك لا نلتزم به ولا نقره .
ولا لزوم ليكون الخليفة أو الحاكم معصوماً ، وقد بين ذلك الشيخ الركابي بكثير من التحليل و الجهد معنى العصمة وهو يفكك ذلك الخبر الموضوع - شاء الله أن يرآني قتيلا وشاء الله أن يرآهن سبايا ...- ، ونقول هنا : اليوم أن تحرك الإمام ليس من وحي العصمة أو البشارة الإلهية ، ذلك لأن العصمة في هذا المجال لا شأنية لها ولا موضوعية ، إذ هي في كتاب الله لا تعني غير مفهوم التشريع في ذلك ، أعني إن الحسين هو من يتحكم بأفعاله وتصرفاته وسلوكه ، وكلما زادت درجة تحكمه كلما حمايته من الخطأ كبيرة أعني - الحماية الذاتية - المانعة من الوقوع بالخطأ أو فعله ، ولا توجد عصمة تكوينية لبشر من قبل الله ، والعصمة الممكنة هي العصمة التشريعية و في ذلك يقول الله : - والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا – العنكبوت 69 ، والكلام فيه جاء على نحو عام مطلق يشمل الجميع دون إستثناء ، والكوابح عن فعل الخطأ لدى الحسين ذاتية وليست ماورائية غيبية ، ولا دليل من كتاب الله يدل على وجوب كون الحاكم أو الخليفة أو الإمام معصوماً عصمة تكوينية ، بل إننا نجد إن الله قد مهد لعامة الناس أن يكونوا حكاماً وملوكاً حتى على الأنبياء ، كما في قصة طالوت الملك مع داوود النبي ، فقد كان داوود النبي جندياً تحت إمرة طالوت الملك .
وللحديث بقية