في مسرحيته “الحضيض” المُلْهِمة الآسِرة للقلب والوجدان قد تسامَى الكاتب الروسي مكسيم جوركي بالواقعية إلى ذروة رفيعة من حب الإنسان واحترام الإنسانية، هذا الحضيض هو الغرفة الكئيبة المظلِمة التي عاش فيها عشرة أشخاص من المنبوذين أو من أدنى طبقات المجتمع، تلك الطبقة التي كانت تُشَكِل الغالبية العُظمِى للشعب الروسي إبان هذا الوقت الذي كُتِب فيه هذا العمل الفريد عام 1902، هذه الواقعية التي قد تعرضت للواقع بكل مساوئه وأمراضه دون تنميقٍ أو محاباةٍ لأوضاعٍ بعينها، حتى أنهم يقولون أن كاتب النرويج الأعظم قد جاء بالواقعية العقلية، وجوركي قد أتى بالواقعية القلبية؛ فلا نرى الأصول الدرامية التي يقوم عليها فن المسرحية بقدر طبيعية الأحداث والوقائع التي حملت صرخة جوركي باسم الملايين المحرومة من أبسط حقوق وضروريات الحياة.
وتحدث العَمَل عن أمراضٍ عِدة قد ورثها هؤلاء العشرِ من هذا المجتمع الازداوجي الذي لا يرى للإنسانية قيمة وللمواطن ثمن وللحرية معنى، وأهم هذه الأمراض “الكذِب” الذي يجعل الإنسان دوماً يحيد عن الحق، ويجعله يكيل بمكيالين في علاقاته مع نفسه والآخرين، فكما يقول أحد أبطال العمل –صانع الأقفال كليش- الحياة شاقة بما فيه الكفاية دون الحق، وأخذ بعدها الحكيم ساتين يخطب فيهم ليتحدث عن الكذِب والزيف والنفاق، وقد دَرّجَ الكذِب في خطبته بذكاءٍ شديد ليقول بدايةً عن الكذِب: “كثيرٌ من الناس يكذبون شفقة بإخوانهم” .. وهُنا يقصد ساتين –أو بالأحرى مكسيم جوركي- هذا الكذب المحمود عواقبه – أو للكذب الأبيض- الذي يزرع الأمل والتفاؤل في نفوس الآخرين، أي الكذب الذي يعين الناس على مواصلة حياتهم وسط الظروف القاسية الصعبة التي تجعلهم يرزحون تحت وطأة المجتمعات الازداواجية التي تتاجر بالضُعفاء، وتحتفي فقط بسلطة الأقوي ذو النفوذ الاقتصادي والاجتماعي والديني، فهذا الكذِب يُمَنِي الناس بالمستقبل السعيد الذي قد يأتي في يومٍ من الأيام؛ رغبةً في حضُهم على الخير والتعاون والفضيلة والخير.
ويستطرد الحكيم ساتين ليتحدث عن كذبٍ آخر قائلاً: “ومن الكذب ما يبعث في النفس العزاء ما يجعل الإنسان يقنع بنصيبه في الحياة” وويعني هؤلاء الذين يجملون الحياة ويحسنونها في أعين الناس للوصول إلى مصالحهم ولتحقيق أهدافهم من الحياة على حساب الآخرين .. هؤلاء الذين يتاجرون بأحلام وآمال الناس .. هؤلاء الزُعماء الذين يتاجرون بأحلام شعوبهم .. المشايخ والحاخامات والقساوسة الذين يقنعون الناس بأن الفقراء يدخلون الجنة .. يقنعون الناس بأهمية الزُهْد والرهبنة والانعزال والانزواء عن مُتَع الحياة وخيراتُها؛ انتظاراً لنعيمٍ آخر في الحياةِ الأخري، وتراهم في نفس الوقت هم أكثر الناس حُباً للحياة ولملذاتها وأكثرهم استمتاعاً بها! يقصد أيضاً أنصاف المثقفين والمتثاقفين والإعلاميين وسدنة الحُكام وطغمتهم الذين يبطلون الحق ويحقون الباطل .. هؤلاء الذين يزورون الحقائق ويفسدون وعي الرأي العام باسم الوطنية والدفاع عن الهوية والدين والانتماء ويحَزِبون الناس حول شعارات زائفة ليتمكنوا من تجميعهم وتفريقهم حسب رؤية الأنظمة السلطوية الحاكمة.
ويتحدث ساتين عن درجة أخرى من الكذب وهي أخطر أنواعه، فيقول: “ذووا القلوب الضعيفة أو من يعيشون على حساب غيرهم هم وحدهم الذين يحتاجون إلى الكذب. بعض الناس يعيشون على الكذب، وبعضهم يتخفى وراءه” فهُنا يتحدث ساتين عن المجتمع الازداوجي الثنائي المعايير الذي يورث أفراده التناقُض والتلوُن والنفاق، هؤلاء الأفراد الذين يتحدثون عن الفضيلة بالنهار ويفعلون ما يُناقِضها ويخالفها بالليل، هذا المجتمع الذي يأبى الوضوح والصراحة والحرية .. ونقول أن الفرد لا يكذب لأنه إنسان سئ بالفطرة ونفسه نزاعةٌ للشر كما كان يقول الفيلسوف كلفن، أو لأنها صفة متوارثة يولد بها الإنسان كلون العينين والشعر والطول ولون البشرة؛ ولكنه –أي الكذب- إحدي إنتاجات ومكتسبات تلك المجتمعات التي تجور على حقوق أقلياتِها، وتُنَكِل بكل مختلف عن ثوابتها ويقينياتها، وتطحن الفقراء وصغار العُمال في سوق العمل الاحتكاري ليحصلون على الفُتات في الوقت الذي يحصل فيه من يتعب أقل على الجزء الأكبر من ثمار هذا العمل، فهُنا يتعلم الفرد الكذب والزيف وإخفاء الحقائق، وتُتَوَق نفسه إلى الكذب لأن الحاجة إليه أكبر من حاجته إلى الصدق؛ إذ إن الصدق لا قيمة له في مجتمع لا يحترم حريات الآخرين، ولا يعرف قيم الاختلاف وحقوق الإنسان والأقليات والمرأة والطفل .. وما حاجة الفرد إذاً إلى الصدق وهو يُعاقَب عليه في وقتٍ قد ينجو ويُحتفَى به في مجتمعه عند تزوير الحقائق وتزييفها وتجميل الذات وتنميقها أمام الآخرين؟! ولذلك خَتَم ساتين خطبته التي تناول فيها سُلَم الكذِب قائلاً: أما الصدق فهو إله الرجُل الحُر!!!