في ملحق جريدة الغارديان البريطانية الصادرة يوم الثلاثاء 3/7/2007 كتبت الكاتبة البريطانية المرموقة جيرمن غرير، والتي اشتهرت بكتاباتها ومواقفها من أجل المساواة بين الجنسين،
كتبت عن الحملة الاسترالية البيضاء ضد الأبورجينز «السكان الأصليين لأستراليا» بعنوان «عالمان مختلفان»، حيث أكدت في بداية المقال أن قرار رئيس الوزراء الاسترالي جون هاورد إرسال الجيش لمعالجة «الإساءة للأطفال والإدمان على الكحول في مناطق الأبورجينز» سوف يزيد الأمور سوءاً، وهاورد هو من الزعماء الذين أرسلوا جيوشهم إلى العراق لمعالجة «أسلحة الدمار الشامل العراقية». وجوهر المقال، والذي يحتاج ربما إلى كتب عديدة لتفصيل خلفياته التاريخية والثقافية والإنسانية، «هو أنّ الإنسان الأبيض ومنذ أن وصل إلى استراليا منذ أكثر من مئتي عام اضطهد وعذّب وأرعب السكّان الأصليين الذين وجدهم هناك». وذوو الدم البارد من الناس البيض قررّوا «أنّ أفضل طريقة للتعامل مع أناس لا يمكن أن يتأقلموا مع طريقة الحياة الغربية هو التخلص منهم بأسرع طريقة ممكنة ولذلك فقد قتلوهم وسمّموهم، بينما شعر البعض الآخر أن من واجبهم تجاه ربّهم إنقاذ هؤلاء الناس المتوحشين وتخليصهم من ثقافتهم الكافرة وتغطية عريهم وتعليمهم قيم العمل». أمّا أن يُترك السكان الأصليون وشأنهم أو الحوار معهم بالتي هي أحسن فلم يكن خياراً مطروحاً أبداً، وأمّا التعلم من السكان الأصليين فكان يتجاوز أيّ فكرة تُعتبر سليمة ومستقيمة. ويذهب المقال في النقاش إلى الطبيعة الماديّة للإنسان الأبيض واختلاف هذه الطبيعة جذرياً عن روحانية الإنسان الأبورجينزي والذي تتركّز ثقافته على الحياة اللامادية وعلاقته السليمة مع الطبيعة والكون وعلاقاته الاجتماعية المتكافلة والمتضامنة مع ذوي القربى ومع مجتمعه المحليّ، الأمر الذي لم يفهمه ولم يقدّره الإنسان الأبيض والذي وضع إجراءات قمعيّة صارمة قضت على لغة السكّان الأصليين «حيث رأيت بأم عيني صورة من كانوا يتعرّضون للجلد والموت إذا تكلموا لغتهم الأم»، وهو ما كان يفعله الفرنسيون للجزائريين خلال احتلالهم الاستيطاني، حيث منعوهم بالقتل والسجن من التكلّم والقراءة والكتابة بالعربية. كما أن مقال الكاتبة غرير والذي كُتب ودون شك نتيجة تعاطفها مع السكان الأبورجينز استحضر لي معظم ما يُكتب اليوم عن العراق من مصادر غربية، وحتى حين تحسن النوايا، تحاول أن تدرس إمكانية النجاح لجيوشها وثمن فشلها، دون أن تأخذ بالحسبان الثمن البشري الباهظ الذي يدفعه شعب كامل من حياة أبنائه وتاريخه وحضارته ومعتقداته ونسيج حياته ومستقبل أبنائه وبناته. فقد قرأت على سبيل المثال لا الحصر خطاب السيناتور ريتشارد لوغار، الزعيم الجمهوري للجنة العلاقات الخارجية، الذي ألقاه في مجلس الشيوخ بتاريخ 26 حزيران 2007 بعنوان «استراتيجيتنا في العراق غير ناجحة»، وهو خطاب قيّم تعرّض فيه بالتحليل الدّقيق لأسباب فشل الاستراتيجية ووضع مؤشرات لخطوات يمكن أن تقود إلى«الخلاص من المأزق وتوفر الخسائر على الشعب والحكومة الأميركية»، ومع اتفاقي مع معظم ما جاء في التحليل، ومع إدراكي بأن السيناتور لوغار يهدف من تحليله إلى خدمة بلده وتخليصه من ورطته فقد تملّكني شعور باستكمال تحليله وذلك بتقديم تحليل مقابل عن الثمن الذي دفعه العراق والعراقيون لكلّ هذه الجرائم التي ارتكبتها الإدارة الأميركية كما تملكني السؤال: من يخلّص الشعب العراقي من هذه المأساة ومن يعوّض عليه ولماذا يتعرّض شعب آمن لكل هذا القتل والإرهاب والدمار والقهر والألم دون أن يدعو أحد إلى محاسبة من سبّب كلّ هذه المأساة ؟!. إذ لا يظهر في خطاب لوغار طبعاً حجم الدمار الذي حلّ بالمجتمع العراقي وحجم الخسارة البشرية والتاريخية والاجتماعية والثقافية والبنيوية التي حلّت بالعراق ومن هو المسؤول وكيف يمكن تصحيح هذا المسار ومنع تكراره ضدّ الشعوب الأخرى. والتقييم ذاته ينطبق على تقرير مؤسسة بروكنز، الذي يقدّم إحصائيات عن بعض ما حلّ بالعراق دون أن يلامس الكوارث الإنسانية والسرقة لثروات ولآثار العراق وتدمير بنيته وقتل علمائه وتشريد الملايين من أهله. والشعور ذاته ينتابني وأنا أقرأ في الإعلام عن ترتيبات الإفراج عن بعض الفلسطينيين، في حين يقتل العشرات منهم يومياً على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، وتعامل بعض المسؤولين الغربيين مع القضية الفلسطينية من وجهة نظر إسرائيلية تَعتبر مقاومة الاحتلال الدموي إرهاباً وتتشدّق بالحديث عن «الاعتدال» بينما تضرب إسرائيل بيد من حديد على آثار فلسطين والتعايش بين الأديان والثقافة العربية والروحية التي يحملها السكان الأصليون لتضع مكانهم مستوطنين قادمين بثقافة مادية بحته تحمل النظرة العنصرية ذاتها للسكان الأصليين التي حملها الإنسان الأبيض للأبورجينز والهنود الحمر والأفارقة وقرر ضرورة إبادتهم والتخلّص منهم لعدم «قدرتهم على مواكبة ثقافته». ولهذه الحملة وجهان متكاملان وجه شن حروب الإبادة في المنطقة وتدمير بلدانها وحرق مكتباتها واجتثاث ثقافتها، ووجه اختلاق أعمال إرهابية في عواصم أوروبية واتهام عرب بها بين الفينة والأخرى من أجل إثارة الكراهية لدى الغربيين على العرب والمسلمين وتبرير كلّ جرائم القتل والإرهاب واغتصاب الحقوق وتدمير البلدان ضدهم. إذاً ما يجري اليوم ضدّ العرب والمسلمين هو نتاج نظرة عنصرية غربية ضدّهم تريد القضاء على ثقافتهم وأسلوب عيشهم واستبداله بثقافة غربية تغتصب ثرواتهم وتحتلّ بلدانهم وتؤسّس لأسلوب عيش ومنظومة قيم غربية مادية مختلفة تماماً. إذا كانوا يخمدون أصواتنا اليوم عبر سيطرتهم على أجهزة الإعلام ومراكز الأبحاث ويظهرون فقط أصوات من يستهدفنا، فإنّ عمق هذه الحضارة التاريخي كفيل باستعادة هذه الأمة ألقها وثوابتها وحضورها المرموق في العالم. لقد انهارت واختفت من وجه التاريخ إمبراطوريات روما والمغول بعد أن تخيّلت أنها ستسحقنا بالحديد والنّار. إن كل ما سيحققه عدوانهم السافر في حياتنا هو إطالة دورة الألم لهم ولنا، وإن يكن نصيبنا من الألم أكبر بكثير، ولكن الألم كان دائماً الدافع لهذه الأمة كي تنجح أكثر، وتتألق أكثر، وتزيد من تمسّكها بروحانيتها ومثلها وقيمها، وهي التي رفدت الإنسانية بالدين والفكر والأدب والفلسفة والفنون والشعر على مرّ القرون.