فى خضم مناقشات ومناظرات ما يطلق عليه تجديد الخطاب الدينى تتردد دائماً فى وجه من يحاول أن يناقش رجال الدين عبارة «الدين علم زيه زى الطب والفيزيا والكيميا وزى ما بتروح للدكتور المتخصص تكشف على ابنك لازم تاخد دينك وتعرفه من الشيخ وبس» وأحياناً يخصص أكثر فيقول «ويا ريت المتخصص ده يكون خريج الأزهر»، وهنا تثار أكبر علامات الاستفهام التى ظلت قروناً وقروناً لا تمس حتى أصبحت من البديهيات والمسلمات والتابوهات التى من الممنوع والمحظور الاقتراب منها والتصوير واللمس أو حتى مجرد التفكير، هل الدين أو ما نسميه علوم الدين هى علم حقاً وتنتمى إلى عالم ومجال العلوم وتتبع آلياته وتخضع لطريقة نقده وإثباتاته وبراهينه؟ وهل ينتقص من قدر الدين أنه ليس علماً وبالعكس هل يرفع من شأنه وتزداد قداسته بكونه علماً أم أن للدين مجاله وللعلم مجاله المختلف، وأن هذا الاختلاف لا يعنى بالضرورة أن هذا أفضل من ذاك؟
نحتاج أولاً للإجابة عن هذا السؤال وحل تلك الإشكالية أن نعرف أولاً ما هو تعريف العلم؟ وهل مقارنة علم الحديث وعلم الرجال والجرح والتعديل بعلم الطب أو الفيزياء مقارنة صحيحة وفى محلها أم أن الأمر فيه توصيف خاطئ ومغالطة منطقية؟ وهل حتمية لجوء المريض إلى الطبيب المتخصص لعلاجه ووصف الدواء له هى نفس حتمية ذهاب المواطن إلى الشيخ أو الداعية أو الكاهن لمعرفة دينه ووصف الفتوى المناسبة له؟ وهل لابد أن يضع كل منا رأيه وعقله جانباً معطلاً لا يجادل شيخه ولا يحاول طرق أبواب جديدة لفهم الدين طبقاً لمتغيرات الزمن مثلما نعطله أثناء إجراء الجراحة التى لا يعرف تفاصيلها وتقنياتها إلا الجراح فقط؟
كل هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عليها وطرح النقاش حولها لأنه لن تحدث أى ثورة دينية أو فكرية أو حضارية عموماً إلا إذا ضبطنا المصطلحات التى نتحدث عنها، وإلا عشنا فى حوار الطرشان والعميان الذى نعيش فيه بامتياز منذ الفتنة الكبرى!
الكثير منا مازال يخلط بين العلم بمعنى الـ science والمعرفة بمعنى الـ knowledge والفرق بينهما كبير، فتكديس المعلومات ليس هو العلم، ومعرفة كل معلومات الكلمات المتقاطعة وكتب المسابقات ليس هو العلم، ولكن العلم خاصة العلم التجريبى الذى يندرج تحته الطب والفيزياء والكيمياء… إلخ والذى دائماً يقارنه شيوخنا بعلوم الدين للتدليل على وجوب احتكاره، هذا العلم تعريفه ببساطة هو ما لخصه فيلسوف العلم «كارل بوبر» بقوله «العلم هو ما يقبل التكذيب»، يعنى العلم هو ما يقبل التفنيد والتحقق منه وفرزه ودحضه وتخطيئه، يعنى عندما أقول عبارة مثل «دمياط بقعة عزيزة محببة إلى نفسى»، هذه عبارة غير علمية أو لا تنتمى إلى العلم بصلة فكيف سأثبت أو أكذب أو أفند هذا الحب أو أقيس هذا الغرام! أما عندما أقول لك «دمياط أرض فيها بترول»، حينها سنذهب أنا وأنت بالمجسات وآلات الحفر ونقف أمام هذا التحدى العلمى، إما أن أكون أنا على صواب أو على خطأ بالإثبات والأدلة، هنا أمكنك تكذيبى وتفنيد رأيى، وكذلك عندما تخبرنى بأن من يقول سبحان الله ثلاثين مرة هو أفضل ممن يرددها مرة واحدة سأقول لك لا أستطيع تكذيبك ولذلك ليس ما تقوله كلاماً علمياً لكن مادامت هذه قناعة تريحك نفسياً فلتكن وعلى الرحب والسعة، ولكن أرجوك لا تطلق على هذه العبارة كلمة science، العلم ملاحظة واستنتاج وتجربة وتأكد من النتائج وقياساتها ثم وضع نظرية تثبتها الحقائق كل يوم، وإن لم تثبتها فيجب تعديلها أو تغييرها أو تركها نهائياً لتفسير آخر ومحاولات أخرى… وهكذا.
بالطبع سينفعل البعض معترضاً بالقول «يعنى بعد كل المجهود الرهيب اللى عمله العلماء القدامى وعلى رأسهم البخارى جاى تقول إن ده مش علم، أمال ده نسميه إيه؟!»، والإجابة هى.
العلوم نوعان لا ثالث لهما: علوم تجريبية، وعلوم إنسانية أو ما يسمونه فى أدبيات العلم علوماً صلبة وعلوماً رخوة، وعلوم الدين هى علوم تنتمى إلى مجال العلوم الإنسانية أو العلوم نساء فى المعملالرخوة، ومن يحاول أن يطلق عليها علوماً ربانية لكى يرهب ويحتكر ويمنع النقد والنقاش هو إنسان يحاول أن يخدعنا، فكل ما هو مكتوب فى الفقه والتفسير وعلم الرجال والجرح والتعديل هو جهد إنسانى بشرى ووجهات نظر حتى ولو كان موضوع البحث هو الدين، ومن يدع أنه قد احتكر وحده حصرياً توكيل التفسير الربانى من الله فليظهره لنا!!، ما ينطبق على علم التاريخ وعلى علم النفس والاجتماع ينطبق أيضاً على تلك العلوم الدينية، ولكن للأسف حتى تلك العلوم الإنسانية السابق ذكرها تطورت أدواتها ومناهج بحثها وظلت العلوم الدينية مستعصية على التطوير محلك سر، نتيجة هالة القداسة التى خلقت مزيداً من الحواجز والتابوهات أمام أى باحث يريد تطبيق مناهج البحث الحديثة على تلك العلوم… إلخ، العلوم الإنسانية عموماً تطمح إلى أن تكون فى دقة وانضباط العلوم التجريبية. يتمنى علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد… إلخ، الحصول على أيزو المعمل ودقته، والوصول إلى تجريد وصرامة العلم التجريبى ومعادلاته سواء كان فيزياء أو كيمياء أو طباً… إلخ، ولو سألنا حتى فى مجال العلوم التجريبية عن أى تلك العلوم أكثر تقدماً لوجدناه الفيزياء التى تقدمت أكثر من الطب وقفزت قفزات أسرع منه بكثير، بل كانت الفيزياء هى القاطرة التى جرّت الطب إلى الأمام لأنها أكثر دقة وصرامة وتجريداً وتعميماً.
العلوم الإنسانية عموماً مازال ينقصها الكثير حتى تصل إلى مرتبة العلوم التجريبية، والبعض يقول إنها لن تصل إلى تلك الدقة أبداً، برغم كل محاولات تطبيق المناهج العلمية والإحصاء والاستبيان والمعادلات والمنحنيات… إلخ، مازالت تعانى من أمراض التحيز وعدم القدرة على التعميم والخروج بنظريات تصلح للجميع، لأنها تتعامل مع الإنسان والمجتمع والبشر والنفس الإنسانية وهى أشياء تقاوم القياس المنضبط والقوالب الثابتة، لذلك تستطيع أن تقول وبكل دقة إن درجة غليان الماء فى مصر وفى أمريكا وأستراليا هى 100 درجة مئوية، لكن لا تستطيع أن تقول إن درجة غليان الإنسان ووصوله إلى درجة الثورة أو القتل أو التذمر أو الاكتئاب واحدة فى تلك الدول!!
تحاول تلك العلوم جاهدة خاصة فى الغرب أن تضع إطاراً علمياً منضبطاً، ويساعدها فى ذلك جسارة الباحثين المتخصصين، وأيضاً قدرة تلك الشعوب بأفرادها العاديين غير المتخصصين على التفكير النقدى الحر، لذلك فى العلوم الإنسانية يوجد هامش كبير متاح لغير المتخصصين، والمدهش أنه أحياناً تأتى ثورة تلك العلوم ممن نسميهم غير المتخصصين، وسأضرب لكم مثالاً بعلم التاريخ ومن مصر، أنا شخصياً ومعظم جيلى قرأنا عن الثورة العرابية، وكان مرجعنا هو كتاب الأستاذ صلاح عيسى، الذى لم يحصل على درجة الدكتوراة فى التاريخ ولم يدخل أصلاً كلية الآداب، وكان مرجعنا عن فترة الملك فاروق ما كتبه أحمد بهاء الدين الحقوقى وغيره من الصحفيين غير المتخرجين من كلية الآداب… إلخ، هذا فرق أساسى بين نوعين من العلوم حتى لا يخرج علينا شيخ بالتصريح الأكلاشيه «زى ما الطبيب متخصص فى الكشف عن المرض إحنا متخصصين نعرفك دينك ونفكر بدلاً منك ونفتى لك»!!
عندما حاول نصر أبوزيد غير الأزهرى أن يطبق مناهج البحث العلمى على علوم القرآن قامت الدنيا ولم تقعد وتم تكفيره بل وصل الأمر إلى تفريقه عن زوجته، وكذلك عندما حاول جمال البنا، الذى لم يتخرج من الأزهر، أن يناقش ما يطلق عليه علوم الحديث، تم تجريسه وتكفيره والسخرية منه واغتيال مشروعه الفكرى والتشويش عليه بالتربص والاصطياد لقضايا فرعية تافهة يجره إليها أشرار الإعلام وهواة الفرقعات الفضائية!!، وحتى عندما خرج د. أحمد صبحى منصور الأزهرى، الحاصل على الدكتوراة، عن السياق وناقش الأحاديث تم تكفيره ونفيه خارج الوطن. إذن الحكاية ليست حكاية أزهر، لكنها حكاية اتجاه بعينه داخل الأزهر يريد فرض وجهة نظره والحفاظ على مكاسبه.
وصلتنى تعليقات كثيرة سأحاول الرد عليها، فالموضوع يستحق دراسة أكبر وتغطية أوسع، وأعدكم بأن أعود إليه على فترات كى أناقشه من زوايا أخرى.