خلافة داعش
من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم
فضيلة داعش
منذ تشكيل الدولة الإسلامية في العراق والشام )داعش( حاول تُ المستطاع حتى يجري
تناول هذه الظاهرة بشكل موضوعي ومواجهتها بعقلانية سياسية وخطاب تنويري
وإستراتيجية واضحة تعتمد القيم الديمقراطية المدنية وترفض المهادنة في كل انتهاك ينال
كرامة وحقوق الإنسان.
. في رفض لاختزالها بمؤامرة إيرانية أو مالكية أو لمجرد جماعة
تعمل بأمرة المخابرات السورية. إلا أن قول الشاعر غلب "لقد أسمعت إذ ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي". في مارس/آذار 3102 قابلت أحد المعارضين السوريين من
أصحاب العباءة الديمقراطية. بدأ الحديث عن خطف المطرانين من قبل مجموعة شاشانية
أرسلتها المخابرات الروسية ومن ثم تسليمهما إلى المخابرات الجوية السورية. لم أعلق
وكان هذا آخر اجتماع بهذا الشخص. فماذا أقول له ونحن نرى معتمدين أساسيين في
ائتلاف أصدقاء-أعداء الشعب السوري يتحدثون عن أبي عمر الشاشاني كعميل
للمخابرات الروسية ولا يعلمون أنه حارب مع الجيش الجيورجي ضد القوات الروسية
في بلده قبل هجرته لبلاد الشام. كم سمعنا من تصريحات تتحدث عن القضاء على
داعش بثما نُ وأربعين ساعة الأمر الذي يعطي مقدمات الأخبار في "قناة العربية" نوعا
من الطمأنينة. يراقب المرء الانحدار في مستوى التحليل والسطحية السياسية والسقوط
الأخلاقي والتهافت على المال عند كل من أراد "الستة المبشرون بالسيطرة على مستقبل
سورية" تنصيبه "ممثلا وحيدا للشعب والثورة". ويتابع في المقابل من قرر أنه في
زمن الجهاد وقيام "خلافة أهل السنة والجماعة" إنما تكون الحاجة لممثل شرعي وحيد
لله على أرضه.
من المضحك والمبكي أن الصراعات والمناظرات الأكثر جدية كانت في صف قيادات
داعش والنصرة وأحرار الشام وفصائل المهاجرين باعتبارها قد رضعت من حليب
"القاعدة" وتعرف بعضها بعضا وليس بوسع شخص مثل أبي ماريا القحطاني أو أبي
محمد الجولاني اتهام من مدهما بالمال والرجال وعناصر نجاح انطلاقتهم بالعمالة للنظام
السوري أو العراقي؟
لقد تم تعبيد الطريق الإعلامي والسياسي والعسكري لخروج تنظيم "داعش" إلى النور
كقوة مسلحة وعقائدية إقليمية في إصرار السلطة السورية وبعدها العراقية على الحل
الأمني العسكري في مواجهة ما يحدث. مع سياسة تركية وخليجية وغربية فاشلة
ووكلاء سوريين صغار وعدد من السماسرة الإقليميين الذين أعماهم الحقد، وغطى على
بصرهم وبصيرتهم الخوف من حراك شعبي واعد أرادوا قتله في بلاد الشام ولو استتبع
ذلك تمزيق الأوطان وتحطيم الإنسان.
3
في وقت كان روبرت فورد يحدثني عن العلاقة بين "وحدات حماية الشعب" والنظام
السوري في وقت تغطي السلطات التركية صفقات بيع النفط السوري على أراضيها
ويسمح الاتحاد الأوربي بعمليات البيع هذه، كان تنظيم داعش قد أطبق خطة "التمويل
المتعدد المصادر" التي تسمح له بهامش واسع من الاستقلالية في القرار حتى عن
الجماعات السلفية الخليجية التي تضخ له بالمال والرجال. وفي وقت كان ينعق فيه
الائتلافيون بالمطالبة بالأسلحة النوعية تمكن التنظيم من الحصول على كميات كبيرة من
هذه الأسلحة في الرقة والموصل. وعندما سعت قطر والسعودية لامتلاك مجموعات
جهادية خاصة بهما قرر تنظيم داعش مواجهة مفتوحة مع كل من سماهم "الصحوات".
ويمكن القول اليوم أن كل ما حققه النظام السوري وحلفائه على صعيد تصفية قيادات
الجماعات الجهادية نقطة في بحر التصفيات المتبادلة التي قامت بها هذه الجماعات بحق
بعضها البعض. فأهل البيت أدرى بما فيه ومن فيه. وإن كان "خلاف اللصوص على
الغنائم" قد كشف الكثير من المستور. فأية كارثة في أن يكون أبو محمد الجولاني أول
من يتحدث عن هدر أكثر من مليار دولار في "جبهة النصرة" في وقت يحدثنا فيه
بعض قدماء الماركسيين عن طهارة النصرة. ويموت الأطفال في المخيمات جوعا.
فضيلة داعش تأتي من كونها قد عرّت الأساطير التي صنعتها "الجزيرة" منذ أول
عملية للنصرة في الشمال ضد قاعدة للدفاع الجوي غطاها أحمد زيدان، إلى ذاك التقديم
في هالة قدسية لأبي محمد الجولاني مع تيسير علوني. إلى ذلك الغطاء المتعمد على
كل الجرائم التي ارتكبتها النصرة في تكرار بائس للتجربة العراقية التي ولدت في
كنفها.
فضيلة داعش أنها كشفت الخطاب الإخواني الشعبوي الذي يتحدث منذ حسن البنا إلى
سيد قطب والقرضاوي في الإسلام دين وعقيدة، دولة وقانون وشريعة ومنهج حياة، علم
وآداب وأخلاق وهوية، أمة وسياسة واقتصاد وحسبة وجيش ومخابرات. ويخدّر العامة
بمقولة "الإسلام هو الحل". يؤثر الجماعة على المجتمع ويحق له ما لا يحق لغيره.
مع كل ما حملت هذه الإيديولوجية والممارسات من غطاء للتطرف في سورية والعراق.
فضيلة داعش أنها اختصرت على المفكرين عشرات الكتب والدراسات في الرد على
أطروحات العودة إلى الوراء لبناء "خلافة راشدية على منهج النبوة". فضيلة داعش
أنها وجدت في الأحاديث النبوية كل ما يغطي عوراتها وجرائمها وتخلفها في فقه ما
زال فيه ضعيف الحديث خير من حِكَمُِ الرجال. فضيلة داعش أنها فضحت الباطنية
السياسية لتوظيف الدين كإستراتيجية سلطة.
تنظيم داعش وليس المثقف النقدي هو الذي أسقط الهالة عن مفهوم الحاكمية لله. وهو
الذي ترجم مفهوم جاهلية القرن العشرين لسيد ومحمد قطب في أرض الواقع. وهو من
طبق على الأرض شعار "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". هو من
جعل التكفير سنّة... وهو الذي حوّل العنف والتوحش إلى منهاج حياة.
يتكلم المرء بمرارة وهو يستعرض شريط الأحداث. وكيف باسم الثورة تم اغتيال كل
مقومات ما يمكن تسميته بثورة. كانت الأخطاء تتراكم وكان الجواب دائما النظام هو
4
المسئول. أصبحت الأخطاء جرائم واستمرت الأسطوانة المشروخة نفسها. لم يكلف أحد
نفسه عناء النظر إلى ما آلت إليه الأمور. بيع قرار السوريين لغيرهم بدراهم، وجرى
تسليم قرار المسلح السوري لمن وفد من خارج الحدود والمعالم )تاركا الأهل والبلد(.
وأي فائدة في التذكير بما قلنا منذ أغسطس/آب 3100 "إذا تسلحت تطرفت وتطيفت".
ألم نخون لمطالبتنا من يريد القتال بالذهاب لبيت أبيه يقاتل فيه؟ ألم تقم الدنيا من
أصحاب العبارة الثورية يوم طالبنا بوضع التخوم بين أصحاب مشروع التغيير
الديمقراطي وأصحاب المشاريع الظلامية؟
لعل من فضائل داعش أيضا معرفتها بما يسمى "المهاجرين". مستواهم الثقافي
والسياسي ومحدودية وعيهم الديني والمشكلات الذاتية والموضوعية التي حولتهم لمشاريع
انتحار. لهذا تعامل تنظيم داعش معهم كالقطيع واتبع سياسة لاستقطابهم تقوم على قواعد
بسيطة: المال والسلطان زينة الحياة الدنيا، أضرب الرأس تلحق بك العناصر، الأحسن
يصاهرنا والباقي يلتحق بالحور العين... ولا شك بأن للضباط السابقين في الجيش
العراقي دورا هاما في فرز الأفراد والجماعات وتوظيف استيراد الغرباء لمشروع
"الخلافة".
ُ
البذرة النغل
في البدء كانت القاعدة. تنظيم عسكري سياسي بإمكانيات كبيرة ودعم أمريكي خليجي
هائل لمواجهة المحتل السوفييتي في أفغانستان. استقطبت الحرب الأفغانية المقاتلين من
بقاع الأرض وفتحت الباب للسلفية الجهادية للتحول من مجموعات صغيرة في بلدانها
إلى قوة عسكرية عابرة للحدود. لن نكرر ما استعرضناه في كتاب )السلفية والإخوان
وحقوق الإنسان(، لكن من الضروري التذكير بالهالة القدسية التي أحاطت بكل من
ذهب مجاهدا في سبيل الله ضد الكفار والشيوعيين والطواغيت. والحاضنة الاجتماعية
والإيديولوجية التي أعطتهم قوة المثال والقدوة في السعودية وقطر والكويت. انتهت
الحرب الأفغانية وتفتت الاتحاد السوفييتي. وصار من الضروري لكل من دعم هذه
الحالة البحث عن وسيلة يتخلص من تبعاتها عليه. فقد انتهت مدة صلاحية "الجهاد
الأفغاني" عند صانعيه، وتحوّل المجاهدون من أجل الإسلام إلى منبوذين ممن أرسلهم.
إلا أن هؤلاء المنبوذين كان لهم قصتهم وأساطيرهم. ولم يعد بوسع أولياء الأمر
السيطرة عليهم. فهم يعتقدون بأن جهادهم هو الذي غيّر صورة العالم وأنهى الحرب
الباردة ووضع حدا للشيوعية في بلاد الإسلام. وأن جهادهم لم ينته مع رحيل القوات
السوفييتية بل بدأ.
تغيرت التحالفات ودول الدعم والمأوى والجهاد. وتوزع أبناء التجربة الأفغانية بين
الحرب الشاشانية والبوسنة والجزائر. في حين حاولت المخابرات الباكستانية استعادة
نفوذها في أفغانستان بدعم الطالبان البشتون. وعاود أسامة بن لادن عملية تجميع السلفية
الجهادية في أفغانستان باعتبارها مركزا للتدريب العسكري والقيادة الآمنة المقر.
5
كان العراقيون بكل فئاتهم أبعد الناس عن "القضية الأفغانية". فقد ورطتهم حكومتهم
بحروب شغلتهم عن العقد الزمني الأفغاني. ومنعهم طلب البقاء على قيد الوجود في
ظل العقوبات والدكتاتورية من ترف "السياحة الجهادية. ويمكن القول أن التيارات
السلفية والإخوانية لم تكن موضع ملاحقة واستهداف من النظام العراقي. لذا لا يستغرب
قدوم عدد من قدماء الأفغان العرب للعراق قبل 3112 . ويمكن القول أن التحرك
الجدي باتجاه العراق تبع حالة الفوضى التي حملتها قوات الاحتلال والقرارات المدمرة
التي اتخذها بول بريمر الحاكم الأمريكي في العراق بضرب بنية الدولة العراقية وحل
الجيش العراقي. الأمر الذي لم يجد معارضة من الطرف الكردي الذي احتفظ لنفسه
بقوات البيشماركة أو الأحزاب الإسلامية الشيعية التي وجدت في ذلك فرصة لإعادة بناء
الجيش من المجموعات المسلحة التي تشكلت في إيران أثناء الحرب العراقية الإيرانية
وما بعدها.
بهذا المعنى تتحمل قوات الاحتلال المسئولية الأولى عن خلق كل العناصر الموضوعية
لتشكيلات عسكرية واسعة خارج نطاق الاحتلال. بكل ما أصلت من استئصال واجتثاث
وإبعاد لكل من كان بصلة عسكرية أو سياسية مع النظام السابق. ولم تكن الطبقة
السياسية الجديدة التي حملت لواء رفع المظلومية عن "البيت الشيعي" تحمل أي برنامج
وطني ومواطني. بل على العكس من ذلك تعاملت في العديد من المواقف التكوينية
للدولة الجديدة بمنطق المحاصصة وتوظيف المشاعر وتقاسم المناصب وخلق عصبية
مذهبية تحمي السلطة السياسية الجديدة.
لم يمتلك أبو مصعب الزرقاوي في جعبته السياسية والإيديولوجية ما يسمح له بدور هام
في مقاومة الاحتلال أو تقديم تصورات خلاقة لواقع ومستقبل الإنسان في العراق. وقد
غطى ضحالته الفكرية بشراسته العسكرية. ويمكن القول أنه التعبير الأفضل لما يسميه
علماء النفس حالة النكوص إلى الإحيائية animist . هذه الحالة التي تتجسد في ادعاء
الحق المطلق وامتلاك القدرة على فرضه من حوله. وإسقاط كل شبهات ضعف الذات
بيقين شيطنة الآخر. لذا أطلق منذ البدء فكرة مسئولية "عوام الرافضة" )الشيعة( عن
الاحتلال وعن ابتعاد المسلمين عن دينهم. الأمر الذي فتح له باب العمليات العسكرية
السهلة التي تستهدف المدني والعسكري، الطفل والبالغ، المرأة والرجل... كذلك صنف
أي فكر غير جهادي-سلفي في خانة الكفر. ولا شك بأن ما حدث من انقلاب جذري
في وجود العراقيين بعد إلغاء الدولة والنظام قد هزُّ النسيج المجتمعي في أعماقه وصدّع
أركان الوعي الجمعي للناس وزعزع مقومات الاستقرار النفسي للأشخاص وفتح الباب
واسعا بعد عقود التصحر السياسي والحروب الدموية والحصار اللا إنساني لنمو النزعات
الغريزية والعصبية وبداهة التوحش.
وجدت الإدارة الأمريكية في ضرورة ارتقاء جماعة الزرقاوي لسلم عدو الاحتلال الأول
فرصة ذهبية قزّمت وهزّلت فيها صورة أطراف المقاومة المدنية والعسكرية الأخرى.
وغطت بالتالي على جرائمها السياسية والإدارية والعسكرية في البلاد.
إلا أن استئصال كوادر المؤسسة العسكرية العراقية في النظام السابق من عملية إعادة
بناء الجيش العراقي دفعت بعدد غير قليل من الضباط السابقين للتوجه نحو التعبير
6
الأكثر تعصبا وشراسة في الموقف من العملية السياسية وعملية إعادة بناء أجهزة الأمن
والجيش. وقد بدأ التنسيق والتقارب بين أوائل المنتسبين من العراقيين للقاعدة مع هؤلاء
الضباط مبكرا للاستفادة من خبراتهم العسكرية ثم بدأت عملية التقارب الإيديولوجي
تتسارع في معتقلات الجيش الأمريكي بحيث يمكن القول بأن الكيمياء الحالية لما يسمى
بداعش اليوم هي الوليد النغل لسجن بوكا وأبو غريب وسنين الاعتقال في ظل
الاحتلال.
ينتمي الداعشي العراقي إلى جيل الثالوث المدنس )الحروب الإقليمية التي خاضها النظام
العراقي، المثل الأقسى/مع قطاع غزة/، للعقوبات الجماعية في التاريخ البشري
المعاصر، الاحتلال الأمريكي الأغبى في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية(. ولا شك
بأن الإنسان العراقي الذي فتح عينيه على حربي الخليج الأولى والثانية بكل ما تحملان
من عدمية، وكحّلها بعقوبات لا إنسانية لا ناقة فيها للمواطن العراقي ولا جمل، وفقأها
بمحتل حطم آخر ما تبقى من الدولة العراقية بعد الكولونيالية قد تمزقت لديه كل
علامات التواصل مع الحداثة. فهو لم ير في هذه الحداثة سوى صفقات التسليح وشراء
وسائل التعذيب وطغيان الحكم وهدر الموارد والطاقات الطبيعية والبشرية. التدين العام
هو الرد الأولي على حضارة لم تغط المدفع والبورصة والنفط بأيُ من معالم الشعور
بالكرامة الإنسانية. كتب الشاعر العراقي بدر شاكر السياب قصيدة "المومس العمياء"
قبل أن يشهد العراق الثالوث المدنس. بعد كل مآسي العراق، تصحرت الثقافة وجفت
الصحف ولم تعد الكلمات قادرة على وصف هول الوضع البشري.
أثناء بعثة التحقيق التي قمت بها للعراق في حزيران/يونيو 2003 قال لي السائق
الذي نقلنا للاجتماع مع الفقيد سيرجيو دي ميلو: "هذه الأمم المتحدة شاركت في قتل
أطفال قريتي جوعا ومرضا فهل تعتقد بأنها قادرة على التكفير عن جرائمها بحقنا
كشعب؟". لم يكن السائق من الأنبار بل من قرية شيعية في جنوب شرقي العراق.
وقد تطوّع لمرافقتي إلى الفلوجة قبل المجازر التي ارتكبت فيها من حكومات الاحتلال.
كان يعيش كل يوم بيومه لإطعام أطفاله دون أية قناعة بأن هناك نهاية للنفق الذي
دخله العراق منذ سبعينيات القرن الماضي. ولعل الجريمة الأكبر في هذا القرن، تكمن
في مشاركة الطبقة السياسية العراقية بمعظم مكوناتها في تحطيم بوصلة الخلاص للشعب
العراقي عبر البحث الدائم عن كبش محرقة، عن ضحية محلية يستقوي عليها ويحملها
مسئولية مآسيه وحالة الإحباط المعمم التي يعيشها. ويمكن ملاحظة ذلك جليا منذ
استهداف اللاجئين الفلسطينيين من قبل أطراف المعارضة العائدة للبلاد التي حملتهم
شماعة دعم نظام صدام حسين وقرارات اجتثاث الدولة، إلى قرار داعش بالتطهير
الديني لمدينة الموصل من المسيحيين مرورا بمحاولتهم "تنظيف" العراق من الطائفة
اليزيدية.
بكل أشكالها ومسببيها، تتابعت عملية تدنيس الوعي لتخلق الأرض الخصبة للعنف
والتوحش والهمجية. الدريل drill كان وسيلة تمزيق عظام المعتقلين في أقبية الميليشيات
وجزُّ الرأس كان الوسيلة الأرخص عند التكفيريين. وفي كلا الحالتين جرى إعدام فكرة
الحق في الحياة والحق في سلامة النفس والجسد في مجتمع تعايش فيه الموت مع
الحياة في كل خلية وقرية وحي وقصة.
7
لم يكن بإمكان التكوين الهجين لدولة العراق الإسلامية تحقيق الانسجام الداخلي دون
تأصيل التعصب قاعدة والغلو فقها والصرامة والرعب منهجا. فليس بالإمكان ادعاء
"الصفوة" وامتلاك الحقيقة المطلقة وإعطاء جواب لكل سؤال واستباق القرارات وقتل
الشك واغتيال الوعي الأخلاقي دون تحقيق القطيعة الذهنية مع الماضي الشخصي
لمكونات التنظيم ومسح قصة زيد مع صيرورته أبو أسامة. وكون عملية غسل الدماغ
لم تحدث قط. صار من الضروري التمسك بكل المظاهر التي تعطي الجماعة صفة
النقاء من البدع وإغلاق باب الفتن وسد الذرائع وتهذيب الشعائر مع استعراضات
إعلامية مبالغ فيها لتحطيم المزارات والمساجد والكنائس والتماثيل وحرق محال السجائر
والجلد الميداني والرجم والصلب وقطع الرؤوس وأخذ الصور مع الرؤوس الخ. وهنا
يبرز الطابع الفصامي لداعش. فهي تمارس كل أشكال استبدال ال مثًلُِ بالمقايضات
النرجسية )تعسف السلطة، الانتهازية، السرقة، القتل، الخطف، الخوات، الانتقام، الثأر،
الاعتداء على المحرمات..(. وتعلن جهارةًُ كفر أو ردة كل من يعترض طريقها.
أصبح العداء الأعمى للحداثة واختزالها بصناعة المتفجرات والعالم الافتراضي ودور
المال هو رد الفعل البدائي المشترك بين التكفيري العراقي ونظيره القادم من بلدان
النفط والغاز. حالة الفصام التي خلقها النظام السعودي بين ليبرالية السوق والانغلاق
السياسي والاستعصاء الثقافي والتلوث الوهابي سمحت لظاهرة الجهاد الأفغاني بالعودة
بقوة إلى السعودية التي تحكم على المحامي وليد أبو الخير بالسجن 01 عاما بتهمة
3102 أي عشية احتلال داعش لمدينة الموصل، في /6/ نزع الولاية الشرعية في 7
وقت تؤكد الشهادات وجود أكثر من مائتي سعودي بين مقاتلي داعش على أبواب
المدينة. يوسف القرضاوي يتحدث من قطر عن ثورة شعبية وينسى مطالبة الناتو
بالتدخل للدفاع عن الثوار. أكثر من خمسة آلاف شاب سعودي وقطري وكويتي قتلوا
في أقل من خمسة أعوام ليس من أجل إقامة الخلافة في بلدانهم بل من أجل إقامتها
على أرض العراق والشام. هل يمكن تفسير ذلك بنجاح الأجهزة الأمنية في القضاء
على القاعدة في مملكة الصمت بعد أحداث 00 سبتمبر 3110 ؟ ما هي مسئولية
أجهزة مخابرات البلدين الوهابيين فيما يحدث؟ ما هو دور حكومة طيب رجب أردوغان
في عبور آلاف التكفيريين من الأراضي التركية؟ كيف جرت عملية التعبئة والشحن
باتجاه بغداد ودمشق بعيدا عن مكة والمدينة والقدس؟ لا شك بأن عمليات توظيف
التيار الجهادي التكفيري متعددة الشبكات ومتعددة الأيادي وليس بالإمكان إقناع عاقل بأن
حديثا نبويا ضعيفا يتحدث عن عودة الخلافة من الغوطة الشرقية، كان الدافع الأساس
لهذه الهجرات الشبابية التي حملت معها مشروع الموت بعد أن غاب عن أفقها أي
مشروع من أجل الحياة.
لا يمكن إقامة الفصل بين المقاتل العراقي والغريب القادم من أصقاع الدنيا للجهاد في
سبيل الله. ونجد قصة حياة أبو مصعب الزرقاوي تتكرر عند الجانح المهمّش التونسي
)الذي لم تقدم له "التريوكا" الحاكمة لا شغل ولا خبز ولا أمل وأغمضت العين
لأشهر عن سفر الشباب التونسي لسورية(، والذي أراد تخليص الشعب السوري من
نظام يسمع ليلا نهار على كل القنوات الفضائية غربية وخليجية أنه "يقتل الأطفال
8
ويغتصب النساء". فوجد فيمن دفع له كلفة السفر ودفعه للجهاد محسنا مجاهدا في سبيل
الله والعدالة.
وصف لي أحد المقاتلين الذين انتهى بهم الأمر إلى طلب اللجوء السياسي في فرنسا
بعد أن قضت "جبهة النصرة" على مجموعته "المعتدلة" صورة "النصيري" عند
هؤلاء الغرباء عن الثقافة العربية والإسلامية قائلا: "النصيري بالنسبة لهم هو أي جندي
أو موظف في دولة الأسد. هو شيطان هذا الزمان ولا بد من تخليص الأرض من
رجسه ونجسه إذا ما أردنا عودة الإسلام إلى أرض الإسلام".
يتحمل المجتمع المشهدي، بتعريف غي ديبور له، مسئولية كبيرة في انتاج التطرف
وتمجيد العنف. فهل كان بإمكان أي عمل غير "الهجرة والجهاد" أن يحوّل جماعة
مهمشة وجدت نفسها خارج المنظومة الرأسمالية قبل أن تكوّن وعيا تختار به موقفها
منها، إلى عناوين الصحف ومقدمة نشرات الأخبار، غير هذا العنف الذي حول محمد
وسفيان ورشيد وسليم... من مجرد منبوذين من جيرانهم إلى أبو البراء البلجيكي وأبو
لقمان الألماني وأبو محمد الفرنسي وأبو أسامة البريطاني... إن الشهرة التي تمنحها
وسائل الإعلام تعطي منسو المجتمع الأوربي الأهمية وقوة الحضور وجاذبية "دور
البطل". ولا ينسى هؤلاء "المهاجرين" التذكير في كل مناسبة بأنهم قد هجروا
"الديمقراطية المجرمة والعلمانية الكافرة ومجون الغرب" من أجل خلافة طهرانية تعيد
الناس إلى دينهم أو شهادة ترتقي بهم إلى ملكوت السماء... لم ولن يطرح أي
"مهاجر" السؤال الذي طرحه يوما ألبير كامو )العادلون(: "أينبغي اليوم أن تسيل
أنهار من الدم لكي يمكن غدا إقامة العدالة؛ وهل يتعين علينا أن نصبح قتلة ليكون
عندنا نظام اجتماعي أفضل؟". فالشعور الهذياني بامتلاك الحقيقة المطلقة يحرم القاتل من
الوقوف عند عدد ضحاياه وأساليب قتلهم. فبكل الأحوال، الحياة الدنيا محطة تافهة في
موازاة الحياة الآخرة الأبدية.
لقد توصلنا من متابعة تجربة داعش، من خلايا الزرقاوي إلى خلافة البغدادي، إلى
ضرورة تناول التجربة عبر الأشخاص بعد أن تبين لنا تأثير الأشخاص على طبيعة
وتركيب ووظيفة الإيديولوجية التي يعلنون عنها. فمن الصعب اعتبار تأثير الإيديولوجية
على مكونات أصحاب القرار في هذه التجربة حاسما. ولعل هذا ما يفسر الغلو المتعمد
والمشهدي الذي يحمل في طياته كل عناصر الهدم دون امتلاك أي تصور خلاق لإعادة
البناء بغض النظر عن نمط الحياة المطلوب في هذا البناء.
هيثم مناع
هجرات الوهم إلى بحيرات الدم
الجزء الأول
تقرير من إعداد
الدكتور هيثم مناع
إصدارات المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان
آب - أغسطس 4102