ما الذي يحدث لنا؟ العالم يناشدنا طي صفحات الاحتراب والدم، ومعاملة بعضنا البعض بالحسنى، والعودة الى طريق الحوار، فلا نسمع، وكأننا اذنٌ من طين واخرى من عجين، بل ونعيد عليهم حكاية الحضارات التي شيدناها، وعلم الكتابة الذي اخترعناه، والارض التي ورثناها، والانبياء الذين خرجوا من ظهرانينا.
لكننا (سامحونا) انتهينا الى هذا الحال المزري..فعبادة الافراد متأصلة في هواجسنا وثقافتنا، ونذهب الى إضفاء الالقاب والاوصاف الفانتازية على من نواليهم ونتبعهم ونتخلق بهم، ولا نقتصر في هذا على المصلحين او شيوخ الطرق او رجال القبائل او الشخصيات الاجتماعية او الرياضية بل صرنا نتفنن في ترقية السياسيين من بيننا الى موصوف “الرقم الذي لا يقهر” و”المنقذ الوحيد” و”من دونه تنهار البلاد ويتقاتل العباد” ولا نتورع، في حمية الولاء الاعمى، عن ان ننسب لهذا السياسي اعمالا ومعجزات فوق ما يتحمله العقل، وخلاف ما ترخصه دروس الماضي القريب.
ولأننا شرقيون، صرنا لا نحترم دروس الماضي، فقد ادخلنا الخرافة الى سوق السياسة، فنردد دائما “لا حل إلا باستسلام الاخر” ولا زعيم إلا صاحبنا واحد، وكأن العراق ثوب فصل على طول هذا “الواحد” وعلى مقاس هذه الخرافة التي طبخت في غرف مظلمة، والغريب ان مصنع الخرافة هذا انتج منقذا لكل جماعة، تتمسك به حتى الموت، حتى ان “المنقذ” نفسه صدق الكذبة مثلما صدق اشعب كذبته يوم قال للاولاد ان ثمة وليمة باذخة في منعطف اقصى البيوت، وحين هرعوا الى صوب الوليمة المزعومة ركض هو وراءهم وهو يردد: ربما الامر صحيحا فانال وجبة دسمة.
الجدل الدائر حول قيادة هذه المرحلة واهلية الزعامة المطلوبة ينزلق شيئا فشيئا (لأننا شرقيون) الى التقليل من شأن العقل وجدوى وضرورة وشرط مبدأ العمل الجمعي، كما يتجاوز حقيقة ان مشاكل العراق الكبيرة اكبر من ان يستوعبها عقل لوحده، أو ارادة شخص واحد، او رئيس حكومة بعينه، وانه لا صحة في الواقع لوجود “المنقذ” الذي سيأتي بالحلول، ويقضي على داعش والتهديدات الامنية ويأتي بالكهرباء وراحة البال، بوصفه الوحيد الذي يعرف فوق ما يعرفه الاخرون، ويعمل ما لايستطيع ان يعمله غيره، ويخطط ما لم يكتشفه احد من المخططين والاستراتيجيين من الخطط.
المشكلة، ان الذين جربناهم، والذين لم نجربهم، جاءتهم الفرص المواتية لكي يكونوا منقذين حقا فاخفقوا في ان يكونوا كذلك، ولكن لأننا شرقيون فاننا نكره دروس الماضي القريب وعبره، فنختار منقذين لا ينقذون حتى سمعتهم، وقطرة حياءهم من مآل السقوط.