نرى متزعمي التنوير يجمعون بين سوء التدبير وكثرة التقعير كدونكيخوت بعد أفول عصر الفروسية شعوبنا تتردد بين ارهابين: مادي تمثله سلفية التثوير ورمزي تعبر عنه سلفية التنوير <
سبق وحللت خطاب بعض الناطقين باسم السلفية التنويرية (الإرهاب الرمزي) وخطاب السلفية التثويرية (الإرهاب المادي)، دون أن أبين وجهها الدونكيخوتي بصنفيه الديني والعلماني التقليديين الدونكيخوتية التي تعبث بالرأي العام الشعبي من خلال مصارعة نواعير الهواء جبنا يحول دون أصحابها، ووقوف الموقف الشجاع المناسب لأفكارها. فهم بصنفهيم يؤرجحون شباب الأمة بين توهمات البطولة و تهويمات السفولة كدونكيخوت مع تقليد ينسون فيه القولة الشهيرة بأن التاريخ عندما يتكرر ينحط في الثانية من شمم المأساة إلي حضيض الملهاة: فلا فولتير أو روسو ولا شي غيفارا أو جياب بقابلين لأن يتكرروا إلا في نسخ مشوهة هي ما نراه عند غلاة التنوير والتثوير العربيين! لذلك فأغلبهم هو في الحقيقة الحليف الموضوعي والذاتي لعقيدة أنظمة الاستبداد المحلي ونظام الاستبداد العالمي الذي يحكم العالم مباشرة أو بواسطة أنظمة بلدانهم الاستبدادية. وهم لو فرضناهم جدلا بلغوا إلي سدة الحكم لكانوا من جنس الحكام الحاليين أو ربما أشأم. وما معارضة بعضهم الصالونية للأنظمة المستبدة في الداخل واستعمال معولهم الدائم لتهديم الحصانة الروحية مهما أوهموا بأنهم يجادلون في تشويهاتها لا حقائقها بقادرة علي مخادعة أي كان لما تبين من حلفهم الذاتي والموضوعي مع أسيادهم في الداخل المتحالفين مع سيد أسيادهم رب العالم في حربه النفسية علي الشعوب المستضعفة. فها نحن نري متزعمي التنوير بعد أفول عصره، يجمعون بين سوء التدبير وكثرة التقعير- تماما كما حدث لدونكيخوت بعد أفول عصر الفروسية - فيتصرفون تصرف المعتزلة سعيا إلي تأسيس ديكتاتورية إيديولوجية رسمية خدمة للطغيان، دون مشروع المأمون والمعتصم قد يشفع لهم ولم يبق إلا فقدان الحكم شرعيته الطوعية وآل إلي سلطان مرتزقة الجيش. ها هم يصارعون النواعير التي لم يعد أحد يطحن حبه فيها ويغازلون الديكتاتورية الاستئصالية علي المستويين الوطني والدولي. وها نحن نري متزعمي التثوير بعد أفول عصره كذلك تماما كما حدث للخوارج يعودون إلي تهديم كل معالم الحضارة ليؤفغنوا الشعوب الإسلامية ويصوملوها خلطا بين المقاومة التي تبني شروط الحضارة والتهديم الذي ينكص إلي قيم الجاهلية والبداوة رغم طلائها الظاهر بقشور الفقه الإسلامي. يعلم كلا الحزبين أنهم قد خسروا المعركة بكل أبعادها منذ أن بدأت ثورة التحرير العربية الثانية، الثورة التي كانت علامتها الأوضح بداية الاستعمار المباشر الثاني في العراق وأفغانستان، ومنذ أن عادت إلي كل بلاد العرب بلا استثناء القواعد العسكرية. فالتنوير والحداثة والتثوير والحرية، تغير صفهما وأصبحا بيد ثلة من مخلصي العلمانيين والإسلاميين المؤثرين في التاريخ الكوني، إيجابا بسعيهم لتحقيق القيم السامية وسلبا بحرب أعداء هذه القيم عليهم. فبمجرد الانخراط في هذه العملية التحريرية الثانية احترفت هاتان الجماعتان الثرثرة في ما يظنه أصحابهما معركة التنوير، فإذا هي صراع بينهم وبين بعض المتخلفين من فقهاء الأزهر إذ يفتون في إرضاع الكبير وشرب البول المقدس. وإذا قصدهم الحقيقي الحملة المسعورة علي كل قيم الأمة دون أن يعلموا- للجهل المطبق بزعمائهم - أن كل التنوير الغربي الذي يلجأون إليه في مصارعة الخرافة تجاوزتهم إليه الأمة منذ القرن الرابع عشر الميلادي لما كتب ابن خلدون مقدمته. كما تركوا الثانين ينزلون بمعركة التثوير إلي ما يشبه حروب القبائل كما في دولة طالبان ودولة المحاكم ومصارعة بعض المتخلفين من أمراء الحرب، إذ يعودون بالشعوب إلي ما دون البداوة البادية. ما أريد وصفه في هذه المحاولة، وصفا يحدد طبيعته الفلسفية فييسر علاجه استكمالا لتحليل خطاب القاعديين ودنكيخوتيتهم في غير موضع، هو تحليل خطاب بعض التنويريين ودنكيخوتيتهم لبيان معضلتهم الأساسية منطلقا مما يبدو لهم أكثر الأشياء دلالة علي عمق فكرهم وعلي صحة نظرتهم أعني من الفتويين الأخيرتين اللتين تفضحان طبيعة نقدهم فضحها طبيعة الموقف الذي يقفه القائلون بهما: فتوي إرضاع الكبير وفتوي شرب البول المقدس. ويقتضي ذلك تحقيق غايتين أولاهما تمهد للثانية منهما وهي القضية الأساسية التي تتفرع عنها مسائل هذه المحاولة: الأولي: هي تصنيف هذه النخب تركز علي التفاهات لتلهية الجماهير عن قضاياها المصيرية، ومن ثم فأصحابها يوجدون علي هامش التاريخ. والثانية: هي تحليل طبيعة الظاهرة التي لو فهمت علي حقيقتها لتبين أن ما ليس بعادي هو عدم اعتبارها أمرا عاديا. تصنيف النخب الدونكيخوتية قل أن تجد من يجهل أن دونكيخوت الاسباني من مخلفات أمراض الخيال الوسيط: فروسية وهمية يصارع صاحبها أذرع النواعير في هضاب أوروبا الوسيطة وسفوحها. ولا أظن مثقفي التنوير والتثوير يجهلون ما شاع في أدبيات الجدال بين الفرق من وصف المعتزلة بصفة مخانيث الخوارج دلالة علي كونهم مثلهم من حيث القصد ودون شجاعتهم في الذهاب إلي غاية موقفهم. ويبدو أن لكل عصر وحضارة دونكيخوتهما رمزا إلي الفروسية الوهمية في النزال والجدال: أحدهما يرمز إلي اضطراب في العمل الفعلي والثاني إلي اختلال في العمل الرمزي فيشوشان علي فعل التاريخ الحر والمستقل بتعطيل الإبداع الرمزي والمادي وتشجيع التقليد إما للماضي الذاتي أو للماضي الأجنبي. ذلك أن شعوبنا أصبحت حالها تتردد بين نوعين من الإرهاب أحدهما مادي وتمثله القاعدة المعلومة وهي في مصطلحنا هنا سلفية التثوير التي تخلط بين الأصالة أو ماضينا ومثال الحياة الدينية الأعلي، والثاني رمزي ويمثله ما يناظر القاعدة حتي وإن لم يجتمع تحت اسم واحد، وهي في مصطلحنا هنا سلفية التنوير التي تخلط بين الحداثة أو ماضي الغرب، ومثال الحياة الدنيوية الأعلي وذلك منذ أن توقفت الحرب الباردة: 1- فالإرهاب العلماني الذي لم يبق منه إلا بعده الرمزي، ممثلا بسلفية التنوير من الليبراليين الجدد، وهم في الحقيقة ورثة اليسار اليتيم بعد وفاة الاشتراكية السوفييتية والأنظمة العربية القومية التي كانت تحالفه. 2- والإرهاب الديني الذي لم يبق منه إلا بعده المادي لسلفية التثوير وهم في الحقيقة ورثة اليمين اليتيم منذ ولادة الإمبراطورية الأمريكية التي لم تعد بحاجة للحلف مع الأنظمة العربية الدينية. أما غالبية التيارين العلماني والديني أعني المخلص منهم لقضايا الشعوب والإنسانية فإنهم كانوا ولا يزالون يحاولون المشاركة في تحقيق شروط النهوض، إلي أن باتوا اليوم يشاركون مباشرة في عمل التاريخ الكوني كما يتبين من صراعهم المقاوم لإمبراطورية الشر الرمزي (إسرائيل) وإمبراطورية الشر المادي (أمريكا) في الأرض العربية خاصة، والإسلامية عامة، وفي العالم بصورة أعم. لكن دونكيخوت العرب أعني العلمانيين الدينيين الذين صاروا يتامي منذ نهاية الحرب الباردة فإنهم يترددون بين الإرهاب الرمزي باسم التنوير والإرهاب المادي باسم التثوير كما تردد الخوارج في الماضي بين الإرهابين. لكنهم يضيفون إلي هذين المرضين ما بات بينا للعين المجردة الحلف الموضوعي بل والذاتي مع أمريكا وإسرائيل علي تهديم كل مقومات الأمة. فكلا الفريقين يستمد وجوده من ثمرات تطرف الفريق الثاني والضحية ليس هو إلا الوعي الشعبي الذي يتلاعب به قسم من المثقفين القدامي بفتاواهم السخيفة، وقسم من المثقفين المحدثين بتركيزهم علي هذه الامور . فقد حولوها إلي نقد للدين ذاته بأسلوب هو أيضا من جنس الفتاوي وإن بمرجعية مختلفة: فقهاء السلطان الداخلي في المؤسسات الدينية والثقافية المحلية، وفقهاء السلطان الخارجي في المنظمات الدولية والمؤسسات الثقافية الدولية. وكلاهما يدل موقفه علي الخلط بين الدين والشعوذة أساسا لفتاوي رجال الدين ونقدها العلماني وعلي الخلط بين الحب والبرنوغرافيا أساسا لفتاوي رجال العلمانية ونقدها الديني. وبذلك فإن البعض من النخب العربية يشبه دنكيخوت في ما يريد أن يقحم الأمة فيه من معارك وهمية، وهي نخب تقبل التصنيف السياسي التالي الذي يصح عليها منذ نهاية الحرب الباردة. فهي تتألف من صنفين مضاعفين بعد أن تميزت في النخبتين الحاكمة والمعارضة معايير الفرز الواضحة بين الإخلاص للقيم الإنسانية والعمالة لأعدائها ليس في مستوي الأوطان فحسب بل في كامل المعمورة وخاصة منذ أن زالت الحجب التي تخفيها بما تمثله المقابلة بين القطبين في صراع الحرب الباردة. فصنف نخب الحكم والمعارضة الرسميين، وصنف أدواتهما في الزعزعة المتبادلة حسب صنفي الأنظمة العربية الحاكمة باسم الإسلام والحاكمة باسم القومية العربية، قد تخلق فيهما صنفان جديدان يقبلان التحديد بمعيار لم يعد خاضعا للمقابلة بين القطبين بل ينطبق علــــيه معيار المقابلة بين الإخلاص للمصلحة الوطنية والقيم الإنسانية والعمالة الصريحة للقطب الواحد عداء للمصلحة الوطنية والقيم الإنسانية (مباشرة أو بصورة غير مباشرة) ذي الرأسين الرمزي (إسرائيل) والمادي (أمريكا): 1- صنف النخب ذات التوجه السلبي بفرعيها: أعني بقايا النخب التي كانت تؤدي دور أداة الأنظمة الدينية، وحليفهم الأمريكي في زعزعة الأنظمة القومية وبقايا النخب التي كانت تؤدي دور أداة الأنظمة القومية وحليفهم الأمريكي في زعزعة الأنظمة الدينية. 2- صنف النخب ذات التوجه الإيجابي بفرعيها: أعني النخب اليسارية التي كانت متحررة من التبعية للاتحاد السوفييتي واليمينية الحقيقية التي كانت متحررة من التبعية للولايات المتحدة وكلتاهما كانت ولا تزال تسعي إلي تحقيق شروط النهوض المنظم وعلي علم بأدوات الفعل التاريخي الوحيدة الممكنة أعني الاجتهاد (العمل علي علم) والجهاد (استعمال القوة الشرعية مقاومة وقياما). طبيعة الظاهرة وطابعها العادي سيتبين لمن يحلل الأمور بموضوعية أن العلمانيين يشتركون مع التقليديين في حصر همهم الأسمي في مواضع نقائض الوضوء حتي وإن كانت الغاية مختلفة: كلاهما تدور فتاواه حول هذه المواضيع بل لعلهم يشتركون في ممارسات تجعل هذه المواضع الهم الأول والأخير لفكرهم ووجدانهم. وإذن فالفرق الوحيد بين الموقفين هو أن مفتيي الشرع يتحدثون عن بعض ظاهرات الشعوذة ويخلطون ذلك مع معركة الحريات الأساسية: بل هم يعطلون هذه المعركة لأن الأنظمة مكنتهم من أكثر من هذه الحريات التي تدور حول مواضع نقض الوضوء التي صارت مباحة في الساحة بل هي أصل البديل من الفلاحة قصدت السياحة. لكن الجميع يخلطون بين الدين والشعوذة في فتوي حقوق الله ونقدها وبين الحب والبرنوغرافيا في فتوي حقوق الإنسان ونقدها. فالخلط بين الدين والشعوذة عند فقهاء الشرع الذين من هذا الجنس وعند نقادهم من العلمانيين هما طبيعة الظاهرة الأساسية التي يدور حولها هذا الجدل وفي تبادل التهم بين الحزبين اللذين يستحقان من ثم الوصف بالدونكيخوتية بل هما السمة الأساسية للحزبين ليس في تبادل التهم فحسب بل وكذلك في حقيقتهما الفعلية. ويكفي للاقتناع بهذا مراجعة مواقع الحزبين وإحصاء ما يدور من كلام علي فتاوي فقهاء الشرع المزعومة (والمواقع لا تحصي) وفتاوي حكماء الوضع الموهومة (مثل موقعي ألاف والأوان ). وسأميز في هذه المحاولة بين أمرين: 1- الأول هو الفتاوي التي يسخر منها النقاد ودلالة هذه السخرية إذا حللناها بموضوعية. 2- الثاني هو الظاهرات التي يتعلق بها الإفتاء والنقد ودلالة عدم فهم طبيعتها إذا حللناها بموضوعية. فأصحاب الفتوي من الحزب الديني وأصحاب النقد من أصحاب الحزب العلماني (وهو نقد مستند إلي فتاوي ضمنية سنري طبيعتها وطبيعة مرجعيتها) لا يخلو الأمر من أن يكونوا صادقين وذلك حد عقلهم أو منافقين ويستعملونها لغاية في النفس هي خدمة الأنظمة التي تستخدمهم. كما أن الظاهرات التي يدور عليها الكلام في الفتوي والنقد لا تخلو من أن تكون ذات دلالة حقيقية (وهي دلالة مطابقة لحالة الصدق في الفتاوي ونقدها) أو ذات دلالة مجازية (وهي دلالة مناسبة لحالة النفاق في الفتاوي ونقدها) عند كلا الحزبين. وتحليل هذه المعاني الأربع يؤدي إلي بيان العلل التي أوجدت هذه الدونكيخوتية العربية عند بقايا التوظيف الإرهابي بعد نهاية الحرب الباردة: بقايا توظيف الدين لزعزعة الأنظمة القومية وبقايا توظيف العقل لزعزعة الأنظمة الدينية خلال الحرب الباردة. وبذلك تكون المسائل التي تحتاج إلي فحص كما يلي: 1- الفتاوي ذات الأصحاب الصادقين من كلا الحزبين الديني والعلماني ماذا تفيد؟ 2- الفتاوي ذات الاصحاب المنافقين من كلا الحزبين ماذا تفيد؟ 3- الظاهرات التي تتعلق بها الفتاوي عند أخذها في دلالتها المجازية ماذا تفيد؟ 4- الظاهرات التي تتعلق بها الفتاوي عند أخذها علي حقيقتها ماذا تفيد؟ 5- وأخيرا علل وصفنا لهذه الظاهرة والفتاوي المتعلقة بها إيجابا وسلبا بالدنكيخوتية العربية ودلالته. الفتاوي ذات الأصحاب الصادقين من كلا الحزبين الديني والعلماني ماذا تفيد؟ ليس يمكن لأحد أن يجزم بأن كل المدمنين علي الكلام في هذه الأعراض العجيبة التي وصفنا ممن يشك في إخلاصهم للدين أو للعقل بل يمكن أن يكون بعضهم حقا من الصادقين حتي وإن كان ذلك دالا في الأغلب علي نكوص أصاب النهضة حتي كادت تصبح مدار حرب أهلية بين سلفيتين، إحداها تريد العودة إلي ماض أهلي ترفعه إلي درجة التطابق مع المثال الأعلي من قيم الدين فتحطه إلي الشعوذة أو الفتيشيزم الأخروي (تقليد الصدر الذي هو ماض ذاتي وهو أمر مستحيل) والثانية تريد السعي بنا إلي ماض أجنبي ترفعه إلي درجة التطابق مع المثال الأعلي من قيم العقل فتحطه إلي الشعوذة الدنيوية أو الفيتشيزم الدنيوي (تقليد الحداثة التي هي ماض أجنبي وهو أمر مستحيل ). ويكاد كلا الحزبين يجمع أغلب معتنقيه بأن حربهم تصدر عن تناف مطلق بين الدين والعقل. لا شك إذن أنه يوجد في المنتسبين إلي هذين الحزبين من هو صادق في معتقده وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا مصدرا لإشكال يمتنع علاجه. فلا العقلاني ولا الروحاني يمكن أن يكونا مستبدين إذا صدقت منهما الطوية في طلب الحقيقة والعمل بالروية، فلا تكون الظاهرة ولا ما يتعلق بها من فتوي ونقد من الأعراض المرضية بل هي من عودة الوعي التاريخي إلي التنافس القيمي الذي هو من محركات التاريخ الأساسية. لذلك فكلامنا لا يتعلق بهؤلاء الصادقين من كلا الحزبين: إذ هم يمثلون السواد الأعظم في التيارين بل الكلام مع المتلاعبين بالرأي العام الشعبي بالفتاوي التي تقدم علي أنها تثوير وبالرأي العام المثقف الذي يقدم إليه النقد وكأنه فعل تنوير في حين أنه عين التغرير في حربهم علي المقومات باسم الرد علي ما يعلم الجميع أنه من الشعوذات. ويعلم الجميع أن الخلط بين الدين والشعوذة ليسا بالأمر الجديد في حضارتنا فضلا عنهما في الحضارات الأخري بل هما يمثلان ظاهرة واحدة عرفتها حضارتنا وكانت عملية التنوير قد بدأت بها منذ القرن الرابع عشر للميلاد لإصلاح مفهوم التنوير والتثوير: إنها ظاهرة التصوف الشعبي الذي يختلط فيه الدين والشعوذة (تحليلات ابن تيمية) وبين العمل السياسي المنظم والحركات الثورية الفوضوية باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (تحليلات ابن خلدون). ويعلم كل من هو مطلع علي فكر هذين الرجلين أنهما قد حاولا تحرير الدين والسياسة من الخرافة والوهم والعودة بهما إلي ما يمكن أن يحررهما من الشعوذة ومن توظيفهما في السياسة. وبفكر هذين الرجلين بدأت النهضة لما كانت سوية وقبل أن تنكص بتأثير من الحرب الباردة التي صنعت لنا الإرهابين في الوطن العربي: فالإرهاب الديني كان حربا من الأنظمة الدينية وحليفها الأمريكي علي الأنظمة القومية وحليفها السوفييتي والإرهاب العلماني كان حربا من الأنظــــمة العلــــمانية وحليفها السوفييتي علي الأنظمة الدينية وحليفها الأمريكي. والدونكيخوتية العربية هي بقايا هذين الإرهابين رغم أن الإرهاب العلماني لم يبق منه إلا بعده الرمزي والإرهاب الديني لم يبق منه إلا بعده المادي. لكن هذه الظاهرة بفرعيها والتي نحللها لنبين طبيعتها ما هي صارت مطية للبعض ممن يفسد التنافس القيمي الصحي في المجتمع فيوظفه في معاركه السياسية الداخلية أو في معركة الهيمنة العالمية علي الثقافات التي بحصانة أهلها شيء من الضعف والوهن. فالفتاوي الدينية (باسم حقوق الله أو الشرع) والفتاوي العقلية (باسم حقوق الإنسان أو القانون الوضعي) لم تعد إلا مجرد أداة وسلاح يرفعهما المتصارعان في المعركة الدونكيخوتية التي نتكلم عليها. ويلجأ أحدهما إلي الرأي العام الشعبي المحلي لتهييجه ضد كل فعل تنويري حتي عندما يكون صادقا في حين يلجأ الثاني إلي الرأي العام النخبوي الغربي لاستعدائه ضد كل تأصيل حتي عندما يكون صادقا.فلا يكون القصد في الحالتين البحث في شروط التطوير السوي والسلمي لقيم الشعب والنقد المتزن لكلتا المرجعيتين بل مجرد استفزاز الشعب . وهذه هي جماعة الأعراض المرضية التي ينبغي علاجها لأنها هي التي تمثل علامات النكوص الذي أشرنا إليه. فمن حق كل النخب وفي كل الشعوب أن تتجادل حول مسائل القيم دينية المرجعية كانت أو عقليتها لكن ليس من حقها أن تحولها إلي مجرد سلاح لتهديم مستقبل التطور السوي والحر لثقافات الشعوب المضطهدة واضطهادها باسم مرجعية الدين أو مرجعية العقل اللتين صارتا معصومتين: فالناقد لتوظيف المرجعية الدينية يصبح في عرف اصحاب الفكر التبسيطي خائنا للأمة والناقد لتوظيف مرجعية العقل يصبح اخوانجيا. ومثلما أن تهمة اخوانجي أصحبت عند الحزب التنويري المزيف ليس مجرد تهمة فكرية فحسب بل هي باتت من وشاية تحرض الأنظمة الحاكمة علي الخصوم لإزاحتهم فإن تهمة الملحد تمثل عند الحزب الديني المزيف وشاية تحرض الشعب علي الخصوم لإزاحتهم. أما من اجتمع عليه الحزبان فوجهت إليه التهــمتان مثلي فحدث ولا حرج ! الظاهرات التي تتعلق بها الفتاوي عند أخذها في دلالتها المجازية ما ذا تفيد؟ لم ينتبه الدنكيخوتيون العرب إلي أن تصوراتهم تقتضي بالجوهر أمورا تتنافي مع العصر رغم أن ريقهم البارد لم يمكنهم من فهم أنها تؤول جميعا إلي التنوير أو التأصيل القسريين اللذين يفترضان نخبة استبدادية تحقق أمانيها بالانقلابات العسكرية كما بدأت منذ الثورة الفرنسية عند التنويريين ومنذ الخميني عند التأصيليين إلي آخر مراحل الحرب الباردة وأنها مبنية علي عبادة أوثان سواء كانت باسم الدين أو باسم العقل وهي تؤدي في الواقع الفعلي عند الفريق الأول إلي ما هو أبشع مما يستبشع الفريق الثاني والعكس بالعكس. وليكن مثالنا قضية البول المقدس التي يتكلم عليها التنويريون نقدا لفتوي مفتي مصر الذي كنت أعرفه استاذا حكيما قبل أن يبتلي بخطة الإفتاء. الظاهرات التي تتعلق بها الفتاوي عند أخذها علي حقيقتها ماذا تفيد؟ لكن الأحداث نفسها فضلا عن الفتاوي التي يسيء بعض الفقهاء استعمالها كان ينبغي للتنويريين ألا يستغربوها من العامة وفي عصر غير العصر بل وحتي في كل العصور: فليس للشعوذة والخرافة في أذهان العامة حد أيا كان مستوي الأمة التي ننظر في سلوك شعبها من الولايات المتحدة إلي أدغال إفريقيا أو آسيا. لكن التنويريين رغم انتسابهم إلي الخاصة يؤمنون ببعض ما يتصورونه من أهم علامات الحداثة وقيمها يؤمنون بها قولا وفعلا هي عند التحليل وحتي بمنطق العصر أكثر مما يستغربون منه وبالمعني الحقيقي وليس بالمعني المجازي فحسب. وليس عجبي من سلوك الحداثيين ولا من سلوك العامة. فقيم الأشياء يحددها أفق الفهم العام والحال التي عليها نفسية الذات العامة المحددة لخاصيات الإدراك العاطفية، سواء كانت هذه الذات فردية أو جماعية بل أعجب من عدم انتباه الحداثيين إلي وجه الشبه بين سلوكهم مع ما يعتبرونه جــديرا بأن يعبد ويقدس من منظورهم وسلوك من يستقذرون منه ما فعل مع ما يستأهل أن يعبد ويقدس من منظوره إن صح أنه قد وجد من كان يستلذ بالشرب من بول الرسول: فكلتا الظاهرتين تفسران بنفس الدافع حتي وإن اختلف موضوعه اعني الحب الجنوني للمعبود أو لما له به صلة. وأخيرا لماذا وصفنا هذه الأعراض بعلامات الدونكيخوتية؟ ماذا يفيد ظهور هذه الأعراض الإرهابية بفرعيها الرمزيين وبفرعيها الماديين؟ ذلك هو الوجه المرضي من النهضة العربية الإسلامية التي يحاولون النكوص بها إلي معارك دونكيخوت بعد أن تحررت منهما في بداية النهضة فكانت تنويرية (ضد الشعوذة والخرافة رمزا إليها بالحرب علي الزوايا والتصوف الشعبي في حركات التحرير) وتثويرية (ضد الاستبداد والظلم رمزا إليــــــها بمحاولات تدريس مقدمة ابن خلـــــدون في المعاهد الدينية) بحق لتحررها من صراع الحزبين المتقابلين اللذين كانا يتعاونان في معركة التحرير والتنوير؟ فالتنوير والتثوير اللذان يتكلم باسمهما مفسدو الحزبين العلماني والإسلامي لا يمثلان إلا البقية الباقية من الحرب الباردة. وهي بقيــــــة رغم استعمال الــــعدوين الأمريكي والإسرائيلي لها في حربهما علي مقومات الأمة وصمودها تبــــــقي أمرا تافها علي هامش التاريخ الفعلي الذي يصنعه التنوير والتثوير الفعليان. فمن فهم هذه الحقيقة من شباب الأمة سواء كانوا علمانيين أو إسلاميين اتحدوا في صنع التاريخ بأداتيه السياسيتين الوحيدتين أعني بأداتي السياسة الشـــــرعيتين الشارطتين للنجاح في الصراع التحريري الجاري في كل مواقع البناء بدءا بالمقاومة (ساحات الــــــنزال لربح الحرب المادية) وتثنية بالقيام (ساحات الجدال لربح الحرب النفسية) من أجل إحياء قيـــــم الأمة ورفع ما انحط من وعيها القيمي إلي مراتب الممكــــــن من المثال دينيا كان أو عقليا في المستويين الرمزي والفعلي للإسهام في التاريخ الإنساني من منطلق الفعل لا رد الفعل. أما هؤلاء الذين يحاربون نواعير الطواحين فإنهم بحزبيهم يرددون أسخف كلام ثم يتساخفون بعضهم البعض في مسرح يبكي أكثر مما يضحك لأن التقدمي فيه يتبين أنه أكثر رجعية من الرجعي والتأصيلي فيه يتبين أنه أكثر اغترابا من المغترب. إن هؤلاء الدناخيت التنويري منهم مثله مثل التثويري ليس عملهم بمختلف في شيء عن عمل أتباع القاعدة. لذلك اعتبرناهم مخانيثها. فهم الوجهان المرضيان من ساحة المعركة الرمزية مثلما أن التابعين للقاعدة هم وجها المعركة المادية المرضيان إذ الإرهاب المادي الذي تقوده يجمع مجانين اليمين واليسار السابقين من ذوي العنف المادي جمع الإرهاب الرمزي لمجانين إرهاب اليمين واليسار السابقين من ذوي العنف الرمزي حتي وإن لم تجمعهم بعد قاعدة لظنهم أنهم يمثلون القمة. وليس ذلك كله إلا من ثمرات الفراغ الذي حصل بعد نهاية الحرب الباردة. فهم بصنفيهم ليسوا إلا خلايا الإرهاب التي أنتجها قطبا العالم والأنظمة العربية خلال تبعيتهما للقطبين سعيا منهما كليهما إلي التقويض المتبادل ومن ثم إلي تقويض مقومات الوجود السوي للأمة. وقد كانا متلازمين تلازم بقاياهما الحاليين في المعركة الدونكيخوتية التي وصفنا إذ ان أحدهما يتوجه إلي القطب الروحي وحصانة الأمة الروحية باسم قيم الدنيا والثاني إلي القطب المادي وحصانة الأمة المادية باسم قيم الدين دون أثر يذكر علي التاريخ الفعلي الذي يجري في الساحة الثانية رغم ما يقدمانه من خدمات للدكتاتوريات الداخلية وللإمبراطوريتين الأمريكية والإسرائيلية مباشرة أو بتوسط خدمة الدكتاتوريات المحلية. الخاتمة إذا كان القصد بالتنوير تحقيق ثورة قيمية وكان ذلك يجري في عصر الديموقراطية فمعني ذلك أن كل مدخل آخر غير مدخل التغيير الذي ينطلق من القيم التي تحرك الجماهير بطواعية لن يكون قابلا للنجاح وسيبقي دونكيخوتية مطلقة. فسواء نادوا بالديموقراطية الشعبية أو بالديموقراطية البرجوازية يبقي تحريك الشعوب للفعل الطوعي أي الذي لا يعتمد علي العنف فعلا يقتضي أن ننطلق من التثوير الداخلي للقيم التي تؤمن بها الأغلبية دون استفزاز يدل علي غباء المستفز وعدم فهمه غرائب الوجود الإنساني التي يدل استغرابها علي ضيق الحوصلة وليس علي سعة الأفق المعرفي فضلا عن الخلقي: إرهاب القاعدة الرمزية يغذي إرهاب القاعدة المادية واستفزاز الشعوب في مقدساتها بحجة الثورة علي الشعوذة حتي لو كان صادقا هو من الغباوة الاستراتيجية خاصة إذا كان ممارسه ممن يمارس ما أكثر منه شعوذة إذ لا فرق بين خلط الدين بالشعوذة توظيفا لحقوق الله في المعركة السياسية وخلط الحرية بالتسيب القيمي توظيفا لحقوق الإنسان في نفس المعركة.