قد حان الوقت، إن لم يكن قد فات، للنظر بعين فاحصة إلى الأخطاء التى ارتكبناها، حاكما ومحكوما، فى حق وطننا وحق أنفسنا منذ أكثر من نصف قرن. وبدلا من إنكار وجود المشكلة الجذرية والتشبث بنظرة ضيقة، تنحصر فى أحداث معينة وإن تكررت، فإنه يتعين علينا مصارحة أنفسنا بأصل البلاء ومواجهته بضمير قومى واضعين نصب أعيننا هدفـا أوحد ينحصر فى إخراج مصر من مستنقع الفرقة والهمجية الذى أغرقنا فيه الجهل وتشويه الحقائق، إن لم يكن التخاذل المعيب بل والتآمر الخبيث، وذلك كى نتجنب النتائج الوخيمة التى سجلها التاريخ الحديث فى دول أخرى.
ويستميح كاتب هذا المقال القارئ عذرا إذ يحضرنى فى هذا المقام ما خبرته شخصيا عن قرب من تجربة مريرة حين كنت قاضيا بالمحكمة الدولية بشأن جرائم الحرب المرتكبة فى حق مسلمى البوسنة، فبعد أن كان مواطنو دولة يوغوسلافيا السابقة ينعمون بالعيش فى دولة قوية وثرية دون تفرقة، ظهر بينهم من يبعث دواعى الشقاق تأسيسا على اختلاف الدين، مما دفع الغالبية المسيحية الصربية إلى محاولة إقصاء الأقلية المسلمة ومعاداتها. وانتهى الأمر بتفتت دولة يوغوسلافيا كما هو معلوم. ولا شك أنـّه كان فى الإمكان احتضان الأغلبية الصريبة المسيحية للأقلية المسلمة، والاستجابة لمطالبهم العادلة فى المساواة، بدلا من إلقاء اللوم على هذه الأقلية لمطالبتها بحقوقها المشروعة. ويؤكد ذلك ما قرره علماء الاجتماع من أن العبء الأكبر فى إقرار السلام الاجتماعى يقع على عاتق الأغلبية مؤكدين أنَّ الأقليات تنزع بطيبعتها إلى المسالمة إلى أن تحاصر على نحو يضطرها للرد العنيف.
إن ما مرت به مصر من أحداث وممارسات رسمية واجتماعية مما يندى له جبين كل مواطن مصرى واعٍ لم يعد خافيا رغم محاولة طمس الحقائق التى يشهدها العالم بأسره. ويكفى الإشارة فى هذا المقام إلى بعض ما تم ارتكابه فى مصر خلال عقود عديدة للإحاطة بأبعاد المأساة الصارخة والواضحة للعيان. فقد شهدنا مسلسلا لأحداث دامية منذ سبعينيات القرن الماضى كان ضحيتها مواطنى مصر من المسيحيين بدءا من الخانكة والزاوية الحمراء مرورا بالكشح ونجع حمادى وأبو قرقاص وصولا إلى كنيسة القديسين بالإسكندرية، فأطفيح وإمبابة والماريناب. وجدير بالذكر أنَّ تقريرا رسميا رفيع المستوى صدر عقب أولى تلك الأحداث عن وكيل مجلس الشعب، الدكتور جمال العطيفى، أحاط بكافة نواحى المشكلة الطائفية فى ذاك الوقت، متضمنـا دراسة كاملة وحلولا ناجعة من كافة النواحى. غير أنَّ هذا التقرير التاريخى لم يرَ النور بل شهدنا عكس ما ورد به. ففى المقام الأول دأبت مؤسسات الدولة المسئولة على عدم ملاحقة من ارتكبوا الجرائم البشعة المعروفة من قتل ومن حرق لدور العبادة مما أدى إلى اطمئنان مرتكبيها وتشجيعهم على مواصلة جرمهم فى حق الوطن دون خشية عقاب. ومما زاد الأمر استفحالا إطلاق العنان لخطاب دينى متعصب يبث الكراهية وذلك فى كافة وسائل الإعلام، إن لم يكن فى أركان الشوارع بل فى معارض الكتاب. وقد وصل الأمر إلى قيام كتاب ذوى صلة بالسلطة الحاكمة بتكفير من هو غير مسلم فى مؤلفات تصدرها مؤسسات علمية ودينية على مستوى مجمع البحوث الإسلامية. وكذلك قيام بعض الجامعات بل والقضاء نفسه بتكفير كبار المفكرين والعلماء. ومن المعلوم أن هذا الإساءة فى حق الإنسان المصرى امتدت إلى المؤسسة التعليمية التى دأبت على شحن أبناء مصر بالكراهية ورفض الآخر المختلف فى العقيدة، فى الكتب الدراسية عامة وفى كتب التاريخ التى تجاهلت التاريخ القبطى خاصة، بحيث يجهل من ينهى تعليمه أن الأقباط جزء أصيل من شعب مصر. وقد ترتب على ذلك ضعف فرص نجاح مواطنى مصر من الأقباط فى أية انتخابات سواء لجهل الغالبية المسلمة، بمن فيهم المثقفون، بوجودهم أو لروح الرفض والتعصب المقيت الناجم عن الخطاب الدينى والإعلامى. ولا يخفى مشاركة مؤسسات الدولة الرسمية فى تعميق تلك الهوة بين المواطنين بإبعاد المواطنين الأقباط من المشاركة فى المناصب القيادية من محافظين ورؤساء جامعات وعمداء ورؤساء مجالس إدارات، دون إعمال لمعيار الكفاءة. هذا بالإضافة إلى التفرقة الرسمية فى مجال بناء دور العبادة بشكل صارخ يتنافى مع أبسط حقوق المواطنة التى تقضى بالمساواة. وقد وصل الأمر إلى تجاهل مؤسسات الدولة الرسمية لمشروع القانون الذى أعده المجلس القومى لحقوق الإنسان منذ سنوات عديدة لتصحيح الوضع بشأن بناء دور العبادة، والذى كان من شأنه أن يحول ابتداء دون إهدار للدماء، وكذلك مشروع قانون عدم التمييز يقضى بعقاب رادع لكل من يستند إلى معايير أخرى تكون قائمة على أى تمييز خلافا لمعيار الكفاءة، فى تولى المناصب أو الترقية، سواء فى المجال العام أو الخاص والذى ظل معلقا إلى ان اصدر المجلس العسكرى منذ يوم مرسوما بقانون مكافحة التمييز.
وبديهى أنه يتعين البدء باتخاذ إجراءات رادعة وعاجلة للحيلولة دون استفحال الجرح العميق الذى أوشك أن يصيب الوطن فى مقتل، ومعاقبة كل من كان له يد فى جرائم ارتكبت فى عقود ماضية كان من شأنها تعميق الفرقة بين أبناء الوطن الواحد إن لم يكن بالجريمة أو التحريض عليها فبنشر الكراهية، كما يجب عدم استثناء المسئولين الذين أسهموا فى ذلك بعدم ملاحقتهم مرتكبى هذه الجرائم سواء عن عمد أو تخاذل أو ضمير ميت، مما أدى إلى استفحالها دون عقاب.
غير أنـَّه إذا كان الرجوع لسيادة القانون وإعمال العدالة الناجزة أمر عاجل لا بد منه، فإنَّ رأب الصدع العميق الذى أصاب مصر يكمن أساسا فى مراجعة صريحة وشجاعة لكافة نواحى المرض فى ثقافتنا وما تحتويه من رواسب، عاشت فى عقولنا ووجداننا نتيجة لفهم خاطئ ومضلل لأديان قامت على العدل والعلم والمحبة، وكان من شأنها أن تضعنا فى أولى الدول الرائدة فى حقوق الإنسان وليس فى ذيلها كما تشهد الإحصاءات الدولية. ويجدر أن يحظى الخروج من المستنقع وبناء حضارة مصر المهدرة بدعم صادق وكامل من كافة مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة الدينية والتعليمية والإعلامية بما يضمن عدم استغلال هذه المؤسسات فى تشويه الوعى الجماعى للشعب المصرى، وبخاصة أجيالنا الصاعدة التى سيعهد إليها بمستقبل هذا الوطن.
وغنى عن البيان أن المثفقين المصريين يقع عليهم العبء الأكبر فى هذه المرحلة، فهم وإن حققوا النجاح فى رصد أحوالنا الثقافية المتردية، وبخاصة فى مجال حقوق الإنسان، فإنهم ما زالوا بحاجة إلى الانتقال إلى مرحلة البناء الجديد لثقافة مصرية توحد ولا تفرق، يتصدون بها لتلك الهجمة العاتية التى جمعت بين التعصب من جهة، والتآمر الذى استغل من جهة أخرى بساطة الجموع كى يحركها لتحقيق أغراض تخريبية. ويتعين تشييد هذا البناء الجديد من ناحية على أساس من تاريخ مصر الناصع بوصفها أول ما يمكن تعريفه بدولة قومية تضم شعبا واحدا متجانسا منذ فجر التاريخ الإنسانى، وذلك حين توحد المصريون تحت حكم واحد عام 3200 قبل الميلاد، بحيث أصبح لجميع أفراده حقا متساويا فى المواطنة وملتحما دون انقسام حول أية انتماءات أخرى. ويتعين فى هذا المقام عدم الاقتصار على استلهام ثقافة عصر بعينه بمزاياه وعيوبه، دون باقى العصور التى أدت إلى تشكيل الوعى القومى لمصر، وأسهمت فى تأسيس وجودها الحضارى. ويتعين من ناحية أخرى إقامة هذا البناء بهدف إعادة مصر إلى مكانتها فى دائرة العالم المتحضر، عالم القرن الواحد والعشرين، وتمكينها من إطلاق طاقات أبنائها لمواجهة تحديات العالم الجديد الذى سبقنا بمراحل يُرجى اللحاق بها مهما كانت الصعوبات، حتى لا تخرج مصر من التاريخ إلى غير رجعة منكسرة ومنقسمة على نفسها