مسألة الثورة المضادة تعد من الطروحات النظرية والتطبيقية التي تواجه عادة الثورات الشرعية، أي تلك التي تعبر عن توجه الشارع وغضبه واتجاهه نحو ممارسات أي نظام سياسي رسمي، وارتبط هذا المفهوم بالهدم والتقويض والعمل على تفويت الفرصة على الثوار الشرعيين لتحقيق مطالبهم ومطامحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية،
ويعرف كل السياسيين مفهوم الثورة المضادة بأنها الثورة داخل الثورة طبقا لما ذكره الفرنسي دوبريه في كتابه الذي يحمل اسم ” ثورة داخل الثورة”، حينما قصد إلى توضيح أن هناك ثمة اشتباك حتمي بين الثورة وبين الوجوه القديمة الباهتة التي تجتر أحلام العودة، أو باختصار المعركة بين الفكر الإصلاحي الذي يميل للتغيير، وبين المنتفعين المتسلحين بصمت النخبة المحافظة التقليدية.
لكن في مصر الوضع يبدو مختلفاً جملةً وتفصيلاً؛ لأن الثورة المضادة جاءت باتجاهات وتيارات وطروحات متباينة ودخلت بإرادتها وبعض الوقت كرهاً في معارك مصيرية غير تقليدية مع الأنظمة الحاكمة التي اقتصرت على الإدارة العسكرية ومن بعدها الحكومة السيسيودينية ـ أي مزج الدين بالحياة السياسية الاجتماعية ـ المتمثلة في نظام الدكتور محمد مرسي الرئاسي الذي ظهر التسيد الإداري والوظيفي لجماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي الوليد.
ورأينا في مصر عدة ثورات مضادة بعضها يتسم بالشرعية، وبعضها ينتمي إلى المفهوم التقليدي لمعاني الثورة المضادة التي تقاوم التغيير للأفضل والإصلاح والنهوض، فكانت لدينا ثورة الفلول، وثورة الصناديق المعروفة بغزوة الصناديق الإسلامية أيام انتخابات مجلس الشعب المنحل، وثورة مدينة الإنتاج الإعلامي التي سميت في وسائط الإعلام بمدينة الإعلام الإسلامي، وأخيراً الثورة الليبرالية وهي الثورة المدنية الموجهة ضد الصعود السياسي المغلف بمرجعية دينية لجماعة الإخوان المسلمين.
ورغم أن الثورات المضادة في أصولها النظرية تشير إلى وجود صراع يقضي بنجاح وتسيد فصيل سياسي على فصيل آخر، إلا أن الثورات المضادة في مصر تحمل جانباً ثقافيا بمعنى أن الثورة المضادة في صراع ثقافي مع إحداثيات الثورة الراهنة، وكلتاهما تأبيان القضاء على الثورة الأخرى ، ورغم أن كلتا الثورتين تتفقان في اتهام الآخر بمساندة خفية من المشروع الصهيوـ أمريكي ، إلا أن كل ثورة على حدة تختلف في توجهها الثقافي إلى درجة القطيعة مع الثورة المضادة لها وهذا ما نراه في ثورة النظام السابق المضادة ضد الثورة الشعبية في يناير ، والثورة الدينية المضادة للثورة الشعبية ، وأخيراً الثورة الليبرالية المضادة للتيارات الدينية.
فكل ثورة على حدة تنفي وجود الآخر أيديولوجياً وهو الأمر الذي استلزم معه قطيعة ثقافية وسوء ظن تجاه الآخر، وهذه الثقافية التي تميز كل ثورة مضادة وأخرى شرعية أو مكتسبة هي التي تفرض على أصحابها مظهر الحضور في المجتمع ، فثورة مضادة تفرض الخروج والتظاهر في الميادين افتراضاً بأن التحشيد والتكثيف الجسدي هو مظهر القوة والتسيد ، وثورة أخرى مضادة ترى في اجتماعات الصالونات والفنادق والفضائيات ، وثورة مضادة تتسم بفكر المحاصرة والحصار وخنق العدو .وكل الثورات المضادة التي نراها في مصر الآن تعاني من ترنح الحاضر أو البقاء في ظل الفترة الراهنة دون التفكير في رهانات المستقبل ، وهي في ذلك لم تعِ أنها تطمس حاضرها وتاريخها السابق أيضاً، ولعل ذلك مفاده سيطرة نظرية المؤامرة الخبيثة على فكرها وسياساتها.
وفي ظل الثورة المضادة تظل المؤامرة هي أبرز المفاهيم المسيطرة على الحراك السياسي ، وما دامت المؤامرة حلت بأرض انتفت الوحدة والانتماء والبناء والولاء العميق للوطن ، وحلت معاني الولاء للجماعة أو الفصيل السياسي والانحياز المطلق للهوى السياسي الخاص. واليوم أصبحت الليبرالية هي الثورة المضادة لما تصر التيارات الدينية على تسميته بالحكومة الدينية واصفة بذلك النظام الرئاسي الحالي وحكومته ، رغم أن الملامح السياسية لهذا النظام وهذه الحكومة ليست ملامح دينية .
والتيار الليبرالي يظل تياراً غامضاً ومبهماً أحياناً لدى المصريين ، ومعظم الوقت يصبح فصيلاً مشوهاً لدى البعض الآخر، ذلك لأن معظم التيارات الدينية في مصر لا تستطيع الفكاك من فكرة أن المنتمين للليبرالية يعادون الإسلام والمسلمين رغم أننا لو أجرينا مسحاً سريعاً لكبار التنويريين في مصر لوجدناهم قامات وهامات شاهقة وباسقة في الفكر والتأليف الديني. لكن المشكلة التي تتمثل في فكر التيارات الدينية أن هناك بعضاً من المفاهيم لديها ترتبط بالتكفير والخروج على القيم والتقاليد الدينية مثل حرية التعبير والتفكير ، وتعدد الآراء ، والتنوير والاستنارة ، وغير ذلك من مفاهيم النهضة .
وربما العلامة الفارقة بين الثورتين القائمتين في مصر الآن هي صورة الدولة وطبيعة السلطة فيها، فالتيارات الدينية ترى أن الدولة هي إحدى منتجات الإسلام الحتمية لذلك يجب أن تكون حكومتها راديكالية وهي تؤمن بمنطق الخلافة أو الإمارة ، وهذا التوجه يكرس إلى تكوين سلطة الطاعة وتوجيهها ، بخلاف الدولة وطبيعتها من وجه نظر الثورة الليبرالية المضادة التي تصر على التعددية والاجتهاد المبني على النظرية والطروحات القائمة على التنظير والتخطيط والمراجعة ومراقبة الأداء.
والليبرالية بذلك تمثل ثورة مضادة لتلك الحكومات شبه الدينية ـ إن جاز التعبير ـ لأنها لا تضع حداً أدنى للمارسة السياسية بخلاف تلك الحكومات التي تعبر عن أيديولوجيات أصولية ثابتة ترفض التجديد والتغيير ، بل وتفرض غالباً قيوداً على ممارسة الفعل السياسي ، وهذه القيود هي ضرورة للحكم الذاتي المطلق . أما في الثورة المضادة وهي الليبرالية لا ترى أية ملامح لتلجيم الدولة سوى اللجوء إلى حدود وشرائط وضوابط القانون ، والتعلق بالمبادئ الدستورية التي تعبر عن مطالب ومطامح الشعوب التي تسعى إلى الديموقراطية ، والتظاهر السلمي بغير استلاب لحقوق آخرين أو استقطاب تمييزي ، وهي تلك الثورة التي لا تفكر في تصنيف الوطن وفق أطر مرجعية قد تتجمد تدريجياً حسب التسارع العالمي الراهن .
وبالرغم من وجود هذه الثورة المضادة وحضورها المتميز في الشارع الذي أصبح يزدجر من بعض التصرفات العالقة ببعض التيارات الدينية التي دخلت مضمار السياسة كرهاً إلا أنها تعاني بحق من مسألة ضعف الإرادة ، ولست ممن يؤيد فكرة أن هذه الثورة تعاني من التشتت والتحزب والأنانية ، لكن أؤيد بشدة مسألة ضعف الإرادة والافتقار إلى الحضور الجماهيري ، ولعل هذا مفاده ومرجعه يعود إلى نظرية الدوافع المضللة التي ترتكبها بعض الفصائل الدينية التي ترى في الليبرالية كفراً وضلالة وثمة انحلال أخلاقي.
وثمة أمر ما في تكوين الثورة الليبرالية المضادة يزعج الحكومات شبه الدينية ، وهو تركيزها المطلق على حرية التعبير في أطر أخلاقية تتفق مع قواعد وأدبيات المجتمع الإسلامي ، فالثورة الليبرالية محرضة بالفطرة ومدغدغة للطاقات والإمكانات الدافعة والمحركة للإبداع والتثوير ، وهذا ليس بغريب على النظرية الليبرالية في الفكر، حيث إن الفكرة الليبرالية ذاتها لا تنهض إلا على مفهوم الحرية، كما أنها لا تستقيم إلا بالضرورة الديموقراطية ، وهي في ذلك تركز على إطلاق الحريات للفكر والعمل السياسي دون أن تشير إلى نطاق المستفيدين بتلك الحريات.
والمشكلة الحقيقية التي تقف عائقاً بين فكر الليبراليين ومرجعية التيارات الدينية هي مشكلة حرية الاختيار ، حيث إن الفصيل الليبرالي يرى ضرورة التزاوج التاريخي بين التعددية الفكرية وبين الديموقراطية السياسية التي يجب أن تكرس لتداول السلطة وعدم الهيمنة المطلقة لفصيل سياسي وإقصاء الفصائل الأخرى.في حين أننا نجد الفصائل الأخرى اليوم تميل إلى الإقصاء والاستبعاد ونفي النخبة ، وموقف التيارات غير الليبرالية من النخبة والنخبوية هو موقف ذهني في الأساس وهذا ما تشير إليه كافة الكتابات السلفية تجاه الليبرالية كفكرة مستوردة ووافدة ضمن حركات وحملات الغزو الثقافي الغربي في البلدان الإسلامية.
الغريب في الثورتين هو موقفهما المتأرجح تجاه مظاهر الديموقراطية ، فالثورة الليبرالية المضادة في مصر ترى أن صناديق الانتخاب هي صك الشرعية الأول والمطلق لتعميق مفاهيم التعددية والديموقراطية وتداول السلطة في الوقت الذي تعلن فيه متأخراً أن هذه الصناديق لا تزال تعاني الاحتجاب عن الحرية ، أما الثورة الحالية المتسمة بالصبغة الدينية كانت وربما تظل في مرجعيتها الأصولية ترى في الديموقراطية نوعاً من الانحراف العقدي باعتبارها من وسائل تقسيم الأمة وتهديد استقرارها، ورغم ذلك فهي الرابح الأكبر من هذه العملية التي تمثلت في نتائج صناديق الاقتراع.
واليوم والثورة الليبرالية في طريقها لمواجهة الانفراد بالسلطة وغلبة التيارات الدينية عليها تؤكد ليل نهار على أن التعاليم الدينية الصحيحة لا تقود إلى الدولة ، بل تلك التعاليم تدعو إلى الخلاص من مخاطر الدولة وفتنة الدنيا معاً وهذا التحول في الخطاب كان نتيجة حتمية فرضها شعور السلطة الحالية بحلاوة طعم الإمبراطورية وغلبة الحكم .
وما يحدث في مصر الآن من قيام عدة ثورات مضادة للثورة الشرعية التي راح في سبيلها آلاف الشهداء هو شبيه ووثيق الصلة بفتنة العرب في أيام الصراع بين علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وبين معاوية بن أبي سفيان مع عدم تحديد أي من الفصائل لكليهما ، وهذا الصراع الراهن هو امتداد تاريخي لفكرة الصراع بين العقل والإيمان ، وبين المصالح الفئوية والمبادئ الإنسانية ، ولقد تنبأ بظهور هذا الصراع المفكر السوري برهان غليون في كتابه نقد السياسة الدولة والدين منذ فترة ، وكان سبب التنبؤ بهذا الصراع هو خلط الدين بالدولة ويعني بذلك الحزبية الدينية المرتبطة بالدولة .
وإذا كانت الليبرالية بمؤسساتها المدنية قد نجحت بالفعل ولو نسبياً في استيعاب التنوع الثقافي ، فإن الأحزاب الدينية المرتبطة بأيديولوجيات ومرجعيات أصولية تأبى هذا التنوع وتميل إلى المغالبة في صنع القرار السياسي ، وتعمل جاهدة على إقصاء الآخر ، وهنا تجدر الإشارة إلى سؤال محموم يستعر بالشارع المصري الآن : هل ستموت الثورة الشرعية بالسكتة القلبية بفضل الثورات المضادة المتنوعة ؟ أم أن المصريين لم يفطنوا حتى الآن بأن السلطة شراكة؟ .