توطئة :
جرى كلام كثير في معنى الحرب وفي مفهوم - آية الحرابة - ، كما صدرت فتاوى وأحكام عن المُحارب ومعناه في كتب الفقهاء وكتب الأخبار ، ولأن الكلام في هذه الآية يرتبط بالواقع والأحداث التي يعيشها الإنسان العربي والمسلم
أقتضت الحاجة أن نُفرد لهذه الآية تفسيراً منفصلاً عن كتابنا - التفسير الجديد للكتاب المجيد -- ، لعلنا نجد في ذلك الدليل والحكم الذي يقطع السبيل على مثيري الفساد ومروجيه وفاعليه ، ذلك الفساد الذي يستهدف حياة الناس وأمنهم وإستقرارهم ، و - آية الحرابة - كما هو معلوم قد تناولت في الشرح والبيان معنى الفساد والحكم عليه بشكل واضح ، لكن بعض الفقهاء وبعض رواة الأخبار أخرجوا هذا المعنى من سياقه وألبسوه سياقٌ أخر مختلف ومخالف لطبيعة النص ولغته ومحتواه ، ومن أجل هذا نقدم هذا البحث وهذا التفسير التحليلي لنستكشف ونوضح من خلاله المعنى الذي عنته الآية ودلت عليه ، ونقول :
قال الله تعالى : - إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم . إلاّ الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله عفور رحيم - 33 و34من سورة المائدة ..
يناقش النص هذا جملة أمور ترتبط بالواقع وبحركة الناس ، ولكي نبين ذلك لابد من أن نتعرف أولاً على المعنى اللغوي والإصطلاحي - للحرب - : والتي قيل في معناها : إنها تدل على السلب والنهب ، قالوا : حاربه إذا سلبه ، وفعل - يحاربون - فعل دال على العدوان بقصد الضرر والإعتداء ، قال أبن منظور : - حربه يٌحربهٌ من باب نصر إذا أخذ ماله فهو محروب ، والحربٌ بالتحريك أن يسلب الرجل ماله ، والحارب : الغاصب الناهب ، وحرب الرجلٌ بالكسر يحرب : أشتد غضبه ، وحرب السنان : أحده ، والحرب نقيض السلم ، وفلان حربُ لي أي عدوٌ - لسان العرب ج1 ص 302 - ..
والحرب : في معناها الأصلي تدل على العموم والإطلاق ، فهي الحرب النفسية تارةً والحرب الإقتصادية طوراً والحرب الثقافية والحرب العسكرية وغير ذلك .
والقتال : في معناه هو مصداق من مصاديقها أو هو مصداق من بعض مصاديقها ، و الحرب نقيض السلم - قال أبن منظور - ، ذلك لأن السلم يعني الإستقرار الذي يؤدي إلى البناء و الإعمار والتطور والتقدم ، وأما الحرب فتعني عدم الإستقرار - بالمغايرة - وعدم الإستقرار يؤدي إلى الخراب والفوضى و الدمار والفناء والتخلف ، وفي الحرب قتل للأنفس و تضييع للمال و للثمرات وللبنى التحتية وللجهود .
وحصر الحرب بالقتال وحده لا دليل عليه ، ثم إن مادة - حرب - في الإستخدام اللغوي والإصطلاحي تدل على العموم والإطلاق كما يظهر ذلك جلياً في الكتاب المجيد ، قال تعالى : - فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله - البقرة 279 - ، فالحرب هنا لفظ عام ، والموقف من الربا والحكم عليه سماه الله - حرباً - ، أي إن الحرب هي حكم الله على الربا ، وكأنه قال : إن لم تتركوا الربا والتعامل به فإنتظروا الحرب من الله ومن الرسول ، و حرب الله هنا وفي كل موضع بيان للحكم على الموضوع الذي ورد فيه الكلام ، وحرب الرسول هو إجراء لهذا الحكم وتنفيذ له ، وفي ذلك يظهر التناسب بين الحكم والموضوع في معنى الحرب الذي أطلقه الله في كتابه المجيد .
وإذا كان بعض معنى الحرب هي سلب المال ، فالربا هو سلب متعمد وقهري للمال من الغير من دون وجه حق ، لذلك أعتبر النص هذا الفعل بمثابة الحرب على الناس ، فلذلك قال : إنتهوا من ذلك وإن لم تنتهوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله ، أي أنتظروا حكم الله في ذلك وهو التحريم - أي تحريم الربا - ، فيكون كل مالاً مأخوذا من الربا فهو مال حرام ، و الرسول مكلف بإجراء هذا الحكم وتبليغه على الناس ، وليس معنى الحرب في هذا النص هو القتال كما توهم ذلك رشيد رضا في تفسيره المنار ج3 ص102 .
وبما إن مادة فعل - حرب - في اللغة وفي الإصطلاح تدل على الإطلاق وعلى العموم ، فإن القتال هو مصداق من مصاديق هذا الإطلاق وهذا العموم وليس هو المصداق الخاص والغالب ، وأما فعل - يحاربون - في هذا النص فلا يدل على معنى - يقاتلون - ، كما إن لفظ – محاربة – يدل على المحادة وليس على القتال ، يظهر ذلك في قوله تعالى : - إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين - المجادلة 20 - ، فمن يحارب الله ورسوله هو حتماً عدو لدين الله ورسوله ، ودين الله هي رسالته التي بعث بها نبيه ورسوله ، وهذه الرسالة من مهامها سعادة الإنسان في الدنيا وحمايته في الآخرة ، ودور الرسول في ذلك هو نشر هذه الرسالة وإبلاغها إلى الناس كافة ، ولذلك فمن يقف بوجه هذه الرسالة وبوجه تعاليمها إنما يقف بوجه الله وبوجه رسول الله وهذا التعبير المجازي جاري في لسان النص كثيراً ، وقد أستخدمه الرسول في مواضع كثيره منه قوله - ص - : - من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة - أصول الكافي ج2 ص 352 - .
وليس معنى المحاربة في هذا الخبر بمعنى المقاتلة بل هي معنى عام مطلق ، إذ إن كل فعل أو عمل فيه خلاف لإرادة الله ووحيه وفيه فساد في الأرض وسواء أكان هذا الفعل من رجل واحد أو من جماعة فهو في حقيقته حرب على الله وعلى رسوله .
و كما يظهر فالنص في سياقه العام إنما هو بيان للحكم الكلي ، أي الحكم العام على الجرائم التي تُرتكب بحق الإنسان ، وذكر - الفساد في الأرض - هو بيان لنوع المحاربة ومصاديقها ، و متعلق جملة – يحاربون الله ورسوله - هو جملة - ويسعون في الأرض فسادا - ، هذه الجملة مفسره وشارحه لمعنى لفظ - يحاربون - ، وأما الأحكام اللاحقة والتابعة التي قال بها النص في هذا المجال فهي عقوبات مقدرة جاءت بلفظ يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، وهذا الحكم وطبيعته يتعلق بالجماعة التي أعُتدي عليها وعلى ناموسها وعلى حياتها .
إذن فهو حكم لايتعلق بالله ورسوله إنما يتعلق بالفساد الذي يكون على الجماعة ، لذلك قلنا ونقول : إن النص إنما يتحدث عن الحرب على الله ورسوله من خلال الفساد في الأرض ، أي الحرب التي تكون على المجتمع الآمن وعلى حياة الناس وإستقرارهم ، لذلك كان العقاب متعلق كذلك بالمجتمع وليس بالله من حيث هو ، لذلك قال صاحب الميزان : - إن الفساد في الأرض - هو عدوان على الأمن العام ، من خلال إشاعة الفوضى وعدم الإستقرار الأمني والإجتماعي والمعيشي ، وإشاعة جو من الرعب بين الناس وقد أطلق بعض الفقهاء على ذلك الفساد معنى - قطع الطريق - ..
فإن قلت : وبما إن ذلك كذلك ، فلماذا لم يقل الله على نحو مباشر : - إنما جزاء الذين يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا ..- ؟ ، وقال عوضاً عن ذلك : - إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا .....- ؟
قلنا : ذكر جملة - يحاربون الله ورسوله - والإتيان بها ليس من باب الزيادة إنما هي للتنبيه والإخطار ، فمن باب هي تنبيه للمفسدين بان هذا الأمر ليس معناه فساداً في الأرض وحسب ، إنما هو حرب على الله وعلى رسوله كذلك ، والتنبيه يٌراد به تحفيز الفطرة لتتفادى هذا السلوك وتمتنع عنه، ذلك لأن هذا الفساد بمثابة الحرب على الله وعلى الرسول ..
و الملاك في لفظ - سعى - هو الفساد أو إشاعة الفساد بين الناس ، ومعنى الفساد معناً عام وهو يختلف بحسب الوضع بحسب الواقع قوةً وضعفاً ، وكلما كان الفساد قوياً أستوجب ذلك عقاباً شديداً ، قال الله تعالى : - من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكانما قتل الناس جميعاً .. - المائدة 32 - ، فالنص ساوى في الحكم وفي الجريمة بين القتل العام والفساد في الأرض ،
وكذلك يكون معنى قطع الطريق وإشاعة عدم الإستقرار والفوضى الأمنية كلها مصاديق لمعنى الفساد في الأرض ، ولايجوز حصر معنى الفساد في شيء معين ، لأن الملاك في فعل سعى هو الفساد على نحو عام ومطلق ، ومايقع فهو من باب المثال والمصداق وليس من باب الحصر والتخصيص ، فقوله - يسعون في الأرض فسادا – مفهوم عام ولايجوز حصره وتخصيصه بنوع معين من الفساد ، فالعمليات الإنتحارية وتفجير السيارات في وسط المدن وقتل الناس مصداق لمعنى الفساد في الأرض ، ومايفعله الإرهابيون اليوم من قتل للناس على أساس طائفي هو فساد في الأرض ، والتجاوز على القانون وعلى الحريات وسجن الناس دون حق شرعي هو مصداق لمعنى الفساد في الأرض ، وإثارة الفتنة الطائفية هي فساد في الأرض ، والإتجار بالمخدرات هو فساد في الأرض ، كل هذه وغيرها هي مصاديق معنى – يسعون في الأرض فسادا - ، ولايجب حصر معنى النص أو تخصيصه تبعاً لما ورد في بعض الروايات والأخبار ، بل يجب النظر إلى الفساد من وجهة إجتماعية وأثر ذلك على الواقع ، لذلك يجب النظر إلى حكم الآية من وحي الواقع ، وتعميم معناها ليكون شاملاً لكل الجرائم التي تٌرتكب بحق الإنسانية والمجتمع ، فالعقوبة في النص إنما تتحرك مع الجريمة ومع نوعها ومع طبيعتها ، وكلما تطورت الجريمة ووسائلها تضاعف حجم العقاب ونوعه ..
وحين نقول ذلك فإننا نعترف بان الكتاب المجيد لم يجعل معنى الفساد في الأرض ظاهراً وخاصاً فقط بما قاله بعض الفقهاء عن معنى قطع الطريق ، الذي أختلفوا فيه فمنهم من أعتبر قطع الطريق يختص بالطرق خارج المدن والبلدات ، ومنهم من أعتبر السرقة وغصب المال هو قطع للطريق كذلك ، المهم عندهم ان يتم ذلك بالسلاح ، ولكن تخصيص معنى الفساد منهم على نحو معين من الإفعال لادليل عليه ، لا من الكتاب ولا من الروايات والأخبار ، أي لم يٌفهم منها المعنى الخاص للفساد بقطع الطريق وحده ، كما إن النص حين يقول - ويسعون في الأرض فسادا - إنما يشرح او يبين معنى قوله - يحاربون الله ورسوله - فالنص لا يٌبين حكماً خاصاً يتعلق بفعل فرد خاص ، بل هو معنى عام له علاقة بالجريمة التي تُرتكب بحق الجماعة وبحق الناس ، فالفساد يعني مايحدث على المجتمع وليس مايحدث على الفرد من فساد .
ومن يقول بإختصاص الآية في معنى - قطع الطريق - فهو قول غير صحيح ، فالمحارب الذي ذكره الله في آية الحرابة هم ليسوا قطاع الطرق فقط وليسوا هم من يشهرون السلاح ويخيفون السبيل فقط ، بل هؤلاء هم بعض من مصاديق هذه الآية ذلك لأن النص علق الفساد في المجتمع على ما يحدث على المجتمع من فساد من قطع الطريق ومن غيره من أنواع الفساد ، والمتعلق الذي يدور عليه الحكم هو مايحدث على المجتمع من فساد ، وهذا المعنى هو عين ما تقوله الآية في - يحاربون الله ورسوله - كمقدمة دفع بها الله للتعريف بمعنى - يسعون في الأرض فسادا - ، لهذا لايجوز إعتبار معنى الحرابة هنا بمعنى قطع الطريق ، ولو كان ذلك كذلك : لوجدنا في كتب الفقهاء باباً أسمه باب حد قطاع الطريق بدلاً من باب حد المحارب ..
يتبع