يناير 2011 تقوم ثورة بمصر، الأولى ضد الرئيس حسني مبارك، وهي بالتالي ضد حقبة امتدت نحو نصف قرن، بداية من ثورة يوليو 1952 وحتى سقوط نظام مبارك، والثانية ثورة ضد الرئيس محمد مرسي، أي ضد الإخوان المسلمين، الذي صادروا الإسلام بعنوان جماعتهم،
وحاولوا مصادرة الدِّين بشعاراتهم، كفروا الديمقراطية ثم اقتنعوا بها سبيلاً للوصل إلى الحكم. لكن لم يصبروا فكشفوا عن نياتهم بسرعة، أي خلال شهور، ليكونوا هم الدنيا وهم الدِّين، فثارت الثورة ضدهم، ونزل المصريون إلى الشَّارع، وهم انزلوا خلاياهم النائمة، إن صحت العبارة، فسال الدَّم، بالمقابل لعشر سنوات والعراق ينخر فيه الفساد، وثروة هائلة تتسرب من تحت قدمي العراقي إلى جيوب الفاسدين، وهم في حماية السُّلطة، والمقاتل لا تتوقف.
فساد عاث بالحصة التموينة التي كانت مرضعة جيل كامل مِن العراقيين، أي مَن ولد في عام إقرارها (1991)، وشب عليها، وفساد في صفقات الأسلحة، وآخرها الصفقة الروسية، التي اعترفت بوجودها السلطة بعزل الناطق باسمها، واخترق الدستور وسيس القضاء، وحذفت قوانين متقدمة، وبلاد النَّفط والماء لا خدمات ولا ثقافة، ومع أن الكتل كافة تصرح ضد الحكومة، المتمثلة بدولة القانون، وحزب الدَّعوة قطب رحاها، وليس هناك مِن تحرك جماهيري يليق بما يعانيه العراقي، فليس ما قَدم عليه إخوان مصر بأكثر مما يفعله حزب الدَّعوة الإخواني أيضاً، بصفته الشِّيعية. ومع ذلك فالعراقيون ساكتون، تظاهروا فقتل وعُذب المتظاهرون، والعراقيون ساكتون، فإلى أين سيقودهم السُّكوت؟!
هنا نُذكر بالمحاورة بين وجيهي مصر طه حسين (ت 1973)، المعروف بعميد الأدب العربي، ووجيه العراق الشَّيخ محمد رضا الشبيبي (ت 1965)، الوزير وعضو ورئيس البرلمان وعضو ورئيس مجلس الأعيان ورئيس المجمع العلمي العراقي، اثناء حضوره مؤتمر مجمع اللغة العربية في القاهرة. والمحاورة حسب ما نقلها مير بصري (ت 2006) نقلاً عن الشَّيخ الشِّبيبي.
قال طه للشِّبيبي: “لماذا كان العراقيون دائماً ثائرين لا يستقرون على حال، ولا يرتضون حاكماً؟ فقد قرأت تاريخ العراق منذ الفتح الإسلامي حتى الآن، وقلما وجدت حقبة خالية من الفتن والقلاقل”. فاغاظت كلمات عميد الأدب الشيخ فرد عليه قائلاً: “أتسمح لي أن أسألك أنا أيضاً؟ لماذا كان المصريون دائماً خانعين خاضعين؟ لقد قرأت تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي وقبله أيضاً، فوجدت المصريين دائماً يسترضون حكامهم مهما جاروا، وطعنوا”(بصري، أعلام الأدب في العراق الحديث).
اغتاظ عميد الأدب من الرد غير المتوقع، لكن الحضور من المصريين قالوا له: “الجواب من طبيعة السؤال”. والحقيقة، رغم سمو المتكلميَّن، طه والشبيبي، إلا أنه لا العراق كان ثائراً على الدوام، ولا مصر كانت خانعة على الدوام. وإن سكت العراقيون على خمسة قرون تركية عثمانية، منها صفوية إيرانية، فالمصريون وجدوا في محمد علي رائداً لنهضتهم الحديثة، وكثير من البدايات أتت من ديارهم، ولهم أبطالهم الشعبيون والسياسيون. ومثلما ابتلى العراق بالهتافين للأنظمة، أبتلى المصريون بهتافيهم، حتى استبدل اسم مصر، وكل شيء سخر من أجل شعار هو السراب بعينه.
إلا أن الحوادث الأخيرة، وبالمقارنة بين فداحة الخطب في العراق عنه بمصر، أثبتت أن العميد والشَّيخ على خطأ، فلا المصريون خانعون على طول الخط، ولا العراقيون ثوار على طول الخط، فيصعب أن نعتبر الانقلابات على أنها ثورات شعبية، فالمسيرات كانت تخرج بعد سماع البيان الأول، شأنهم في ذلك شأن الإخوان المسلمين بمصر، فقد انضموا إلى ثورة يناير 2011 بعد أن عُد بيان إقالة مبارك. ستقولون أليس الانتفاضة الشعبانية، عند الإسلاميين وآذار عند المدنيين، كانت ثورة؟! أقول: لقد نهض الثُّوار فأسقطت همتهم الشعارات الدينية وصور الخميني وخامنئي وميدان بلا قيادة، فكثر نهب البنوك والمتاحف، ولولا الهزيمة في الحرب ما تحركت تلك الجموع.
على أية حال، في ظل الدكتاتوريات، والاستبداد مثلما كان الحال في العراق، يصعب مطالبة الجمهور بالثورة، فالأمر يعني الإبادة، ومع ذلك أن كثرة الحراسات وشدتها حول المسؤولين، يعني أنها خائفة مِن الجمهور، فكيف الحال الآن وأصغر الموظفين له حماية ما لم تكن لوزير أو قائد فرقة في الجيش! فماذا يعني هذا، ألا يعني أن هناك خصومة بين السلطة والنَّاس، وإن السلطة هشة لم تقم بواجبها في الحماية إلا بحماية نفسها.
فمتى يعود العراقيون إلى ميدان تحرير بغداد، ويسألون عن حقوق مدنهم في العمران، وعن ثروتهم المنهوبة، وليتأكدوا أن نظامهم، الذي لأميركا الفضل الأول في وجوده، أنه ديمقراطي ما أن يُقتل متظاهر إلا سئل رئيس الحكومة عن دمه! فالكلُّ يسأل: أين آلام العراقيين، أيكفي أنهم يطفئون أحزانهم في عاشوراء، والاعتياد على المظلومية سجيةً؟! فسمحوا لأفراد وكيانات أن تفسد في أرضهم، وتوهمهم أن ما يحصل هو عين الدِّيمقراطية؟! لقد ثار المصريون وكشفوا اللعبة أن الدِّين لا يحمي رافعي شعاراته، والجنة والنَّار بيد الله وحده، فمتى يفهم العراقيون أن الله مع المظلومين لا مع الفاسدين الكذابين خالقي الأزمات؟!
لقد استفادت السلطة الديمقراطية العراقية مِن تجربة “غزوة الجمل” المصرية، التي نفذتها السلطات السابقة، ونفذتها في ساحة التحرير، بعشائر الاسناد!