يتابع العراقيون ما يجري خلف أسوار مجلس النواب من مسيرة حفلت مؤخرا، بالقوانين الصادرة بصياغات سياسية تتخفى وراء توافقات شكلية مصطنعة مع المواد الدستورية. ويدرك أبسط طلبة القانون وآخرهم خبرة، عمق التناقض بين تلك الصيغ التي يجري إقرارها وبين الدستور المعمول به.
كما يتابع الشعب حالات تمرير قوانين بالمخالفة الصريحة مع قرارات القضاء في أعلى درجاته وأكثرها إلزاما لجميع مفاصل الدولة ومؤسساتها؛ مثلما حصل مع قانون الانتخابات الصادر مؤخرا. وسريعا وقبل أن يجف حبر ذاك القانون الذي تستعد القوى الديموقراطية لرفع الدعوى القضائية ضده لبطلانه قانونيا دستوريا، تطفو من جديد محاولة برلمانية لفرض فقه الدولة (الدينية) وآلياتها؛ عبر فرض خلطة دينية - محاصصاتية يدخل فيها فقهاء الشريعة بعضوية المحكمة الاتحادية، ربما بتعددية مذهبية تعكس منطق الطوائف وانقسامها (سياسيا) على حساب أصل المذاهب ومنطق وجودها الاجتهادي الذي يوحّد ولا يفرق بخلاف منطق الدين السياسي المعمول به غطاء لفرضِِ قسري للتفرقة بين أبناء المذاهب بعد أنْ يُحجَر عليهم خلف أسوار مغلقة منفصمة من طوائف مُكرَهة على ممارسة خطاب التناقض وصراعاته...
إنّ ما أخّر إصدار القانون وشرعنته هو خلاف قد لا يكون جوهريا بشأن نصاب انعقاد المحكمة من جهة ونسبة من يحق لهم إصدار القرار. وما نشير إليه أمر ربما يجري تفويته بطريقة أو أخرى. في وقت فات بعض الأطراف المحسوبة على القوى المدنية أن تتصدى لموضوع جوهري خطير يتمثل في استغلال قوى الطائفية السياسية لتأويل عبارة تخص احترام الدين في الدستور، بطريقة أسوأ من عرجاء شوهاء.
فاحترام الدين في التشريع [كما أراد الدستور] هو توجيه أو توصية يلتزمها مجلس النواب، ولكن كل ما عدا ذلك يخضع لكون الدستور يجسد صيغة الإجماع الوطني بين القوى المعبرة بالضرورة عن مكونات الشعب بتعدديتها وبتنوع وجودها؛ ما يؤكد دائما بأن الدستور هو القاسم المشترك الذي يُعنى بآليات عمل الدولة المدنية وتوجيه قوانينها بآليات الديموقراطية التي نصَّ عليها صراحة وليس تلميحا وبمباشرة لا تقبل التأويل...
لقد مارس كثير من مسؤولي السلطة التنفيذية مخالفة دستورية باعتمادهم ((مرجعيات دينية)) في إدارة مسؤولياتهم المحددة بالدستور بوصفه نصا قانونيا لدولة مدنية لا دولة دينية، دولة كان يُفترض أن يحكمها صوت الشعب عبر ممثليه غير التابعين لأية جهة أو مرجعية غير ما خطه الشعب في دستوره وما يُفترض أنه انتخبهم إليه.
لقد بقي الشعب وما زال حذرا من تداعيات سياسة التدرج في سرقة مؤسسات الدولة، ومن سياسة الانفراد وتصنيع دكتاتورية جديدة. لكنَّ الأخطر اليوم بعد تمكّن أحزاب الطائفية من السلطة التنفيذية والانفراد بها، يكمن في أمرين هما: توجه هذه السلطة لإخضاع نواب البرلمان ومن ثمَّ توجيه السلطة التشريعية على وفق أهواء قادة الطائفية؛ فيما الأمر الآخر يكمن في محاولات إخضاع السلطة القضائية بوسائل ملتوية متعددة.
وبشأن السلطة التشريعية جرى ويجري تمرير القوانين المفصلة على مقاس القوى المستبدة والعمل على إعادتها إلى سدة السلطة بلعبة انتخابية جاهزة الآليات، لسرقة أصوات الشعب ووضعها في صناديقهم! ولهذا إشكاليته ومعالجاته المخصوصة.
لكن ما نتوقف عنده هنا، يتمثل في حقيقة فرض فلسفة تلك الأحزاب على نظام الدولة بالتجاوز على الدستور وفلسفتها تتمثل في فرض الدولة الدينية بفكر طائفي محكوم بسلطة الولي الفقيه و-أو المرجع الديني طبعا بلون طائفي بعينه يلغي وجود الآخر حتى في المجموعة الدينية نفسها، بل يقمعها كونها جهة معادية تاريخيا ودينيا وسياسيا، على وفق ((الطائفية السياسية)) المنفردة اليوم بالحكم!!!
إنَّ إدخال من يسمونهم ((فقهاء الشريعة)) في المحكمة الاتحادية، يمثل أخطر تحدِِ يواجه بنية الدولة المدنية وأسسها الدستورية. كما أن هذا القرار إذا ما تمت شرعنته سيكون إعلانا صارخا لسلطة الولي الفقيه وسلبا لكل القوانين المجتمعية ووضعها برسم الخضوع لسلطة الكهنوت الديني! في وقت لم يقرّ المسلمون الأوائل ولا النص الديني المقدس فكرة الكهنوت الديني، وإنْ هي إلا فكرة من بدع قوى تتغطى بمرجعية دينية مطلقة الصلاحيات؛ بما يتحكم بكل تفاصيل حياة الإنسان وعيشه الذي أباحه له الدين نفسه كما يقول الحديث الشريف "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا" بينما يشاغل قادة الكهنوت السياسي الناس بالطقسيات في وقت يسرقون حيواتهم ويستبيحونها.
إنَّ الدستور العراقي هو نص مدني لدولة مدنية. وهو نص القانون الأسمى الذي ألزم بوضوح وصراحة جميع السلطات والقوى والعناصر والشخصيات العامة والخاصة كافة بألا تصدر تشريعا أو تمارس أمرا يتعارض والديموقراطية وآلياتها. وقد أورد الدستور احترام التشريعات للأديان جميعا وإن احتفظ للإسلام بمكانة تعبر عن حجم الأغلبية، لكنه على وفق إلزام الجميع بالديموقراطية تمتنع الأغلبية عن الاستبداد من جهة وعن الانفراد والحكم المطلق كما لم يجوّز الدستور بأي حال تسليم سلطة خارج من ينتخبه الشعب لأداء مهامه لمدة محددة منصوص عليها.
وفي مجال القضاء وتركيبته بخاصة هنا المحكمة الاتحادية لا يمكن لها أن تمارس مهامها دستوريا إلا على أساس الاستقلالية وهي الاستقلالية التي انتقصت وانتقضت بقرار السلطة التنفيذية المخالف للدستور عندما تمَّ اِتباع القضاء لسلطة (الحكومة)! وما يجب الآن هو وقف هذا النهج وتلكم الممارسة.
أما الأمر الجديد؛ فيكمن في احتمال ارتكاب ((مجلس النواب)) مخالفة دستورية أخرى تنضاف إلى المخالفات السابقة، بتفصيله عضوية المحكمة لا على أساس الكفاءة والاستقلالية والنزاهة، وإنما على أساس نصف يخضع لأوامر خارج السلطات الدستورية الثلاث ونصف يخضع لمحاصصة التقسيمات المفروضة اليوم على وفق ظروف وآليات معروفة. فتصبح المحكمة الاتحادية متشكلة من موظفين مختصين بتفصيل الاستجابات التي تخدم قرارات الجهة المتحكمة بالسلطة التنفيذية بل بكل السلطات على وفق التركيبة المحتملة إذا ما تمّ إقرارها.
إن تشويه تركيبة المحكمة وفرض الأداء السياسي على القضائي سيكون بمؤداه الأبعد نقضا لهوية المحكمة وإخضاعا لها لسلطة روحية خارج السلطات الثلاث وخارج الدستور ومحدداته هي سلطة المرجعية الدينية أو الولي الفقيه.
وهذا يتناقض تماما مع إرادة الشارع [بالمعنى القانوني للمصطلح] العراقي الوطني ومع خياره دستور الدولة المدنية ويتعارض مع طبيعة التكوين في المجتمع العراقي من جهة التعددية الدينية والمذهبية ومن جهة تعددية التيارات ومن جهات أخرى منها خياره آليات الديموقراطية التي تفرض تداولية لا تقبل التأطير والتحديد والاشتراطات بما يتناقض واشتغالها الفعلي.
إن المضي قدما بإصدار قوانين وتشريعات مفصلة على مقاس من يؤسس للدكتاتورية الدينية على الطراز الإيراني لا يشكل استهتارا بخيارات الشعب العراقي حسب بل يستبيح كل تقاليد هذا الشعب وتوجهاته المعروف بها عبر تاريخيه القديم والحديث. إن هذا يمثل جوهر الدكتاتورية وطغيانها وانحرافا نهائيا لا يمكن للشعب ولقواه الحية إلا أن ترد بقوة عليه. وقوة الشعب بسمو مكانه ومكانته دستوريا. ويوم لا يرعوي ساسة نهب البلاد الذين يتحكمون اليوم بحكومة بغداد، فإن الشعب لايجد مناصا من أن يجدد انتفاضته التي تكنس كل هذا التخلف والظلامية من جهة والطغيان والاستبداد والقمع من جهة أخرى.
إننا ندين هذا الاتجاه الذي ما عاد يرعى للشعب وخياراته من حرمة ونؤكد أن تفريغ المؤسسات من محتواها وفرص ممارستها مهامها باستقلالية ومهنية تستند للديموقراطية يعني دفع الشعب لخيار ما عاد مجهولا لكل ذي عقل وفطنة.
ولهذه القضية الخطيرة معالجة أخرى نعود إليها قريبا