مقدمة وملخص تنفيذي
تعالج هذه الورقة مفهوم العلمانية، كونه مفهومًا قد حاول أن يتضمن قضايا العلاقة بين الدين والدولة بطريقة تصبح معها الدولة دولة مدنية لكل مواطنيها بشكل متساوٍ وبدون أي تمييز، كما وتتمتع في إطارها الأديان بالحرية الكاملة لممارسة شعائرها الدينية بدون قيود أو ضوابط تعسفية، وفي نفس الوقت بدون سطوة دين على دين آخر، وبدون فرض الأديان قيودًا وأعمالاً تعسفية على غير المتدينين، كما وعلى قوانين الدول التي يفترض أن تكون قوانينًا مدنية.
وبناء على طلب “ملتقى الحريات الفلسطيني” فقد قسمت الورقة إلى عدة محاور: المحور الأول هو مفهوم العلمانية بين وضوح المضمون والتباس المعنى (لاسيما الترجمة العربية إلى كلمة “العلمانية” وما تثيره هذه الكلمة من القياسات)، والمحور الثاني لمناقشة نشأة العلمانية، فيما جاء المحور الثالث ليناقش السؤال المتعلق بالمنشأ الديني للعلمانية، لاسيما لجهة إدعاء بعض الباحثين أن العلمانية ذات جذور مسيحية، كما وناقش المحور محاولات تأصيل العلمانية عربيًا وإسلاميًا، وبيَّن المحور الرابع أن العلمانية ليست أوروبية فقط، وقدم أربعة نماذج لها وناقشها بالتفصيل، وهذه النماذج هي: نموذج الفصل بين الدين والدولة، نموذج الكنيسة (الدين المعتمد)، نموذج المجتمعات المحلية المعترف بها، ونموذج “الاحترام المتساوي لكل الأديان”. وهي نماذج نشأت في دول مختلفة بعضها أوروبي وبعضها خارج أوروبا كما يبيِّن هذا القسم. وحاول القسم الخامس، بعد ذلك، توضيح العناصر والمكونات المشتركة بين نماذج العلمانية الأربعة، فيما جاء المحور السادس ليعالج علاقة العلمانية والديمقراطية، ويقدم النماذج الأربعة غير العلمانية، وغير الديمقراطية، وهي: نموذج الدولة الثيوقراطية، نموذج الدولة الدينية، نموذج الدولة العلمانية شكلاً والقامعة لحريات مواطنيها، ونموذج العلمانية المطلقة. أما القسم السابع فقد ناقش حالة العلمانية في الوقت المعاصر في العالم، وجاء القسم الثامن كخاتمة وخلاصات.
أولاً: العلمانية بين وضوح المضمون والتباس المعنى
تتخذ الكلمات معانٍ مختلفة في إطار الثفاقات المختلفة، فكلمات secularism الإنجليزية، وLaïcité الفرنسية، و”العلمانية” العربية، لا تنطوي كلها على ذات المعنى، ويزداد الأمر صعوبة في حالة ما إذا كانت الترجمة من لغة إلى أخرى هي ترجمة غير دقيقة.
ويتجلى المعنى، كفهم لدلالات الكلمة اللغوية، من خلال الوعي والممارسة ضمن نطاق اجتماعي وثقافي محدد، كما ويعكس الإطار الاجتماعي الثقافي بتاريخيته ذاته على المعنى المفهوم لكلمة أو لفظ معين.
في هذا الإطار تحيل كلمة secularism التي انبثقت في المجتمعات الأوروبية التي كانت تسير على المذهب البروتستانتي إلى الكلمة اللاتينية القديمة seculum والتي تعني “الجيل من الناس”، أما كلمة laïcité والتي انبثقت في المجتمعات الأوروبية التي كانت تسير على المذهب الكاثوليكي فهي تحيل إلى “الناس مقابل الأكليروس”، وقد ترجمت هذه الكلمة إلى اللغة العربية ترجمة اشتقاقية نظرًا لعدم وجود كلمة عربية مرادفة لها، فسميت بـ “اللائكية” (العظمة، 1998).
أما كلمة العلمانية، كترجمة غير دقيقة لكلمة secularism، فقد خلقت إلتباسًا بين المثقفين العرب، حيث أعادها بعضهم إلى العلم بكسر العين (عزيز العظمة مثلاً)، وأعادها بعضهم الآخر إلى العالم (عبدالله العلايلي والطيب تيزيني مثلاً).
ويرى الطيب تيزيني أن القائلين باشتقاق الكلمة من العلم يعيدونها إلى “الإلحاد”، أما القائلون باشتقاقها من العالم فيرفضون ارتباطها بالإلحاد، فيما يذهبون إلى أنها تتعلق بحق الناس في إدارة شؤون دنياهم بأنفسهم (تيزيني، 2004). ويذهب عزيز العظمة مذهبًا مغايرًا، حيث يعيد الكلمة إلى العلم (فتصبح علمانية بكسر العين، وليس علمانية بفتح العين، عائدة بذلك إلى العلم وليس العالم). ويرى العظمة بأنها تعود إلى العلم نظرًا إلى أنها تعني
مساواة المرجعية الدينية في أمور الحياة والفكر بالمرجعيات الأخرى في مجتمع متمايز داخليًا، معترف بالتمايزات، مما جعل من أمور الفصل والسياسة والمجتمع وتقنينها العام أمورًا لا تخضع للسلطة المؤسسية أو الفكرية أو الرمزية الدينية، ولا تعتبرها المرجع الأساسي في الحياة. (العظمة، 1998)
يعود الفارق بين تيزيني والعظمة حول مصدر الكلمة إذا ما أحيلت إلى العلم إلى أن تيزيني، فيما يبدو، يشير إلى أولئك الرافضين لها، والذين ربطوها بالعلم كمناقض للدين وبالتالي ألبسوها مفهوم الإلحاد. أما العظمة فيحيلها إلى العلم بمعنى سلطة العقل باعتبارها المرجعية لتنظيم حياة الناس السياسية والاجتماعية، وليس الدين الذي يضحي شأنًا خاصًا للفرد بينه وبين ربه.
يبقى بعد ذلك الحسم فيما إذا كانت العلمانية تعود إلى حق الناس بإدارة شؤون دنياهم بأنفسهم (وبالتالي تعود إلى العالم)، أم تتعلق بسلطة العقل كمرجعية للإدارة السياسية والاجتماعية (وبالتالي تعود إلى العلم). في هذا الإطار تعود كلمة secularism، في أصلها اللاتيني، إلى كلمة ذات علاقة بحكم جيل من الناس لأنفسهم بأنفسهم وفق رؤاهم وتصوراتهم المدنية وليس الدينية، أما كلمةlaïcité i فتبدو معبرة عن تجنيد الناس “المدنيون” ضد رجال الدين والكنيسة. الأولى لا تبدو معادية للكنيسة/الدين، أما الكلمة الثانية فهي تبدو كذلك.
وبشكل أكثر يظهر الفارق بين الـ secularism كداعية لنشوء دولة “لا دينية” Non-religious وبالتالي محايدة تجاه أديان مواطنيها ومواطناتها ولا تتدخل بحقهم في التدين من عدمه، وبين laïcité كتوجه ضد الدين Anti-religious يجعل للدولة دورًا في تكميم ومحاصرة أو تقييد الأديان وحريتها في العمل في المجال العام لكل الشعب، فيما تبقى حرة في نطاق الحيز الخاص لكل فرد أو مجموعة دينية.
رغم الفارق بين معنى الكلمتين، إلا أن كليهما تشتركان في أمر واحد وهو أن كليهما تحيلان إلى إدارة البشر لشؤون دنياهم، وليس إلى العلم وسلطة العقل.
على أن هذه الفقرة الأخيرة لا تحل المشكلة حول أصل الكلمة بين العالم والعلم، فالقائلون بأن مصدرها هو العلم يشيرون إلى أن إدارة الناس بشؤون دنياهم هو أمر غير ممكن بدون اعتماد سلطة العقل بما هي سلطة تنتج القوانين والأنظمة والقواعد والإجراءات وسائر السنن المدنية التي يدير الناس شؤون دنياهم وفقها، وبما هي منتجة أيضًا لفكرة استقلالية الدولة عن الدين وبالعكس، كما ولفكرة استقلالية الدين عن السياسة وبالعكس، وغيرها من الأفكار ذات الصلة بالعلمانية والتي ستأتي عليها هذه الورقة أدناه. ويرى هؤلاء أن الجوهر في الأمر لا يتمثل في الشأن الإجرائي المتعلق بقيام الناس بإدارة شؤون دنياهم بأنفسهم، وإنما يتمثل في الفكرة التي تكمن وراء ذلك، وهي الفكرة القائلة بأن إدارة شؤون الناس بأنفسهم هو أمر مدني في إطار دولة مدنية وليس أمرًا دينيًا، كما وليس للأديان أن تتدخل فيه، وهي فكرة أنتجها واكتشفها العلم المعتمد على سلطة العقل. ويضيف هؤلاء أن لا مكان لتأصيل العلمانية في العالم العربي بدون تأصيل “فكرة الدولة المدنية” وإزالة الالتباسات بينها وبين بعض التفسيرات للدين الإسلامي والتي تعارضها وترفضها.
كما ويستند القائلون بأن العلمانية تعود إلى العلم إلى أنها نشأت وتطورت في شكلها الحديث في إطار التطورات الثلاث الفكرية والعلمية والصناعية التي شهدتها أوروبا في عصر النهضة، والتي بدونها لم يكن للعلمانية أن تتطور.
وعليه فإن مضمون العلمانية واضح نسبيًا، بحيث يجمع كل القائلين به، على اختلاف توجهاتهم، على أنه يتعلق بدولة مدنية ليس للدين تدخل فيها، أو له تدخل رمزي فقط وفق بعض النماذج العلمانية التي ستأتي لاحقًا في هذه الورقة. وفي المقابل فإن هنالك التباسًا في المعنى لا سيما من كلمة “العلمانية” التي لا توضح المضمون المشار إليه في هذه الفقرة، وبالتالي فهي كلمة غير دقيقة، ولعدم دقتها فقد استبدلها المفكر العربي في القرن التاسع عشر فرج أنطون بكلمة “الحيادة”، للدلالة على الدولة المدنية المحايدة تجاه عقائد مواطنيها ومواطناتها (تيزيني، 2004).
ثانيًا: نشأة “العلمانية”، وتأصيلها عربيًا وإسلاميًا
غالبية الكتاب على أن العلمانية، بشكلها الحديث، هي ذات منشأ أوروبي يعود إلى عصر النهضة، وما أنتجه من سلطة العقل والعلم والمعرفة، ونشوء دولة المواطنة المعبرة عن كافة مواطنيها بدون تمييز بينهم وفق اللون أو العرق أو الدين أو الجنس أو غير ذلك من أسس التمييز.
ما قبل عصر النهضة عاشت أوروبا تحت سيطرة النظام الإقطاعي، حيث لم تكن هنالك مواطنة متساوية بين الاقطاعيين والأقنان المرتبطين بالأرض، وشكل الاقطاعيون/النبلاء طبقة المواطنين الأحرار التي كانت تحيط بالملوك، وكان الملوك على تناقض مع الكنيسة التي كانت تلعب دور سلطة دينية ودنيوية في آن معًا، كونها هي ذاتها قد مثلت مؤسسة اقطاعية أيضًا. وفي إطار كهذا اقتصر الحيز العام على النبلاء والملوك والكنيسة، وغاب عنه الأقنان والنساء كفئتين اعتبرتا دونيتان.
بدأ عصر النهضة بالثورة الفكرية داخل الكنيسة من خلال الإصلاح الذي قاده مارتن لوثر بدءًا من عام 1516 منشئًا بذلك المذهب البروتستانتي كنقيض للبدع التي كانت تروجها الكنيسة. وأدى نشوء البروتستانية إلى نشوء توجهات كاثوليكية أخرى للإصلاح برزت متأخرة. وترافق هذا الإصلاح الديني مع الثورة الفكرية التي دعت إلى رفض التقليد وإعمال سلطة العقل وتطوير المعرفة. ومع انبثاق الثورة العلمية واكتشافاتها مثل اكتشاف كروية الأرض – نقيضًا لفكرة الكنيسة التي كانت تقول بأن الأرض منبسطة–، والطباعة، والمصباح السحري، والجاذبية، والهاتف، والآلة التجارية وغيرها من الاكتشافات المبكرة، نشأت أيضًا الثورة الصناعية معتمدة على منتجات الثورة العلمية، وبهذا كله انفتح عهد جديد قوض كلاً من نظام الاقطاع وسلطة الكنيسة.
مع هذا التحول نشأت فكرة المواطنة المتساوية، وأزيلت القنانة، وبدأت المرأة بالخروج من أجل المشاركة في الحيز العام الذي أصبح يتسع للجميع بعد أن كان محصورًا على النبلاء مالكي الأقنان ورجال الكنيسة. وفي إطار ذلك طرحت فكرة انتخاب الحاكم والاقتراع العام منذ القرن التاسع عشر، وبالتالي نشأ نظام مدني ينتخب المواطنون القائمين عليه بشكل حر ويتابعونهم لوضع قوانين تتناسب مع فكرة “العقد الاجتماعي” التي ظهرت في ذلك الحين كفكرة تعبر عن الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطنين وبين الدولة وفقًا للعقد الاجتماعي بين الطرفين، بما ألغى سلطوية الدولة وتعسفها وعلاقاتها ذات الطابع الأحادي بالرعايا كما كان عليه الحال من حيث علاقة الملوك برعاياهم في فترة ما قبل عصر النهضة.
على أن هذا النشوء للعلمانية بشكلها الحديث يثير سؤالين أحدهما يتعلق بما يسمى بالجذر المسيحي للعلمانية، والثاني يتعلق بالتساؤل عما إذا كان من الممكن إيجاد أمثلة من التاريخ الإسلامي مورست في إطارها ممارسات أقرب إلى العلمانية؟ سيحاول المحوران القادمان الإجابة على هذين السؤالين.
ثالثًا: العلمانية والدين
القائلون بأن العلمانية ذات جذور مسيحية يحيلونها إلى قول السيد المسيح المعروف: “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. وينقسم هؤلاء إلى قسم منحاز للمسيحية ويرى أفضليتها في هذا الشأن بالنسبة للأديان والعقائد الأخرى، وآخرون يقولون بجذورها المسيحية، وذلك لتبرير رفضها من قبلهم انطلاقًا من كونهم يحملون عقيدة أخرى هي الإسلام.
على أن القول بأن العلمانية ذات جذور مسيحية، لا يتطابق مع التاريخ، حيث وقفت المسيحية، ممثلة بالكنيسة في أوروبا، ضد العلمانية في بداية نشوئها مطالبة بتكريس دورها كسلطة دينية ومدنية في نفس الوقت، هذا ناهيك على أن الكنيسة قد مثلت السلطة الدينية والمدنية طيلة الفترة السابقة على عهد النهضة منطلقة بأنها تمثل سلطة الله على الأرض، وبذلك فقد جاء نشوء العلمانية بشكلها الحديث ضمن عصر النهضة بمثابة ثورة على الكنيسة ومطالبة برفع يدها على إدارة الشؤون الدينية للناس.
وإذا كانت العلمانية هي فكرة حديثة، فإن البحث عن نصوص وممارسات دينية تدعمها قد يكون من العوامل المساعدة على تأصيلها. وفي هذا الإطار يمكن استخدام كلمة المسيح سابقة الذكر لخلق إجماع أوسع داعم للعلمانية في أوساط المؤمنين المسيحيين الذين لازالوا يرفضونها. وفي الإطار ذاته يعود بعض الكتاب العرب إلى تجارب للرسول محمد ونصوص دينية لتبيان أن العلمانية لا تتناقض مع الدين الإسلامي. ومن ذلك عقد “صحائف المدينة”، الذي عقده الرسول محمد في المدينة المنورة مع أهلها مسلمين ويهود، والذي نص على الانفصال في مجال التشريعات الدينية بين المسلمين واليهود فيما يعملون معًا لإدارة شؤونهم المدنية تحت ظلال الدولة المشتركة. وفي ذلك تجسيد لفكرة المواطنين المتساوين الذين يعملون معًا لإدارة شؤونهم المدنية بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية التي تبقى فضاءات خاصة لكل مجموعة دينية تديرها بشكل مستقل عن الأخرى. كما ويشار في هذا الإطار إلى آيات قرآنية مثل “لست عليهم بمسيطر” والتي تعني أن الرسول لا يحق له فرض سيطرته على الأمة باسم الدين، وترك أمورها لها لتقرر بها، كما يشار إلى أحاديث نبوية مثل: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، و”لكل زمان زمانه ورجاله”. هذا ناهيك على أن الرسول لم يختر خليفة له لحكم المسلمين والأمة وترك هذا الأمر لهم ليقرروا بها بعده، كونه شأنًا دنيويًا لحكم أنفسهم وإدارة أمورهم، وليس أمرًا سماويًا ربانيًا.
ويتجه التيار الذي يسعى للتوفيق بين الإسلام والعلمانية توجهًا إسلاميًا إصلاحيًا وحداثيًا. وهو تيار نشأ مع رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم في القرن التاسع عشر، وتطور مع عبد الله العلايلي وعلي عبدالرازق والطاهر حداد وغيرهم في القرن العشرين، وله رواده اليوم مثل عبدالله النعيم وراشد الغنوشي، ونصر حامد أبوزيد (مع الاختلافات البينة بين هؤلاء)، وغيرهم.
ولم تتم محاولات هذا التيار التوفيقية بدون مقاومة من التيارات السلفية، والسلفية الجهادية، والتي ترى بأن العلمانية هي نظام كفر، وذلك لأنها تنشئ نظام حكم مدني مما يتعارض مع الشريعة التي ترى في الإسلام نظام حياة وحكم في آن معًا، مما يعني أن دستور الدولة يجب أن يستند إلى القرآن والسنة، وليس إلى القوانين المدنية.
ويمكن إيجاز قضايا الخلاف حول العلمانية بين التيار الإصلاحي والتيارات الرافضة للإصلاح في الإسلام، وإن بشكل من التعسف، في القضايا التالية، علمًا أن أوراق أخرى لهذا المؤتمر يفترض أن تعالج هذا الموضوع:
القضية الأولى: قضية الحاكمية: بدءًا بالسؤال إذا كان من يمثل الله على الأرض هو الخليفة، أم الأمة، وليس انتهاءًا بالسؤال عما إذاكان الحاكم مفوضًا من الله وبالتالي هو ليس بحاجة إلى أن ينتخب من الأمة، أو أنه مفوض من الأمة بوصفها خليفة الله على الأرض وبالتالي يجب أن يخضع للانتخاب والمساءلة والمراقبة والمحاسبة من قبل الأمة.
يؤدي الفهم الأول (الحاكم مفوض من الله ولا حاجة لانتخابه) إلى نشوء دولة ثيوقراطية، أما الفهم الثاني فيؤدي إلى نشوء دولة مدنية يخضع فيها الحاكم لسلطة الأمة وليس العكس.
القضية الثانية: قضية المواطنة: بدءًا بسؤال المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في حقوق وواجبات المواطنة مقابل قضية “أهل الذمة”، وكذلك سؤال حقوق المرأة المتساوية مع الرجل بما فيها زواجها من غير المسلم وقضايا القصاص وتعدد الزوجات وحقها في السفر بدون محرم والقوامة للرجل عليها، وحقوقها في الإرث، والترشح للرئاسة، والعمل في القضاء، والعصمة والطلاق والعمل في كافة المجالات وغيرها من القضايا الحقوقية، والتي تضع الإجابات عليها غير المسلمين والنساء في موضع المواطنة المتساوية أو في موضع الرعاية من قبل المسلمين الذكور، المتمتعين لوحدهم بالمواطنة.
القضية الثالثة: قضية الديمقراطية: مما يشمل أسئلة الشورى وعلاقتها بالانتخابات، وحق الترشح لغير المسلمين وللنساء للمناصب العليا في الدولة، وقضية فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية أم جمعها معًا، وقضية مدى التعددية الحزبية المتاحة في الدولة، وقضية تداول السلطة، وطبيعة المنهاج التعليمي والمضامين التي يحتويها، وقضية حقوق الأقليات السياسية والدينية، وقضية القانون المدني والقانون الشرعي بما فيه قانون الأحوال الشخصية. (راجع: سالم 2004، سالم 2008، والجابري 1996).
وتمثل محاولات وإجابات التيار الإسلامي الإصلاحي توفيقًا بدرجات متفاوتة تختلف حسب كل كاتب مع العلمانية، سيما وأنها تقبل الدولة المدنية التي تكون الأمة فيها مرجعية للحاكم، وتكون المواطنة فيها متساوية (مع وجود ضباب كثيف لا زال يلف مواقف غالبية الإسلاميين، لاسيما بالنسبة لقضايا حقوق المرأة وحق غير المسلم بالترشيح للرئاسة) كما وتتبع الأطر والممارسات الديمقراطية.
والجدير بالذكر أن النقاش بين هذين التيارين يعود إلى العهد العباسي حيث قال الشيعة آنذاك بأن الإمامة واجبة واعتبر السنة أنها واجبة ولكن يجب اختيارها إن لم يكن انتخابها، فيما قال المعتزلة بأنها ليست واجبة ويجب اختيارها (الجابري، 1996).
لعل محاولات كهذه، لطرح العلمانية بما لا يتناقض مع الدين، تكتسب أهميتها من أنها محاولات لتأصيل العلمانية في المجتمعات المحلية الدينية، ومقدمات لفتح حوار مع هذه المجموعات الدينية، هذا ناهيك عن أنها تساعد على فتح الباب أمام تجاوز رفض العلمانية بسبب التباسات هي:
- أولاً: أن العلمانية ذات منشأ أوروبي استعماري ولا أصول لها في الفكر المحلي.
- ثانياً: أن العلمانية هي ضد الدولة، كما برز في تجربة كمال أتاتورك الذي أنهى الدولة الإسلامية العثمانية.
- ثالثاً: أن العلمانية تدعو للإلحاد وهي ضد الدين برمته.
ومقابل ذلك تفتح هذه المحاولات الباب أمام إمكانية الحوار بأن العلمانية، كمؤسسة لدولة محايدة تجاه عقائد مواطنيها، هي ما يسمح للدين أن ينمو ويزدهر بدون قمع أو تنكيل، وذلك بعكس الدولة التي تتبنى الدين والشريعة الإسلامية فيما تقمع مواطنيها والمجموعات الدينية وغير الدينية العاملة في صفوفهم.
وعليه يمكن الاستخلاص في هذا البند أن منشأ العلمانية يعود إلى الزمن الحديث، وليس إلى الأزمان الغابرة، أما تأصيلها في كل بلد فله أن يسعى لإنجاز ذلك بالاعتماد على أمثلة تاريخية ونصوص واقتباسات من الدين السائد تبين عدم التناقض بين العلمانية وبين هذا الدين السائد.
إلا أن سؤالاً يبقى مرتسمًا بعد ذلك: هل كان نشوء العلمانية نشوءًا أوروبيًا فقط، وهل يعبر ذلك عن مركزانية أوروبية؟
رابعًا: نماذج أوروبية وأخرى غير أوروبية للعلمانية
لم تنشأ النماذج العلمانية في أوروبا فقط، بل هي منتشرة في مختلف أرجاء الأرض، ويمكن تقسيم هذه النماذج إلى أربعة، هي: نموذج الفصل بين الدين والدولة، نموذج الكنيسة (الدين) المعتمد/ة، نموذج المجتمعات المحلية المعترف بها (ويسميه ألفرد ستيبان أيضًا بنموذج: التكليف الإيجابي، ستبيان 2009)، ونموذج الاحترام المتساوي للديانات (كما يسميه أيضًا ألفرد ستيبان).
1. نموذج الفصل بين الدين والدولة Separation Model:
في هذا النموذج لا تتبنى الدولة دينًا معنيًا، كما تقدم الدعم المالي للمؤسسات الدينية، ولا تعاقب مواطنيها بسبب معتقداتهم سواء أكانت دينية أو غير دينية. ويتميز هذا النموذج أيضًا بعدم مشاركة الرسميين في نشاطات دينية علنية أو سرية، والزواج هنا هو زواج مدني، وكذلك التعليم وكل من أراد الحصول على التعليم الديني فله أن يحصل على ذلك من قبل مدارس خاصة فقط، ولا صلاة في المدارس الحكومية، كما لا توضع الرموز الدينية على المؤسسات الحكومية.
ومن دول العالم التي تتبنى هذا النموذج: فرنسا، والولايات المتحدة، وتركيا. على أن تطبيقه يتخذ أشكالاً مختلفة بين هذه الدول الثلاث بين: شكل فرنسي يركز على حرية الدولة من تدخل الدين، وشكل أمريكي معاكس يركز على حرية الدين من تدخل الدولة، أما الشكل التركي ففيه بعض الجوانب التدخلية من قبل الدولة في شؤون الدين.
في فرنسا جاء قانون عام 1905 ليعاقب الكنيسة على وقوفها ضد الجمهورية، لذا أقصاها من التدخل في شؤون الدولة. وجاءت اللمارسة الفرنسية للعلمانية دافعة باتجاه إخراج الرموز الدينية من الحيز العام، وذلك عبر قرار منع ارتداء الرموز الدينية في المؤسسات الرسمية قبل سنوات، مع بقاء السماح بارتدائها خارج المؤسسات الرسمية. وتشهد فرنسا حاليًا نقاشًا حامي الوطيس حول المدى الذي يمكن أن يتاح فيه للدين أن يلعب دورًا في الحيز العام. وفي إطار ذلك دعا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في خطابين له في كل من الفاتيكان والرياض في شباط 2008، إلى “الجمع بين الجذور المسيحية لفرنسا مع الدفاع عن العلمانية في نفس الوقت”، وسمى ذلك “بالعلمانية الإيجابية”، مما يشكل خروجًا عن قانون عام 1905 الذي تحدث عن العلمانية والإقصاء الكامل للدين من الحيز العام. ويسمي ألفرد ستيبان هذا النموذج الفرنسي بالنموذج “العدواني” لحرية الدولة من تدخل الدين في شؤونها (ستيبان، 2009)، ولا يغير من هذه العدوانية اعتزاز ساركوزي بالماضي المسيحي لفرنسا، فيما يستمر في خطابه ذاته في التأكيد على رفض أي تدخل للدين في شؤون إدارة الدولة.
أما الولايات المتحدة فقد ركزت قوانينها على حرية ازدهار الأديان وحريتها الكاملة بعيدًا عن تدخل الدولة في شؤونها وقمعها أو تقييدها كما هو الحال في مثال تقييد ارتداء الرموز الدينية في فرنسا. وعلى عكس فرنسا أيضًا فإن الإدارة الإمريكية تعترف بالدين لا كدين الدولة، بل “كدين مدني للشعب”، وبوصفه هذا فإنه (أي الدين) يستعمل لدى أداء القسم وفي الاحتفالات الرسمية، وكذلك كتب على الدولار الأمريكي In God we trust.
وتمثل تركيا توجهًا ثالثًا بين ألفرد ستيبان (ستيبان، 2009) أنه يختلف عن النموذج الفرنسي في ستة مجالات تتمثل في أن دائرة الشؤون الدينية في تركيا تكتب خطب الجمعة، وتراقب المساجد، وتصادق على تعيين أئمتها وعامليها، كما أن الدائرة لا تعترف بالعلوية والصوفية وتمنع هاتين الطريقتين من أداء شعائرهما الدينية في الأماكن العامة، ولا يسمح في تركيا لخريجي مدارس إمام-خطيب من الالتحاق بالجامعات التركية فيما عدا مادة “الثيولوجيا”، ويمنع تدريس القرآن لمن هم أقل من 12 عامًا، كما لاتعترف تركيا بحق الأقليات غير المسلمة في إنشاء جمعيات وبناء معابد.
أي أن تركيا تماثل فرنسا في فرضها قيودًا على دين الأغلبية، ولكن هذه القيود تتجاوز مجرد منع ارتداء الرموز الدينية إلى قيود أكبر من ذلك. كما أن تركيا تمنع النشاطات الدينية العامة للأقليات الدينية المسلمة وغير المسلمة.
يتبين مما سبق أن النموذج الأمريكي هو نموذج للفصل النسبي وغير المطلق بين الدين والدولة، فيما فرنسا هي نموذج للفصل المطلق، وكذلك تركيا مع قيام الآخيرتين بإجراءات متفاوتة للحد من حرية الأديان ونشاطاتها في الحيز العام. ولم يغير استلام حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية للحكم في تركيا في السنوات الآخيرة كثيرًا من هذه الصورة المرسومة أعلاه.
وتتفق من الدول العربية كل من موريتانيا والجزائر مع هذا النموذج حيث تشير دساتيرها إلى أن “الشعب هو مصدر السلطات”، فيما لا يشير دستورا المغرب وليبيا لموضوع العلاقة بين الدين والدولة بتاتًا.
2. نموذج الكنيسة (الدين) المعتمد/ة:
في ظل هذا النموذج تعتمد الدولة دينًا معينًا كدين رسمي، وبالتالي لا فصل بين الدين والدولة في هذا النموذج كما هو حال النموذج السابق. ولكن في المقابل لا يلعب الدين المعتمد في هذا النموذج دورًا مركزيًا وإنما دورًا رمزيًا في عمل الدولة، فيما يكون هنالك تسامح كامل مع الأديان والمعتقدات الأخرى على قاعدة المساواة في الحرية بين جميع مواطني ومواطنات الدولة.
والمثال الأكبر لهذا النموذج هو بريطانيا، حيث الملكة هي رسميًا رئيسة الكنيسة الأنجليكانية، وتقدم الملكة على أنها المدافعة عن العقيدة، وتنسق الكنيسة الاحتفالات بالأعياد الدينية، وأساقفة الكنيسة الـ 26 أعضاء في مجلس اللوردات، ويعينون من الملكة بتنسيب من رئيس الوزراء. ويعتبر القذف ضد الأديان في بريطانيا جريمة يحارب عليها القانون، وتمارس شعائر دين الدولة في المدارس، فيما تمارس الأديان الأخرى نشاطاتها الدينية بشكل مستقل.
وتمارس العديد من الدول العربية، لاسيما تلك التي خضعت للاستعمار البريطاني سابقًا، هذا النموذج ولكن مع اختلاف جوهري، وهو أن تبني دين رسمي في الدول العربية يقترن مع قمع الحريات العامة، وتقييد نشاطات المواطنين/ات. وتختلف الدول العربية في الصيغة التي تقدمها لتبني دين رسمي، وذلك على النحو التالي:
قطر واليمن: الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
الكويت: الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيس للتشريع.
مصر: مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
فلسطين: مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع (حسب نص الدستور المقترح لدولة فلسطين) والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع (حيث نص القانون الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية)!
السودان: الشريعة الإسلامية والاجماع الوطني عبر الاستفتاء على الدستور، الأعراف هي مصادر التشريع.
السعودية: القرآن والسنة هما دستور الدولة.
لبنان: لا حكم في الموضوع، ولكن هنالك توزيع طائفي للسلطة.
ويلاحظ في هذا الإطار أن الدول العربية المغاربية تراوحت بين نموذج الفصل السابق (موريتانيا والجزائر) وبين عدم ذكر الموضوع (ليبيا والمغرب)، أما بقية الدول العربية والتي خضعت للاستعمار البريطاني: قطر واليمن والكويت ومصر وفلسطين والسودان والسعودية، فكلها تبنت نموذج الدين المعتمد البريطاني مع تفاوت بين اعتبار الشريعة هي المصدر الرئيس أو مصدر رئيس للتشريع، كما وبين اعتبار مبادئ الشريعة المصدر الرئيس، أو مصدر رئيس للتشريع، وهي نماذج أربعة مختلفة، كما وتختلف عن النموذج السعودي باعتبار القرآن والسنة هما دستور الدولة، مما يجعل السعودية دولة ثيوقراطية وليست علمانية، وذلك بعكس الدول الأخرى التي كانت خاضعة للحكم البريطاني التي هي دول علمانية بالممارسة كما يسميها رجا بهلول (رجا بهلول، 2000)، فيما تنص على تبني الشريعة الإسلامية في دساتيرها كوسيلة لاكتساب الشرعية لأنظمتها المفتقرة للشرعية الانتخابية والديمقراطية وبالتالي تبحث عن مصادر أخرى للشرعية تتلطى بها.
...