من خلال الشرح والتحليل الذي قدمناه للأخبار تبين لنا : إن دلالة آية المودة على المعنى الخاص بأهل البيت هو مجرد زعم لا يستند إلى دليل منطقي وعلمي ، وإن الأخبار التي جيء بها في هذا المجال غير صحيحة من جهتي السند والدلالة ، ولهذا لا يمكننا الإعتماد عليها في هذه المسألة ، ذلك لأن الخبر مهما علا لن يكون حاكماً أو حجةً على كتاب الله .
والأخبار التي حُكي عنها في هذا المجال لا تمثل سوى ذلك الواقع السلبي من التدافع بين السنة والشيعة ، والذي كان من لوازمه صناعة الأخبار وروايتها ونسبتها إلى النبي وأهل بيته ، من أجل التأثير النفسي والذهني على عقل السامع وضميره ، كي يستجيب لها ولا يجادل أو يحاور ، هي إذن عملية نفسية تستهدف أرباك المتلقي ودفعه للتصديق والإيمان من دون رد ونقد .
وجدنا هذا التدافع واضحاً في سردية الخبر الثالث الذي رواه إسماعيل بن عبدالخالق عن الإمام الصادق ، والذي كان يسأل فيه الإمام الصادق عن أهل البصرة وماذا يقولون في آية المودة ؟ ، فقال له : إنهم يقولون إنها في قرابة رسول الله !! ، قال : كذبوا بل هي فينا خاصةً !!! ، هذا الشكل من الحوار هو الذي قلنا عنه إنه يمثل طبيعة الواقع السيء لذلك التدافع السلبي بين السنة والشيعة ، فالحوار في الخبر لا يتحدث عن صحة المقولة من حيث موافقتها للكتاب المجيد أو لا ، بل إنه يتحدث في صيغة الكلام السياسي عن الأحقية وهذا الذي نقول عنه إنه تحميل للكتاب المجيد ما لا يحتمل .
ثم لماذا أهل البصرة بالذات ؟ ، هذا السؤال يقودنا للتعرف على طبيعة الواقع الزماني والمكاني الذي كانت تسود فيه هذه الآراء المتباينة والمتناقضة ، ففي البصرة كان هناك الحسن البصري الذي كان يمثل الرأي الأخر ، ورأيه في معنى القربى في آية المودة معروفا ، من هنا كان الرد عليه يجري في السياق المعارض له .
وقد أثبتنا في الحلقة الماضية بطلان ذلك ، من خلال القول : بان تخصيص آية المودة بأهل البيت لا دليل عليه ، وإنما هو مجرد رأي شخصي ، وهو في أحسن الأحوال : مجرد كلام سياسي ليس علمي و لا ديني ، أو قل إنه إتجاه في الفكر يميل إليه في العادة قليلي المعرفة والتحقيق .
ولكنهم مع الأسف يصنعون من هذا الإتجاه مذهباً وفكراً ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على التهاون في الحق والسكوت عنه وعدم الإستماع لصوت العقل ، وهذا السلوك اللامنطقي منتشر وسائد في الأوساط الدينية والحوزويه ، تلك الأوساط التي قلما نجد فيها من ينادي بالعقل ويتمسك به ومن يدافع عن الدليل العلمي ويعتمد عليه .
ومنذ زمن ونحن ننادي بوجوب التصحيح والإصلاح ، ومنذ زمن ونحن مع كل خطوة في هذا المجال ، وهدفنا هو إظهار الحق من خلال الإعتماد على العقل وعلى الدليل العلمي ، وكان شعارنا دائماً لا خوف على العلم لأن العلم يحيا بالنقد والرد ، فالعلم النافع هو العلم القائم على الدليل ، ولايكون الدليل دليلاً من غير التثبت منه ومن صحته ، يأتي هذا من خلال النقد والرد الموضوعيين .
· *
روى الحميري في قرب الإسناد بإسناده إلى أبي عبدالله الصادق عن آبائه إنه قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) قام رسول الله فقال : أيها الناس !! إن الله تبارك وتعالى قد فرض ليّ عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدوه ؟ قال : فلم يجبه أحد منهم ، فأنصرف فلما كان من الغد ، قام فيهم فقال مثل ذلك ، ثم قام فيهم مثل ذلك في اليوم الثالث فلم يتكلم أحد ، فقال : أيها الناس ! إنه ليس من ذهب ولا فضة ولا مطعم ولا مشرب ، قالوا : فالقه إذاً قال : إن الله تبارك وتعالى أنزل عليّ ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) فقالوا : أما هذه فنعم - نور الثقلين ج4 ص 570 الخبر رقم 59 ...
في هذه الحكايه نحن أمام جملة مسائل منها :
أولا ً : يظهر من خطاب الحكاية هذه إنها كانت في مكة وتخاطب كفار قريش ومن معهم من المشركين ، نجد هذا في طبيعة ونوع اللامبالات وعدم الإهتمام بما سيقوله الرسول لهم أو بما سيطلبه منهم حتى تكرر القول منه في ثلاثة أيام متوالية ، إلى أن قال لهم : إنه ليس من ذهب ولا فضة ولا مطعم ولا مشرب !! أجابوه هنا فقط ، وقالوا له في صفاقة وعدم تأدوب : ألقه !!! ، ومن طبيعة الجواب أو الرد منهم نفهم : إن لغة الخطاب هذه لا تصح من المؤمنين به من المهاجرين والأنصار في المدينة .
وثانياً : إن هذا الصلف وعدم الإهتمام لا يأتي في العادة من الأتباع والمؤمنين ، بل يأتي من المعاندين والمخالفين وهذا دليل مضاف يؤكد على أن الآية إنما نزلت في مكة .
وثالثاً : إن الجواب منهم لم يأت إلاّ من بعد ثلاثة أيام ومن بعد ان تأكدوا إنه ليس طلباً مادياً ، وهذا ينسجم مع طبيعة وروح كفار قريش ، ونفس الجواب أو قل نفس الطبيعة في التراخي وعدم الإهتمام ، كانت حاظرة من كفار قريش حينما دعاهم للإيمان بالله كما في قوله تعالى : - وأنذر عشيرتك الأقربين - فقال أبو لهب وهو منهم : إنما هو رجل مسحور ، ولم يجيبوه حتى كان من اليوم التالي ، أنظر تفسير قوله ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) في مجمع البيان تفسير سورة الشعراء الآية 214 - ..
ورابعاً : ثم إنهم كما قلنا لم يجيبوه إلاّ من بعد ماعلموا إنه لا يطلب في ذلك أجراً ، ولعل سورة الطور أشارة إلى هذا المعنى بقوله : - أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون - الطور 40 ..
وخامساً : في آية المودة كان الكلام مع كفار قريش حول مفهوم الأجر على الرسالة ، ولهذا قال لهم إني لا أطلب مالاً بل أدعوكم للإيمان بهذه الرسالة وبمراعاة حق القرابة بيننا .
ولكن المثير إنه جاء في ذيل الرواية هذه ، إن الإمام الصادق قال : - فوالله ما وفى بها إلاّ سبعة نفر : سلمان وابوذر وعمار والمقداد بن الأسود الكندي وجابر بن عبدالله الأنصاري ومولى لرسول الله يُقال له الثبت وزيد بن الأرقم -
وظاهر الضمير في لفظ - بها - يعود على الآية ، أي لم يؤمن بهذه الآية إلاّ سبعة نفر ، ولو أفترضنا صحة هذا القول فيعني ذلك : إنه لم يؤمن بهذه الآية إلاّ سبعة نفر من مجموع الأصحاب والتابعين !!!! ، أعني لا يوجد من المسلمين غير هؤلاء السبعة الخُلص الذين أمنوا بهذه الآية وعملوا بها !! ، وهذا كلام غير منطقي وغير معقول ومخالف لصريح الكتاب المجيد ولواقع الحال ، ذلك لأن في جيش الصحابة الكثير والكثير جدا كانوا من المخلصين المؤمنين والقريبين من أهل البيت : كسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وسعد بن معاذ ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وابوسعيد الخدري وغيرهم وغيرهم الكثير الكثير ، من هنا لا يستقيم القول : إنه لم يؤمن بهذه الآية ولم يعمل بمضمونها إلاّ هؤلاء السبعة ، من بين هذا الجيش العظيم من الصحابة والتابعين ، وبما إن هذا القول غريب ، فالظن الغالب عندي : إنه مجرد زيادة لا حقه جيء بها للتكملة من غير لزوم ولا ضرورة ، ولذلك فهي زيادة باطلة ومخلة وهي سبب في نقض هذه الرواية وإخراجها من الإعتبار ..
وفي الختام : لابد من التنويه والتذكير بان هذا البحث ليس سوى قراءة في الكتاب المجيد ، جئنا بها لتثبيت حق أهل البيت المنطقي والواقعي وليس الإتراضي والظني الحق الصحيح الصادق ، ولذلك نحن من ينشر ويروج لذلك الخبر المتواتر الصحيح والذي قال فيه النبي : - مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق - وهذا الخبر بكل وضوح يدعوا للركوب في هذه السفينة واللحاق بها ففيها النجاة من بحر الفتن والفوضى والفساد والإنحراف ...