هناك حاجة تدعوني للحديث عن الوطن وعن المفهوم الجديد لمعنى الوطنية ، وهي حاجة منبثقة من روح التغيير الذي يعيشه الوطن العربي في الإجتماعي والثقافي والسياسي والإقتصادي وفي هذا الحراك الشعبي ،
وهو تغيير وتغيّر في طبيعة المعرفة العامة لدى قطاعات واسعة من الشعب عن نوع السياسة الواجب إتباعها وكذا نوع الإقتصاد الواجب شياعه ، نعم إن الذين أُتيح لهم التحدث أو تحدثوا بالفعل عن الوطن أو بإسمه تحدثوا بصيغة مغايرة وبعبارات لا تخلوا من غموض وضبابية ، وهنا أُشير للجديد من الحكام وللجديد من المعارضين الدينيين أو الإسلامويين الذين خلطوا بين المفهوم الأممي للدين وبين المفهوم القطري للوطن هذا الخلط الفاقد للمبررات في لحظتنا التاريخية هذه يسوقونه كتعريف للوطن وللوطنية ، وجُل هؤلاء من الجيل الثالث من لا يملك رصيد معرفي يؤهله ليكون متحدثاً في هذا المجال ، لذا تزداد الهواجس ويزداد الحرص منا على المستقبل وعلى الطبيعة التي سيُحكم بها الأفراد والتجمعات والأقليات ، وثمة شيءٌ لا أعرفه أنا في تعريفهم لمعنى الوطن حسب المفهوم الديني فالمقوله السائدة : تقول إن الدين لا يعترف بالقطرية !! ولا يعترف بالحدود !! وبالتالي فهو يُلغي الوطن في أذهاننا وبما تعلمناه كمحدد جغرافي ذي طبيعة و حدود معينة ، وهنا تكمن المُعضلة فالدينيين إذن لايعترفون بالوطن كأطار يُعرف شعب أو أمة معينة ذات ملامح وصفات مشتركة ، و هم لا يعترفون كذلك بالقيادة الوطنية المنبثقة من الجغرافيا والحدود المعينة ، وكلامهم في ذلك دائماً عن الخلافة وعن الإمامة كمثل واجب الإحتذاء والتقليد ، وهذه الإشكالية هي التي جعلتني أتحدث اليوم عن الوطن الجديد كيف نعرفه ؟ وكيف نتعرف عليه ؟ وكيف ننتمي ولمن ننتمي ؟ .
ولكني أجد بعض المتنطعين وأنصاف القراء من يحاجج في أشياء بعيدة كمسألة العولمة أو القرية العالمية الجديدة ، وهي محاججة قد تصح في البعد السياسي وقد في البعد الإقتصادي ، نعم وربما تصح كذلك في الجانب الثقافي وفي مفهوم التلاقح الفكري تحقيقاً للمصالح المشتركة والتعاون بين الأمم ، ولكن هذه المحاججة لاتصح في معنى الهوية الوطنية ومعنى الإنتماء الوطني الذي نحن بصدده والكلام عنه ، قد يقولون : إن العالم في شكله القديم قد تغير وهناك عالم جديد ينبني مكانه في الأذهان وفي الثقافة يُلغي المعنى القديم لمفهوم الوطن ، كلامهم هذا صحيح حين يكون على المفهوم القديم للوطنية الذي لم يفد الشعوب العربية لا في الحرب ولا في السلام ، ولم ينفع بشيء غير إنه سخر البلاد والعباد لخدمة المغامرين والمقامرين من العساكر والمستخدمين ، و هو كلام صحيح كذلك إن نظرنا إليه في سياقه وسباقه الموضوعي أو من حيث وجهة وطبيعة الأنظمة التي سادة وتحكمت في البلاد العربية ، وهو صحيح كذلك في المناكفة الإقتضائية وفي الجدل الذي تخوضه قوى السلطة ضد خصومها ، لكن هذه الصحة تتبدد مع الواقع وحقايقه إذ إن الخروقات في جسد الوطن تأتي دائماً من داخل هؤلاء المروجين والمطلبين .
فالوطن الجديد كما نفهمه ونعمل من أجله ، يجب ان يكون المعبر عن إرادة المواطن في العيش وفي الكرامة ، والوطن هنا ليس صيغة إفتراضية بل هو مؤوسسة إجتماعية يكون فيها الكل سواء وشركاء في الفعل وفي تقرير المصير وفي إنتخاب ماهو صالح ومفيد ونافع ، إذن فهو شركة عاملة ومساهمة مهمتها رعاية المواطن وتحقيق مصالحه وحاجاته وحقوقه العامة ، لهذا يجب أن يتبدل مفهومنا عن الوطن تبعاً لتغير ملامحه في ثقافة الناس ووعيهم ، فالمواطن أساس الوطن الجديد وهو غايته وسر وجوده الذي يعيش فيه الجميع من غير تفاوت أو تبعيض ، والشراكة فيه تعني تحقيق تطلعات المواطن وإستشارته في كل قضاياه ، ولا يجوز التحدث عنه من دون إرادته أو إختياره ، و الحراك الشعبي يهدف إلى تحقيق هذه الغاية تحقيق الديمقراطية في المؤوسسة العامة وفي الشركة العاملة ذلك لأن بها يتم تحقيق الرغبة أو الحلم ، ومن خلالها يمكن ان يكون الوطن عنواناً يمكن تعريفه وتلمسه ووضع اليد عليه ، لأن الفاعل فيه هو المواطن وليس السلطة ولا الفئة الحاكمة قومية كانت أو دينية ، المواطن الإنسان من دون النظر إلى مايُقدم ليكون فاعلاً ومنتجاً وحريصاً ، هذا هو الوطن الجديد الذي نفهمه وهو الممكن الذي نستطيع العيش به والدفاع عنه طوعاً وحباً لا كرهاً ودفعاً